محمد نفاع لغير العدل لا ينصاع



من هنا نبدأ، ولكي لا نحرث في البحر، مع الاعتذار للكاتب المصري المفكر، خالد محمد خالد، وقبل المجموعة غير الكاملة لقصص ابي هشام (محمد نفاع)، لدينا محطات اولية مع مجموعاته القصصية: الاصيلة 1973، ودية 1978، ريح الشمال 1979، كوشان 1980، والمجلد الخاص لمؤلفات القاص، الذي اصدره المجلس المحلي في بيت جن، برئاسة المحامي يوسف قبلان.
ما كاد يفتح عينيه ويكحلهما بشموخ جبل الجرمق، والا بكابوس التجنيد الاجباري المفروض عنوة على ابناء الطائفة العربية الدرزية، يتراءى امام ناظريه، لذا من هنا بدأ التحدي والرفض للتجنيد المفروض، حتى لو ادى الامر الى دخول السجن العسكري الجائر. وعلى الجذور تنمو الشجرية الابناء فيما بعد يتمسكون بموقف الاب الأبي الشامخ، فقد رفضوا الخدمة جميعا، وكانت السيدة "ام هشام" ام الابناء تتصدى لكلاب الشرطة الذين يحاولون تجنيد الابناء، واذا بهذه المرأة الابية، تصبح قدوة ومشعلا ومنارا لمئات الامهات اللوات رفضن وترفضن هذا العبء الثقيل المرفوض وطنيا، قوميا، امميا، اخلاقيا، انسانيا ومبدئيا.
الاحتراف الحزبي في الحزب الشيوعي الاسرائيلي زاده انتماءا وشموخا وعنادا لقول كلمة حق تقال امام سلطان جائر، وتبدأ عملية التذويت في الشبيبة الشيوعية وصحف الحزب: الاتحاد سنديانتنا، الغد مستقبلنا الجديد طريقنا والدرب دربنا، رغم توقف هذه المجلات آنيا على امل العودة بحلة جديدة. ثم يتبوأ اعلى المناصب القيادية في الحزب، عضو كنيست بين عامي 1990 – 1992 ثم سكرتيرا عاما للحزب لأكثر من دورة ولا يزال.
عن كنوز وخبايا لغتنا العربية في قاموس ابي هشام حدّث ولا حرج، فهو يعرف من اين تؤكل الكتف ومن اية مراجع ومصادر يروي عطاشه وعطاش قرائه، هذا ناهيك عن المقالات السياسية والتحليلات الاخبارية وزيارات العمل الميدانية الحزبية في الداخل والخارج، لا ينسى نشاطات لجنة المبادرة العربية الدرزية، لا سيما وهو من الرعيل الاول الذي وضع اللمسات، واللبنات الاساس في مداميكها الاولى.
رغم هذه الاشغال والاعمال، لم ينس الاسرة، المصغرة والكبرى، لم ينسى القرية ودروبها الترابية بمساربها وعيونها ومعالمها، مشيا على الاقدام متحديا عهر الخضر الشقر الذين لا يمتون الى الطبيعة بأية رابطة حقة.

 


مشيا على الاقدام الى ارض الخيط في الحولة والوقوف عن كثب على هذا المرج المصادرة عنوة رغم وطأة التجنيد الاجباري الممجوج، ليقف على اطلال مرج الغزلان هناك. خيبة امله من المؤامرات الداخلية في الحزب احيانا، لم تجعله يستسلم او ييأس، وان كانت هذه قد تركت بعض الندب والجروح التي سرعان ما اندملت، فالهم هو الدرب، المصير، الاممية، العقيدة والطبقة العاملة. لا فرق بين محمد ومحمد، ومحمد يملك ومحمد لا يملك!! فهو ما كان انتهازيا وصوليا نفعيا او ذرائعيا.
معارك الزابود عام 1978 وعام 1997 زادته اعتزازا وفخرا بابناء قريته المتصدين الشامخين امام جرافات وجنود قوات الامن الاسرائيلية وزعانفها الاخطبوطية الخضراء. ابو هشام وام هشام النصف الآخر، اسرة مثالية، اممية، طبقية، مضيافة من "حواضر البيت" من طين بلادك حط ع خدادك. زاد قروي ذو نكهة جنادوية محببة، وعقبى محلية للتحلية تين غزالي وبقراطي وفي الشتاء "القطين" ناهيك عن حبات البطم اللؤلؤة الزرقاء، مع التوابل و"القراقيش" التي كادت ان تصبح في خبر كان.

 

* كاتب اصيل

ابطال قصصه من واقعه القروي الاصيل، لا يستعمل الدخيل، الحجر مطرحو قنطار، يوظف اللغة المحكية واللهجة القروية احسن توظيف، لا يردعه رادع من ناقد متصيد او آخر لا في العير ولا في النفير. هاكم وقفات قصيرة مع ابطاله الميامين: من يوم ما سمعتو ينجر ع الشبابة في حلقة الدبكة، يردد الالحان الحزينة، كأنها طالعة من قلبو قالت:
- المسألة مش خلا
- مالو ع طريق العين سري مري مثل المخضّر... إن مرقت ع الدورة وراها، وان طلعت ع القدومة متزلمها
- ليش الحكي ع الدورة والقدومة؟ العبدة اللي مكلمتكو، مسكتهم مسك اليد تحت الشقيف اللي مرفرف، مع بعض، يعني كانوا يصلوا ركعتين!! الكمالة عندكو، والله يسبل سترو ع جميع خلقو!
في موسم البقول ها هو يقول: الله يديمها نعمة ما منستاهلها: نوكل خبيزة، علت، دردار، قرصعنة، شومر، عكوب، وبعضهم يأكل نبات اللوف الحاد، والبعض الآخر يستنكر هذا العمل، فهذا النبات شبيه بالملعون ابليس، ولذلك سموه (... العبد) حاشا من الطاري!
وثمة نقلة الى اجواء تهكمية على الكثير من الشكليات وغير اللزوميات في حوار خفيف الظل ينطوي على كثير من النقد البناء للقيل والقال في اجوائنا القروية:
- جابت الحمارة خالتي ام حسين!
- يلا انصرف يلعن اللي مربينك!
- روح روح تفرج جابت حمارة ام حسين!
- انقلع من وجهي بيتي بيت رجال وما يظلل الانذال، مشروبنا من نبع العاصي ومشروبك من الرعن والطعاسي! روح ضب يمامة!! فضحها ابن ام بداديق، ارميها في هوتة الجرمق.
- مالك خيا ساكت!
- قدمي ما في شي، قدّوم يتحرك!
في قصة حتى لا يموت الطفل تقول المرأة:
- انا لاجئة، - ضيعي بلا حليب واُم بلا قوت! ماذا لو اراد احد ان يقتله! سأمزقه بأنيابي، وآكل من لحمه وجبة دسمة لذيذة.
دبّت الحرارة في اوصالي كالأفعى التي تدفى، وبأصرار رحت اقضم ورق السنديان الشائك الجاف، طعمو مر، اكلت اوراق اللوف وعنب الحية! المهم ان يعيش الطفل، رغم كل شيء يقف في طريقه، سيتعلم كيف يدافع عن ارضنا وبيوتنا وعيون الماء!
ثم تخاطب ثديها:
- انتفخ ايها الثدي المستسلم كالنذل، المنقبض كالحلزونة، فالحرارة تدب في عروقي وأشعر بأني اقوى شيء في الوجود!
كان الطفل احس بهذا التحول وبلذة الوضع الجديد، فأصبح عصبيا متجهما ينصت الى الكلمات، وراح يرضع بكبرياء، حليب العزم والاصرار والسنديان!

 

* نفح الغوردة

نكهة قصص محمد نفاع القروية، كالخبز الساخن مع الزيت والزعتر ومتبّل البطم، تبقى تعبق بشذى وسحر طبيعة قرانا العربية الفلسطينية الرازحة والنازحة التي ما زال صبارها، عنبها، لوزها وجوزها يشهد على الحاضرين الغائبين القابضين على وطنهم كالقابضين على الجمر.
- من زمان مصطفى حاطط عينو ع هاي الصبية، بنت حاجبها ثقيل، رزينة، بتنقّط هيبة! نسمتها راكدة.
- لأي بلا البنت الخفيفة الهطرا، كل حياتها قحقحة وتعليك حكي!
- يهيّف الرغيف ع الكارة، يفوح البخار، وتتكون البقابيش، طوشة الصاج تامة لم تقبع، رغيف غير مشلوط!
- تخبز الوحده مدّ قمح، تتعب عليه في العجين وتضع له عشر سقوات، قمح البلد بطبعو حيّيل!
- يأخذ عدد من الصبايا امكنتهن حول اوعية النحاس، يجبلن الكبّة، وقد شمّرن عن زنودهن، حتى يظهر قسم من السواعد البضة الطرية والتي تخبأت كل الوقت تحت الثياب، والآن طلعت الى النور، وقد وخطتها مشحات من الكبة المصبوغة وشلح الفلفل المدقوق الاحمر يلمع على بياض البشرة. نعم هنا يأتي عدد من الرجال، وحتى الشيوخ، الذين يحبون دائما ان يعيشوا بين الحريم في ليالي الاعراس، يتذوقون الكبة من كل لجن، نتفة منها، تكعبلها الوحدة وتقدمها سائغة شهية، توكل اصابعك وراها.
- أعملك طلمية تغمسها بزيت!
- لم يقلب مصطفى ولا صرارة!!
ويحلق ابو هشام في تشبيهاته وايحاءاته القروية بكثير من الثورية والبديع والمعاني البلاغية:
- قولي لمصطفى زرعنا عليه مخضر، يحميه من الاذى، بيتنا مرصود، وكرمنا قبل ما يلوّح عنبو ويرزق عليه نواطير!
- رفع الشيخ راسو من تحت الغطا ونظر الى زوجته بتودد ككلب الماعز الذي يترنم على صوت ناي الراعي الطيب الشفوق بعد وجبة الطعام.
- كان الناطور في بلدنا ختيارا مشعمطا له لحية عتيقة... فظلت كشِلل الذرة الصفرا المقحمشة... وعمامته اختارت، خير الامور الوسط، فلاهي بيضاء قاصرة من الغسيل ولا هي ملبدة تنقط وسخا..
- غماد القمح تلقحه متراصة في صفوف وطوابير منتظمة برؤوسها الى الشرق والارض المحصودة تبدو فرحة منشرحة، وقد تعرّت هكذا بدون خجل!
لن ينسى كارثة التجنيد الاجباري وما يرافقها من ضحايا الحروب والقتل العشوائي المشبوهة داخل الجيش الاسرائيلي.
سير يا نجاب وارمح
 حالة الفقيد واشرح
بين اهلي والقرايب
 صرتُ من الدار غايب
بين اهلي ما بقى لي
 غير هذا اليوم مطرح
ولازمة اخرى من الندب عل ضحايانا:
من حمام الدار لا تطردوني
 لا طير واهدي ع ربوع المنازل
يابا لا تغلق الباب في وجه اللي جاكم
 ياخذ على خاطرو ويعود يسلاكم
لا تغلقوا الباب احنا رايحين نروح
 باب المحبة تسكّر وباب الجفا مفتوح
* توظيف الامثال القروية
هذا القروي البسيط، الطيب، ابن البلد، على درب السيد المسيح، اعطنا خبزنا كفاف يومنا، يغرف من بحر القرية هذا التراث الزاخر بأبعاده وتجاربه البديعة الرائعة:
- لا تتعجب للشتا في ايار، احنا زلنا الثلج عن الغمام.
- خير البشر ع اكتاف البقر.
- ترغلي يا ترغلة لا جحشك ضايع ولا امك بدها تقتلك.
- حطب المل للفرمل، حطب العبهر للأجهر، حطب السنديان للغويان.
- معلّم القرية لا يضحك للرغيف السخن.
- الفلاح يأكل الطعام من الغلوة للكلوة.
- اذا بوّر واحد ارضو من قلة خواصو صار كالمبدّق.
- كل شيء بيتخبّا الا الحبل والركوب ع الجمل!
- لقيّة الفقير خرزة اوزر.
- الفرس الاصيلة ما بيعيبها جلالها.
- كنت راعي ونشلني ذراعي.
وبعد!
دعونا نقدمها باقة ورد للكاتب القاص الخاص، نقطفها من حاكورة ابي هشام، لأننا كبخلاء الجاحظ، رخيّص وكويّس وابن ناس، دعنا نقدم لك الاصفرين، وهنا هما: القندول والشيخ، نضيف لهما زهر الذوينة، مع الليلكيين: شبرق الشجر وشبرق الجمال،نضيف لهما النردين في مطلع درجك. من طين بلادك حط ع خدادك!
سيبقى ابو هشام يصدح دير شح مع حجل وحساسين الجليل وفلسطين كافة، ليغني مع العاشقين:
لا كتب على جبين الوطن موّال
 تراب الوطن ما نبدلوا بأموال
لا تحسبوا بجرة قلم تتملكوا
 هالارض مش شروى ولا اقوال

 


(ألقيت في الامسية الثقافية التي اقامها مسرح فداء وجمعية نسيج تكريما للكاتب محمد نفاع والشاعر مالك صلالحة في بيت جن 9/7/2008)


 

نمر نمر *
الخميس 17/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع