بعد أن انتهينا من قصة العصفور الدوري وزجاج مقر الشبيبة لا بدّ أن نعرّج على نتائجها... فقد تنازعتني بتلك الفترة قوتا جذب، أولاها الشبيبة وتنس الطاولة وموسيقى وأناشيد وأغاني جوقة الطليعة، وثانيها الكشاف الإسلامي، وكان مقره خلف الجامع الأبيض من الناحية الشرقية.. مدرسة فتحي سابقا، فاستهوتني فرقة الطبول التي كان يقودها الصديق سليمان الحامد. بدأت أتردد على المقرين وكانا في حارة الجامع أو حارة دار الشيخ كما كان يعرفها أهل الناصرة في ذلك الحين. ودار الشيخ نسبة لعائلتي وليس إلى والدي المعروف بإبراهيم الشيخ في المدينة وقضائها. وحتى أنا في طفولتي كنت أكنى بهذا اللقب.. ولولا أن قدر الله ولطف لكان اسمي وليد الشيخ وغلب اللقب على الإسم وهذا دارج عند العرب... وثمة لقب آخر كاد أن يلصق بي (غاندي) وكان قد أسبغه عليّ خالي جمال التوفيق، لكن هذا اللقب كان محدودا جدا وفقط في أوساط هذا الخال، فمات ومات معه لقبي. لماذا غاندي؟ ربما لأن قرعتي كانت تشبه قرعة غاندي مخلّص الهند من الإستعمار البريطاني.
تحدثنا عن التجاذب بين النقيضين؛ الكشاف الإسلامي والشبيبة الشيوعية. أما كيف مال الميزان في حينه لإتجاه الكشّاف فلذلك قصة.
حادثة العصفور فتحت لي الطريق... بدأت أتردد على الشبيبة كما بدأت أدافع عن زجاج الشبيبة أمام أولاد الحارة. ذات يوم عيد.. كنت ارتدي بدلة جديدة، عبارة عن بنطلون قصير وجاكيت أذكر لونها القرفي. خلعت الجاكيت وعلقتها بأناقة على سُكّرة الباب وانهمكت في لعب البنغ بونغ. لاحظ حركة الجاكيت سكرتير الشبيبة وعلى ما يبدو كنت مزهوًّا بها. بعد أن أنهيت اللعب استدعاني لغرفته. بدأ بشرح الموقف الماركسي من البرجوازية وان بدلتي الجوخ هي من ملامح البرجوازية والبرجوازيين والتبرجز. لم اسمع هذه الكلمة قبلا. لم استفسر عن معناها. كانت أفكاري منصبة على البدلة وخاصة الجاكيت وكانت أول بدلة أفصّلها في حياتي. تملكني الرعب خلت أن ماركس ولينين وستالين سيهجمون علي ويجردوني من هذه الملابس وإن هذا السكرتير هو الذي سيدلّهم على دارنا.
هذا السكرتير كان في حينه ستاليني يطبّق النظرية بحذافيرها بالحديد والنار.. ينشر الأفكار- ينثر الأفكار كمن يقصقص البزر على اليمين وعلى الشمال دون دراسة الواقع... واقعي أنا ابن العاشرة. سمعت "المحاضرة" دون أن أفهم شيئا سوى أن الشيوعية تريد أن تجرّدني من طقمي هذا وتعطيه لأبناء الكادحين... أو أكثر دقّة تصادرها وتوزع علينا قمصان وبناطيل خاكي كما في مدارس تلك الأيام.. فلا عيد ولا ملابس عيد ولا مناسبات ولا ملابس مناسبات ولا ما يحزنون.
الحق أقول لكم أنني وبعد سماعي هذا الدرس هربت نزلت عن الدرج على حم بطني وفي الشارع كانت رجلاي تسبقني.
اليوم أفكر ماذا كان سيحدث لو أخذني هذا السكرتير على قد عقلي.. ولو أنه شرح لي الموضوع على الأقل بطريقة صحيحة. لو حدث ذلك لما التجأت للكشاف الإسلامي وصرت قارع طبل صغير ونافخ بوق في الاستعراضات الكشفية في عيدي الفطر والأضحى وناشط في المخيمات الكشفية المحلية والقطرية والعالمية- الكامبوري والجامبوري كما تسمّى على التوالي. ولما تعرفت على سارة ميفوراخ في ذلك الكامبوري على جبال الكرمل ولما شاهدت عش العقارب هناك والذي جمعه سمير- ولا أذكر اسم عائلته- في قبعته الكشفية كبطل من أبطال المخيم.
كثيرا ما يولد حدثٌ أحداثا. حدث واحد من الممكن أن يغيّر وجه التاريخ، أحيانا تلعب الصدفة في حياة الإنسان دورا أساسيا. فلو لم يكن درس السكرتير مرعبا لكنت التصقت بالشبيبة الشيوعية ولنتج عنى انسان آخر ولكنت بالتالي عضوا في الحزب الشيوعي... لكن لا بأس فقصة العصفور الدوري جعلتني صديقا وما زلت حتى اليوم.
تصوّروا مثلا لو أن ذلك الحجر الذي أخطأ العصفور وأصاب الزجاج وإن هذا الزجاج سقط على رأس أحد المارّة.. ماذا كان ليحدث؟ حتما سأكون مجرما في العاشرة... شعرةٌ تفصل ما بين الملهاة والمأساة.
أعتقد أن الصدفة تلعب دورا هاما في مسار حياة كل واحد أو واحدة منا. لكن يقال إعقل وتوكل والعرب قالت ذلك عن الناقة وقد تم تحريف الفعل من أعقل الناقة إلى إعقل أي كن صاحب عقل. أي أن الأصل هو أعقل الناقة- بمعنى اربطها ثم توكل على الله. وهذا يقال الآن للعاقل- للإنسان العاقل. ترى كيف تداخلت المعاني؟
والمهم أنه ليس كل مرة تسلم الجرّة. وتصوّروا مثلا لو أنني تُركت على فيّالي وأنا في سن السادسة؟ لذلك قصة.. فكيف كانت؟
وليد الفاهوم
السبت 12/7/2008