(عن الأمسية الثقافية التي أقيمت في المركز الجماهيري في دالية الكرمل، 30 حزيران 2008 ، احتفاء بصدور كتاب سفر على سفر للكاتب سلمان ناطور ).
أمسية الأمسيات، أمسية مُميزة ومغايرة، أمسية ٌ تألقت النجوم في سمائها، واصطفتْ واستدارتْ حول قـمر / كتاب: سفر على سفر ،للأديب والروائي سلمان ناطور ، وكانت عنوانـا مشـرقـا ونموذجـا يـُحتذى بـه. اجتمع جمهور رائع وغفير احتفاء بصدور كتاب ، وليس لتكريم شخص الكاتب الذي يرفض التكريم الشخصي ، وليس لخطابات أبدية تـُـصّوب دائمـا على ثقافتنا وتاريخنا وأفكارنا .
الكــل مهيأ ٌ ، الجمهور الرائع ، والقاعـة الفسيحة التي أ ُطفئتْ أنوارها ، لتضيئها أمل مرقس بصوتها المتفرد ، أمل مرقس صاحبة الأغنية المثــَّـقفة والمـُثـقفة والتي تحملنا أبدا ً بغنائها العذب وتسافر بعيدا ً في فضاءات لا نهائية ومن ثم تـُلقينا لنتأرجح على أفنان الروح والوجدان ولنـُردد معها أروع الأغاني التي تفيض برائحة الأزهار والزعتر والوطن .
أنا جـزء من هذه الأمسية ، سـأكون مضطربا بعض الشيء أو ربما لن أكون ، سـأقرأ ُ قصيدة " والطلقة في الظهر يافا / لا يافا " ، ولهذه القصيدة حكاية ٌ وسّـرٌ يكمن في اختياري لها ، فقد نـُـشرت في أواسـط الثمانينات في مجلـة "الجديد" ، عندما كان الروائي سلمان ناطور يـُشرف على تحريرها ، وثم سافرت هذه القصيدة لتستـقر على صفحات مجلة "فلسطين الثورة" ، وثم عادت هذه القصيدة والمجلة كهدية ثمينة يقدمها لي الصديق سلمان مشيرا إلى دور الجديد في نشر ثقافتنا وإبداعنا خارج الوطن ... وهكذا، حتى النصوص على أهوائها، يحـق ويـروق لها أن تحـزم مدادهـا وأحرفهـا وتسافر ؟!
هل يـَحّـقُ لهذه النصوص أن تسافر ؟
سـؤال يتفرع منه ألف سؤال، وسؤال الأسئلة: ما الذي يحمله الكاتب في سـفره ؟
البروفيسور ساسون سوميخ ، عميد الأدب العربي في جامعة تل أبيب ، محمولا على تصفيق الجمهور ، يصعد إلى المنصـة ، ليتحدث عن نظرية الأدب في الفصل بين الراوي والكاتب والذي يغيب في "سفر على سفر" مازجا بين المتخيل والواقعي، فيشكل عملا روائيا غير عادي، واختتم سوميخ مداخلته القيمة بما يشغل سلمان ناطور منذ سنين طويلة وهو التركيز على الذاكرة الفلسطينية وتفاصيلها ومفرداتها مؤكدا أن استحضار هذه الذاكرة لا يشكل تهديدا على الكيان اليهودي ، بل هو مهـم في توضيح صورة المعاناة الفلسطينية ليفهمها الجانب الآخر ولكي يؤدي ذلك إلى تقليص الفوارق الإنسانية .
- ما الفرق بين المكان والحدود ؟
- المكان : هو الحدود اللامتناهية لجلبة الحياة وسكونها !
- والحدود؟
- الحدود هي الحواجـز الوهمية، هي الصدى الفضي الذي لا يستطيع أن يحاصر هذه الجلبة وهذا السكون !
مقطع من حوارية عن الوطن والمنفى، والحدود والمكان، كتبتـه متأثرا بعد أن قرأتُ الكتاب، ويأتي الدكتور أمل جمال ، ليجمـل الأمسية ، بفكره الإنساني وبأسلوبه الواعي فيطرح مسائل وجودية وجوهرية حول الإنسان والمكان ، وهل المكان هو الذي يقرر الحدود أم العكس، مشيرا الى أن المكان في "ذاكرة" سلمان ناطور هو "ما كان" ، أي المكان الذي فقده الانسان الفلسطيني ؟!
الجمهور الرائع ما زال جالسـا، مستمتعا بكل حرف وكلمة، وقد ضحكتُ في سـري، لأن نظراتي قد اصطادت بين الجمهور أبني "راوي" ، الطالب في المدرسة الابتدائية . لم يتحرك ولم ينبس ببنت شـفة ،على عكس عادته ، وتذكرت ما قال لي قبل أسبوعين ( تغيبتْ مربية الصف في مدرسته ، وجاءت معلمة بديلة لها ، وعندما دخلتْ الصف ، بدأ الطلاب "بتعذيبها" ، فما كان منها إلا أن صرخت بأعلى صوتها:
• يا أولاد .. أنا في مدرسة المدير صالح إذا برمـي الإبرة بــترن .. مفهوم ! ففاجأها راوي بالسؤال : معلمتي وإذا ما كان معك إبـرة ! فضحكتْ وضحك الجميع !)
أمل مرقس لا تملك إبرة ، بل تملك صوتـا تلقيـه في القاعة فيرن صداه الفضي كاشفـا نضارة الإزهار والوطن ،أمل مرقس تعود إلى الغناء قبل أن نتابع السفر في هذه الأمسية .
ونصل المحطة الأخيرة وأقرأ مقطعا من مجموعتي الشعرية" سافر قمر الدار " :
أهرب من زنبق الدار
من شجر التوت
من جرن الأزهار
أهرب من عربدة الدمع الأحمر
وتنويحة الفم المكسور
على جسر الآهات الأصفر
أهرب .. أحمل في قلبي بيادر
يبكي مداه الأشقر
على كنار مسافر
ربما يكون مصادفة هذا التداعي، وربما يكون المكان بكل تفاصيله هاجسا في ترتيب وتكوين هذا التوارد الإنساني.
وربما .. وربما
لـي سـفري ، ولـه ســفرُهُ ولــكَ ســفرُكَ !
لي قمـري المسافرُ، وكذلك لــه ولـك قمرُك المسافرْ
ســفر ٌ على ســفرْ
والمسافــات ُ أقــلُ من خطـوة ما بين ســفر وســفر ْ
والبلادُ بلا بــلاد .
ســفر على ســفرْ
والنشيدُ صدفــاتٌ مبعثرات ٌ
ومسـاءاتُ الحنين بلا قــمرْ
سـفر على سـفرْ
نضب الرحيقُ من الحروف ، فهل تؤوبُ فراشـة ُ الحلـْم الأخير من السفر ؟!
وهل سيكتشفُ الغمامُ، أن بياضَ كآبتـه تمحوهُ حباتُ المطر ْ
سفر على سفرْ
ويأتي دور الأديب والروائي سلمان ناطور في قراءات عن الغربة الوطن والبيت والكر مل .
بدأ بلا مقدمات طويلة، بل بكلمة شكر وحب قصيرة ودافئة:
"يسعدني جدا هذا المساء، وأشكركم جميعا على حضوركم الطيب
هذا السفر هو قصة حب بيني وبين المكان وبيني وبينكم
سأتذكر دائما أنني عدت اليوم الى حلمي أو انه عاد الي
يسألني أصدقائي في المنفى: ما سر هذا العشق لبلدك، القرية الصغيرة التي لا تظهر على خريطة
لو أن أصدقائي يأتون من المنفى الان لعرفوا الجواب
شكرا جزيلا لكم"
قرأ سلمان ناطور : "ثرثرة في باريس"، و"عكوب"، و"لندن مربط خيلنا". لقد أبدع في كل نص قرأه ، وتألق وأيقظ الصمت الذي حلم في القاعة ، بإيقاع صوته الصادق، وبين قراءة وقراءة غنت أمل مرقس بلا مرافقة موسيقية فالتقى السرد الايقاعي بالغناء العذب، ليشكلا قطعة فنية راقية .
الكتاب وسلمان يستحقان أكثر من هذه الأمسية فكلاهما فرعان شـامخان لشجرة رسـّختْ جذورَهـا في عمـق ثقافتنا وفكرنا ، وسـتظل ثمارُها اليانعـة َ زادا فكريـا ً وروحانيا ً تحملـه الأجيال في تحقيق ذاتها ، وستظلُ أوراقها تــُفـيءُ علينا وتحمينـا من لظـى الذين يحاولون اغتيالَ تاريخـنا وثقافتـنــا وانتمائنا.
لقد أمر ملك الوقت أن نستريح من هذا السفر الجميل.
شكراً للأخ راسم ناطور مدير المركز الجماهيري الذي استطاع بجهوده المباركة والجبارة أن يحرك المياه الراكدة في حياتنا الثقافية في ربوع كرملنا الشامخ.
الجمهور الرائع يترك القاعة .
البرفيسور ساسون سوميخ تنتظره سيارة في الخارج ليسافر عائدا إلى تل أبيب .
الدكتور أمل جمال لا يملك الوقت كي يرتشف القهوة، مصمم على السفر.
سلمان ناطور ، يتصافح ويتبادل ورد الكلام مع الجمهور ، أين أمل مرقس ؟
وأنا خارج من المركز الجماهيري عبرتُ بسيارتي سيارة أخرى توقفتْ في الظلام ، فساورني شـك ، فعـدتُ وإذ بالفنانة أمل مرقس جالسة داخل السيارة ، ماذا حدث ؟ سألتـُها ، فأجابتْ :
- لا أعرف الطريق إلى حيفا، أنتظر مرزوق حتى يدلني على الطريق !
وافترقنا إلى لقاء .
زياد شاهين
الأحد 13/7/2008