من هواياتنا الرائجة شتم الغرب وتحديدا امريكا، وعندما نقول امريكا، لا نقصد المكسيك او فنزويلا او كندا، نقصد بالتحديد الولايات المتحدة، نشتم بلذة ونتبارى في ابداع شتائم توازي اختراعا جديدا.
ولما كنا طورنا جهاز كراهية للغرب وامريكا، فمن الطبيعي ان تصبح الكراهية جدارا او حصنا امام كل شيء غربي.. فكيف يمكن لانسان مثلا، ان يتعلم من قيم واخلاق يتمتع بها عدوه اللدود؟ وحتى نحمي العزة القومية، والتوازن النفسي، قررنا ان نعلن عن تعادل مع الغرب.. نعم، انتهت المباراة التي لم تبدأ، وسجلنا نقطة لصالحنا، وانصفنا العدو بمنحنا له النقطة الاخرى. اعترفنا للغرب بتفوقه العلمي، واعترافنا هذا غير نهائي، لأن البعض يصر على ان كل علوم الغرب، ما هي الا فتات ميراثنا الذي سرقوه منا ايام كنا كما وصفنا المتنبي "يا امة يضحك من جهلها الامم".
على كل حال، اعترفنا للغرب بالفوز علميا، ولا اعرف كم هو بحاجة لهذا الاعتراف؟ وسجلنا لأنفسنا- هكذا- نصرا اخلاقيا حاسما وواضحا وبفارق هائل، ونحن ايضا- هكذا- وضعنا معايير الاخلاق، فجعلنا ستر عورة المرأة امرا يشكل 99% من منظومة الاخلاق. وما تبقى من صدق وامانة والاخلاص في العمل والنظام والنظافة واغاثة الملهوف، وغيرها من اخلاقيات "هامشية" تتنافس فيما بينها على اقتناص حصة من الـ 1% المتبقية..
والآن، جاء دور الصدمة، الصدمة التي يجب ان تحدث لمن يمشي خلف الدب.. صدمة ارتطام الرأس بالصخرة على بوابة الدب حتى تتم الصحوة وتنتهي الحكاية بالزواج والسعادة والعيش الف الف عام.
وحتى تكون الصدمة نابعة وتؤتي اكلها.. لا بد من الحرص على عنصر المفاجأة.. مع انني اشك بان القارئ سيفاجأ في هذه الحالة.. وغالبية القراء سيقولون فهمنا قصدك، انت تود ان تخبرنا بان الغرب غلبنا ايضا في الاخلاق!! تخمين القارئ في محله تماما، لكن الصدمة بان تفوق الغرب الاخلاقي علينا يفوق تفوقه علينا علميا!! بالطبع، وكما جرت العادة، فان الاتهامات ستحاصرني الآن، من تهمة الانحراف الخلقي الى تهمة كبير عملاء السي.اي.ايه في الشرق الاوسط، وقد اتبوأ مراكز في العمالة يبدعها الغاضبون من حديثي هذا، لكن، وللأمانة، اتفهم مشاعر الغاضبين، ولا اطلب منهم سوى الاصغاء الى الحقائق التي عليها بنيت هذا الحكم المؤلم والمبكي.
لنستمع الى طالبة من سخنين عاشت سنة عند عائلة امريكية وتعلمت هناك سنة في مدرسة ثانوية، تقول الطالبة على سبيل المثال، بأنه يحدث احيانا ان يخرج المراقب وقت الامتحان من الغرفة. لكن، لا يمكن ان تجد طالبا يستغل هذا الغياب للمراقب ليهمس طالبا من احد المساعدة، ويحدث ان يتغيب الطالب عن الامتحان لأمر ما، والمعلم يجري له اختبارا خاصا هو نفس الاختبار الذي كان، لكن، لا يمكن ان يطلب هذا الطالب الممتحن من احد معرفة اسئلة الامتحان من الطلاب الذين امتحنوا فيه. بمعنى، لا غش، لا اتكالية، لا هزر ولا تلك المسرحيات المخزية التي اصبحت آفة في مدارسنا، واصبح الطالب، خاصة في الثانويات، في البجروت خاصة يحقد على المعلم الذي لا يساعد" الطلاب في حل الاسئلة!! فهل هذه القيمة الاخلاقية بالفعل هامشية؟!
اما الكذب، وما ادراك ما الكذب!! فهو جريمة كبرى في الغرب وامريكا خاصة، ولا اقصد الكذب في السياسة بل على مستوى الشعب والتعامل بين الافراد، مثلا، جهاز الضرائب الامريكي يثق بكل فرد، ويصادق على تقاريره المالية، ويحسب الحصة الضريبية، بالضبط كما قدمها المواطن دون نقاش او محاكمة، لكن اذا حدث واكتشف جهاز الضريبة ان احد كذب في تقرير، يصبح هذا المواطن في خبر كان، بالعربي "مخرب بيتو"، لأنه كذب، وعندما يكذب الانسان يصبح عضوا خطيرا في المجتمع، والكذب في منظومة امثالنا "ملح الرجال".
يحدث احيانا ان تنقل الاخبار لنا عن طالب امريكي دخل المدرسة مع سلاح، ويحدث ان يكون عنف احيانا، وهذا هو الشاذ في الشاذ.. لكن، وكما اخبرني به عدة طلاب عرب تعلموا في مدارس ثانوية في امريكا، بان الطالب هناك لا يمكن ان يرفع صوته امام معلم، لا يمكن ان يحدث ضجيجا في اثناء الحصة التعليمية او في الفرص بين الحصص، ولا يمكن ان يهمل واجبا مدرسيا، ويجب ان لا ننسى بأننا نتحدث عن طلاب مراهقين، هم في الغد شعب الولايات المتحدة العالم والمتعلم، وهم على ما نشأوا سيواصلون السلوك ذاته حين يصبحون الآباء والامهات وهم عجلة العمل والانتاج والابداع.
واغاثة الملهوف التي نتغنى بها وتملأ تراثنا من شعر وحكايات، جرى الشك بأنها مجرد خرافات. يقول احمد زوبل المصري الذي حصل على جائزة نوبل في العلوم، بان المجتمع الامريكي يحب التبرع، بل يدمن التبرع والمساعدة، وهنالك مثالا بسيطا عن رجل اعمال دخل الجامعة التي عمل بها ودر شيكا بمبلغ 50 مليون دولار دون ان يطلب جزاء او شكورا. وقال، ومثل هذا الاف وملايين في امريكا، والتبرع هناك لا يتم نتيجة انتشار جماعات تنشده من الناس، بل يأتي من دوافع ذاتية وبغير انتظار من طارق باب يطلبه.
لم تطأ قدماي امريكا لأسباب كثيرة، لكن 99,99% منها تتعلق من موقف مبدئي التزم به نحو جيوبي او رصيدي في المصرف. لكن، من قال بأنني يجب ان ازور كل دول العالم حتى التعرف على الناس الذين نشاطرهم العيش على هذا الكوكب؟ وبالطبع، يبقى التعايش الفعلي مع الشعوب هو صاحب المصداقية الاولى، لهذا، اعتمدت في حديثي هذا على انطباعات ممن عاشوا الحياة والتجربة الامريكية.
ونعود على بدء، الى منظومة القيم والاخلاق.. واقول بثقة ودون تردد، البشر متفقون على قواعد الاخلاق من اصغر دين الى اكبر دين، ومن اكبر شعب عددا الى اصغر شعب، ومن بلاد الواق واق الى بلاد اللا واق واق.. والوصايا هي الوصايا، من القطب الى القطب ومن خط الطول 180 شرقا الى خط الطول 180 غربا.. ومن يبحث عن تفوق اخلاقي على الآخرين موهوم يظلل نفسه ويبيع بضاعة فاسدة لأهله وشعبه.
واذهب بعيدا في استدعاء الامثلة، لكن، اظل في نفس السياق، ما نفع فريضة الحج؟ الزيارة والتجارة فقط؟ ام الوقوف مع الذات ومراجعة كل الحسابات والبدء في مسيرة جديدة يتخلص المرء فيها من عيوب الماضي؟ ويبدأ حياة جديدة صالحة تنعكس عليه وعلى اهله وشعبه والعالم بروائح زكية وثمار طيبة؟!
واقول بكل مسؤولية انسان مارس التعليم وجعل من نفسه كاتبا، او اعتبر نفسه يكتب من اجل رسالة وطنية وقومية، اقول، ان حرصنا على تفوق ابنائنا في التعليم افقدنا نحن الكبار البوصلة، واصبح هاجسنا ان نفرح ونفاخر ونتباهى بعلامات عالية يحققها ابناؤنا، ولم يعد لدينا نحن الكبار أي خط احمر للوسائل التي تعطي ابناءنا علامات عالية.
نحن وبأيدينا نخلق او ننشئ اجيالا اتكالية، تعتمد الغش، تكذب، بعيدة عن المسؤولية، والى ما لا نهاية من صفات سيئة، وكل هذا حتى نتباهى بانجازات كاذبة، وفي نهاية المطاف، ننشئ جيلا فاقد المسؤولية، وهذا بالضبط ما يحدث في مجتمعنا العربي الذي يميل الى تدليل الابناء والانسياق خلف عواطف حمقاء، ولا يعرف ان في اللغة العربية حرفان، هما لام وألف.. "لا"..
لا يحسب احد انني واعظ ازعم النقص فيكم والكمال لي! انا فقط مجرد كاتب يزعم انه اكتشف نصف امريكا، اكتشفت الوجه الآخر لهذا التقدم العلمي الهائل، واكتشفت ان الشعوب والجماعات مثل البناء بالضبط، فهل يمكن ان ينتظر مزارع غلة وافرة ان احمل حقله او بستانه او كرمه؟ وهل يمكن لسنابل القمح ان تمتلئ حبا كاملا بسماء موعود وأدوية ستأتي في يوم ما وبكلام معسول؟
علم الغرب وتفوقه وليس ضربة حظ في يانصيب، وليس صدفة عابرة، وهذا بالضبط ما يقلقني، حضارة الغرب تنمو على منظومة اخلاق تبدأ في تربية الصغار. هؤلاء الصغار، والذين هم من جيل الى جيل هم الكبار، هم المجتمع، هم محرك الوطن، هم قواعد بناء ناطحات السحاب، هم المستقبل، الصغار هم الغد فان انت اهملت المنظومة الاخلاقية للصغار، ضيعت نفسك وأبناءك وشعبك.
سيخرج واعظ الآن، بعد ان اجهد نفسه في البحث عن آيات واحاديث تحث على اخلاقيات نفتقدها واعرفها، ليعلمني واياكم ان كل "عدة" الاخلاق جاهزة لدينا في هذه الفقرة وتلك الجملة.. نعم، كل الاخلاقيات الصحيحة موجودة في كتبنا المقدسة واللا مقدسة. لكنها غير موجودة في حياتنا، هي مجرد شعارات نطلقها، نبيعها مجانا، نوزعها ونهملها بالكامل، نختزلها جميعا بالمرأة والحجاب وما يجب ان يظهر من المرأة.
لست داعية للسير خلف الفرد بعينين معصوبتين، لكنني داعية للتعلم من الاخلاقيات التي بنى الغرب عليها هذا التفوق العلمي الهائل، فالعرب مثلا يساوون بالسكان الولايات المتحدة الامريكية، وثرواتهم النفطية اكثر بكثير من هائلة، إذًا، يجب ان نبحث عن اسباب تخلف العرب الاغنياء؟ نعم، هناك الانظمة الفاسدة، هناك الشرذمة العربية.. لكن، كل هذا لا يقنع انسانا يمارس التفكير احيانا، بان الديكتاتورية تنتج شعبا متخلفا، لأن ديكتاتورية الاتحاد السوفييتي انتجت اعظم قوة في العالم.. واعتقد بما يشبه اليقين بان المنظومة الاخلاقية التي تنمو على تربيتها الاجيال هي الرصيد لكل امّة على هذا الكوكب.
غازي ابو ريا
السبت 12/7/2008