على هامش فيلم : "السيرة والمسيرة"



تحت رعاية بلدية الناصرة ممثلة برئيسها المهندس رامز جرايسي ، وبالتعاون مع مؤسسة الأسوار للثقافة الوطنية في عكا ممثلة بمديرها يعقوب حجازي ، ومنتج الفيلم البيارة ؛ اللجنة الاجتماعية الفلسطينية – أبو ظبي ، ممثلة برئيسها عمار الكردي ، وحضور مخرج الفيلم بلال شموط (نجل المرحوم إسماعيل شموط) ، تم مساء يوم الخميس العاشر من تموز العرض الاحتفالي لفيلم "السيرة والمسيرة" في قاعة المركز الثقافي البلدي في مدينة الناصرة .

السيرة والمسيرة في يافا

يافا- إختتمت مساء الاحد، فعاليات عروض فيلم "السيرة والمسيرة" في مدينة يافا (عروس البحر) مسقط رأس الفنانة تمام الاكحل، وسط حضور جماهيري مميز من كافة الجنسيات والاعراق، للمخرج بلال شموط والذي عرض فيه رؤية جديدة لاحداث القضية الفلسطينية منذ النكبة من خلال جداريات السيرة والمسيرة للفنان الراحل اسماعيل شموط والفنانة تمام الاكحل.
وقد تمكن المخرج بلال شموط برفقة مجموعة من (البيارة) الوصول الى المنزل الذي تم منه اقتلاع عائلة والدته عام 1948، شارحا لسكان البيت الحاليين المأساة التي حصلت في ذلك البيت قبل ستين عاما، ليفاجأ أن السكان الحاليين قادمون من بولندا ولا يعرفون الكثير عن تلك المأساة، وأصروا على حضور عرض الفيلم ومجموعة من دعاة السلام، وتأثروا به حزنا على تلك المأساة الرهيبة.
ويقول بلال شموط مخرج الفيلم بأنه وبعد انهاء هذه الجولة من العروض التي بدأت في رام الله وغزة بتاريخ 3/7/2008 تحت رعاية الرئيس الفلسطيني، وانتقال العروض الى بيت لحم ونابلس وطولكرم والقدس وعكا والناصرة، تمكن من حمل رسالة والديه بأمانة في محاولة لنقلها للأجيال القادمة، منفذا وصية والده المرحوم اسماعيل شموط (كي لا ننسى)، وتقدم بالشكر الجزيل لشركائه في هذه العروض (البيارة)، وكافة الجهات التي ساهمت في تنظيم العروض في فلسطين.

وقد حضر العرض جمهور غفير من المهتمين من أهل الناصرة والقرى المجاورة .
  يُمكن تصنيف الفيلم في خانة الأفلام التسجيلية التوثيقية . فهو يروي حكاية الفنانيْن الفلسطينيين المبدعين : الفنان الراحل إسماعيل شموط ابن مدينة اللد سابقا ، وزوجته ورفيقة دربه الفنانة تمام الأكحل (العمر كله) ابنة مدينة يافا أيضا سابقا ، وتجربتهما مع النكبة منذ وقوعها إلى اليوم . 
  لأكثر من ساعة ونصف راح الفيلم يحكي للأجيال من خلال روائع اللوحات والجداريات وكذلك تلك المَشاهِد التسجيلية الحقيقية ، بالصوت والصورة . وقد استطاع مخرج الفيلم أن يدمج بين الاثنتين ويوظفهما معاً بمهارة وذكاء لافتين . الأمر الذي مكّنه ، مع ما في ذلك من تسهيل على المُشاهد ، من الانتقال من لوحة إلى أخرى دون أن يشعر أحد بإحداث أي قفز أو تجاوز أو انقطاع ، يُمكن أن يخل بالنظام العام والتدرج في عرض الفيلم . مما ترك أبلغ الأثر في نفس المُشاهد ، إذ بقي مشدوها حابس الأنفاس لا حراك فيه ، لاسيما وهو يحلّق بين ماض راحل وحاضر معيش . وتأسرك تلك اللوحات ولاسيما الجداريات منها في غمرة المتابعة ، بما تعكسه من حركية إبداعية ، ودقة في التصوير والتعبير ، وتناسق الألوان وتنوعها ، والأهم من ذلك كله ما تستثيره فيك من أسئلة كثيرة وكبيرة . ولا تلبث حتى تمسك بتلابيبك فلا تستطيع منها فكاكاً ، لتطلعك على مَشاهد النكبة بأدق تفاصيلها : زمانها عام 1948 ، ومكانها فلسطين ، مدنها وقراها ، جموع أجيالها المشردة وهي مرعوبة مفزوعة : شيبها وشبابها ، أطفالها ونسائها ، ومواكب اللاجئين المهجّرين قسراً وقهراً وظلماً ، بعد أن طُردوا من أرضهم وديارهم وبيوتهم ، ليهيموا على وجوههم في مناكب الأرض ، يتضورون جوعا وعطشا ، لا ماء ولا غذاء ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء . مَشاهد يشيب لهولها الطفل الرضيع ، فلا تتركك إلا بعد أن تشعر بما يشعرون وتألم كما يألمون . وبين هذا وذاك ، كان صوت الفنانة الرائعة أمل مرقس يطل  من حين لآخر ، على تلك الأجواء ، ليضفي عليها ما يلائمها من ألوانها الغنائية ، فيحدث انفعالاً وتفاعلاً في نفوس الحضور يفوق كل توقع . في عمل فني متكامل يتناسب وحجم مأساة الشعب العربي الفلسطيني . وهو ما يُثبت قدرة الفنانيْن وكذلك المخرج ، على التعبير والتصوير/الرسم ما يعجز اللسان عن الوصف .
  وقد يستطرد المرء في بعض المشاهد فيتمثّل الشاعر البحتري واقفا مشدوها منبهرا أمام عظمة جداريات إيوان كسرى في المدائن ، وكان من شدة إعجابه بها وبإتقان صنعتها ودقتها ، أن ظنها للوهلة الأولى مشاهد حقيقية لا مجرد جداريات . ولكي يقطع الشك باليقين راح ، وهو بين مصدّق ومكذّب ، يتحسسها بيديه وينشد :
يغتلِي فِيهِمُ ارتيابِيَ ، حتىّ      تتقراهُمُ يَدايَ بِلمْسِ
  ويبلغ الفيلم ذروة أحداثه ومشاهده في مفارقة من أغرب ما يكون كأنها أمور لا تُصدق ! وذلك حين ينقلنا المخرج إلى أحد أصعب المشاهد وأقساها في الفيلم ، مشهد هو أقرب ما يكون إلى الصدمة المباشرة . فبعد أن يُخبرنا الفنان الراحل أنه ما كان له ولزوجته أن يُحقّقا أملهما بزيارة بيتيهما ، لولا أنهما يحملان الجنسية الأجنبية ، يظهر (حقيقة لا تمثيلاً) كل من الفنانيْن شموط واقفا أمام بيته المقفر ، بيته الذي ولد وتربى وترعرع فيه ، هذا في مدينة اللد ، وتلك في مدينة يافا ؛ مسقط الرأس . يقف كل منهما أمام بيته ، يتحسس جدرانه ، وأبوابه ، ونوافذه ، لكنه مغلق . فقد سُدّت منافذه بالطوب والإسمنت بإحكام ، ليبقى في حالة انتظار ، كأنما يرفض أن يُسكِن أحدا غريبا فيه غير أهله الحقيقيين وأصحابه الشرعيين . هذا هو الشاهد والمشهد !
  وفي حين ظهر الفنان الراحل إسماعيل شموط وهو يتمالك نفسه ويكبت دموعه متجاوزاً الجراح والندوب والدماء ، ظهرت الفنانة تمام الأكحل وهي تكفكف دموعها الحرّى إذ لم تحتمل الموقف ، وقد كانت تغالبها الدموع فغلبتها ، ولم تقو على مقاومتها ، ثم راحت تجهش بالبكاء مرة بعد أخرى ، وهي تكتوي في حرقتها ولوعتها . ومرة أخرى كان لا بد للمُشاهِد المتابع من أن يستحضر قول الشاعر المتنبي :
لكِ يا مَنازِلُ في القلوبِ مَنازِلُ    أقفرْتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ
  سوف يسجّل التاريخ الأهمية الخاصة لمثل هذا المنجز الفني ، هذا الكنز الذي لا يقدّر بثمن ، باعتباره قفزة نوعية على أكثر من مستوى . في ظل ظروف يعيشها شعبنا من أقسى وأصعب ما يكون ، لكنه متعطش إلى مثل تلك الإبداعات والنشاطات المتميزة والأصيلة ، التي تلامس نبضات قلب هذا الشعب المعذّب ، وفي الوقت نفسه تسعى إلى نشر الوعي الفردي والجمعي وتعميقه . وقد تزداد أهمية مثل تلك الأعمال الفنية أكثر وأكثر في ظل ظروف كثر فيها الخلط والتزييف والتشويه والتعمية ، بعيدا عن جادة الحق والحقيقة والصواب ، إلى كل ما هو مبتذل وهابط ، تحقيقا لغاية أسمى ، إنها الحياة غاية كل فن حقيقي وأصيل ، لأن "الفن لأجل الحياة" حياة حرة كريمة ، حتى ولو كانت تُستنبت من الصخر ، وتُنتزع من براثن القهر والظلم والمعاناة ! 
  بقي أن أقول : لقد تسنى لكاتب هذه السطور أن يزور ويتجول في بعض معارض الفن التشكيلي هنا في بلادنا وفي الخارج كذلك ، وأستطيع أن أقرر وبكل موضوعية وتجرد أن ما شاهدته من جداريات في فيلم "السيرة والمسيرة" مقارنة مع ما شاهدته في معارض أخرى ، ليس أنها تضاهيها فحسب إنما تتتفوّق عليها في أحيان كثيرة . ولسوف يأتي اليوم الذي تُنصف فيه مثل تلك الأعمال الفنية الخالدة وتنال حظها من التقييم الفني اللازم الذي تستحقه ويليق بها وبمدعيها . ما يؤكد أن الريشة التي أبدعت تلك اللوحات وتلك الجداريات ريشة فنان موهوب يتمتع بإحساس مرهف وكفاءة عالية ، إضافة إلى ذلك فهو صاحب ذائقة فنية رفيعة المستوى . وقد يكون مرد ذلك إلى أن كلا الفنانين قد تعمد في أتون النكبة وذاق على جلده وفي روحه ، صنوفاً وأنواعاً من العذاب والمعاناة ، وكان أن صهرتهما حرارة التجربة ببعديها الفني والإنساني على حد سواء .
  أخيراً لا بد من كلمة شكر لكم جميعا : مشرفين وقائمين وحضورا ، وأخص بالشكر والتقدير مخرج الفيلم إسماعيل شموط على هذا العمل الفني الرائع ، ولكل من عمل على إنجاح هذا المشروع ، كذلك كلمة شكر أيضا إلى عريف الحفل محمود ناجي نصار . لما يحمله هذا النشاط الحضاري والوطني والإنساني الرائد من دلالات . على أن يُشكّل رافعة جديدة تنضاف إلى جانب سائر الروافع التي تعمل على تحقيق حلم هذا الشعب بالقيامة والنهوض من جديد . فإلى مزيد من العطاء الإبداعي المتميز .                                         

(طرعان)

د. محمد خليل *
الأربعاء 16/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع