عزيزي فاروق وادي،،، سأبدأ بعتاب هو أصلاً استياء، ولكنني أجبرته على التخفـّف من طبيعته؛ احتراماً لروائي وكاتب فلسطيني معروف بصدقه وشفافيته ونزاهته، هو أنت.
العتاب لأنك اتهمتني بشكل مباشر ودون تردّد أو تمهّل بإعدام تجارب: جبرا وغسان وإميل، وهذه والله، تهمة خطيرة وغير مفهومة، ولو كانت هناك محكمة خاصة بشؤون الأدب الأدباء؛ لرفعت عليك دعوى تشهير، وكنت حتماً سأسحبها فوراً حين أرى ابتسامتك الخجولة والـمؤدبة وأنت تؤكّد أنك لـم تقصد، وتعتذرعن سهوك عن قراءة ما بين سطوري، وما لـم يقل في مقالي، حيث إن هناك حقائق لا داعي لقولها لبداهتها، إذ كيف تتصوّر يا صديقي فاروق، أنني أجرؤ على اغتيال تجارب عمالقة الرواية الفلسطينية الثلاثة؟؟ ومن أنا حتى أفعل ذلك؟ أنا الذي تشكّلت وجدانياً وإنسانياّ ووطنياً وجمالياً تحت ظلال هؤلاء الروّاد، أكان يجب أن أقول إنني أتحدّث عمّا بعد جبرا وإميل وغسّان؟ كأنك يا صاحبي تطلب مني أن أؤكد فلسطينيتي و بشريتي البدهيتين حين أكتب؟.
أكان من الـمفروض أن أقول الـمسلّـم به والـمُجمع عليه حتى أنجوَ من رصاصك؟ وهل سأنجو فعلاً؟ فأنت سترميني بالرصاص لتهمة أخرى وهي أنني أعدمت روايات فلسطينية كثيرة لروائيين معروفين مثل: أبو شاور، ويخلف، وخليفة، وبدر، ونصر الله، وعوض، والأسطة، وصافي، والسمان، وجوهر، والتايه، وعسقلاني، وحرب، ونصار، وآخرين. أرأيت؟ لـم تكن هناك حاجة لذكر أسمائهم كاملةً؛ لأنه من البدهي أن يتم التعرف إليهم من أسماء عائلاتهم. هذا بدهي جداً. تهمتك كانت يا صديقي هي أنك أعدمت البداهة. تقول إنني كنت تعميمياً في توصيفي لحال الرواية في فلسطين، التعميم هنا مطلوب، تماماً، وشرعي حين أرنو إلى رواية مفترضة يحلـم بها قرّاؤنا وينتظرونها؛ فهم ينتظرون رواية تهز، وقد يئسوا من الرواية التي ينسونها بعد بضع ساعات، أتدري معنى كلـمة تهز؟. تعني شيئاً يشبه وقف الزمن، انهيار مسلـمات ونهوض أخرى، بداية مرحلة فنية ونهاية أخرى، تحطيم نمط وتفجير رؤية جديدة، وواقعنا مهيّأ، تماماً، لذلك، تماماً كما هزتنا (رجال في الشمس) و(السفينة) و(الـمتشائل)، أعطني رواية استطاعت أن تهز رتابة حياتنا، تدهشنا وتفرحنا إلى درجة أن نسامح من أساء إلينا، ومن خاننا؛ هذا ما حدث معي قبل أيام حين قرأت (كافكا على الشاطئ)، شيء يشبه التحلّل من الشر ومن قابلية التذمّر منه، أو الذوبان في الحب، حب كل شيء، حب الغرفة وحشراتها، وحب وتفهّم حاجات ذباب زجاج مقهى موكارينا، والجارة الشريرة، مثلاً، أعطني رواية غيّرت رؤيتنا للتاريخ والوطن والحياة وأنفسنا كما فعلت رواية (البحث عن وليد مسعود) إياك أن تقول لي الآن إن القرّاء لـم يكونوا هم أنفسهم قراء اليوم، أو إن الـمرحلة التاريخية اختلفت أو إن مستوى التذوّق قد هبط؛ لأنه إذا كان كلامك هذا صحيحاً فكيف تفسّر حماس الناس العادييين الهائل والـمتلهّف إلى رواية (ذاكرة الجسد)؟. الناس القارئون العاديون هم الفيصل، وذائقتهم الصريحة والعفوية، بالـمناسبة، هي معياري في تقييم الفنون؛ لسبب واحد، وهو أنهم يقيّمون بصدق ودون حاجة إلى نفاق أو مجاملات أو خجل من أحد؛ لأنه لا علاقة شخصيةً لهم مع كتّاب الروايات.
ثم كيف أسأت سامحك الله، معنى التجارب التي أقصدها حين ذكرت أنا غياب التجارب كأحد أسباب ضعف روايتنا، لـم أكن أتحدّث عن تجارب السجن والـمنفى والحروب والثورات والرحيل والعذاب، هل هذا هو مفهومك للتجارب؟ وهل من فلسطيني لـم يجرّبها؟ جبرا لـم يتعرّض لتجربة السجن، وكان منفاه مريحاً، ومع ذلك كتب أنضر الروايات وأخلدها وأعمقها، لكن الحياة الداخلية لجبرا كانت غنيّة، كنت أتحدّث عن تجارب الحياة الداخلية والروحية والإنسانية، تجربة الجنس الـمفتوح والغريب مع الـمرأة، تجربة البحث الذهني الخارق عن معاني الحياة الأخرى، تجربة الانصهار أو الاشتباك مع فكرة الخلق، تجربة الغياب في تاريخ وأساطير الشعوب، تجربة تأمل ممكنات واحتمالات الجسد البشري، واستكناه طاقته، تجربة الـموت في الحياة، تجربة الانغماس في بطولات الحياة العادية مع الناس العاديين، الأبطال الـمجهولين، ثم كيف تتورّط في الحديث عن إمكانية الإبداع الروائي في أضيق الأماكن حتى لو كان سجناً، غريب أمرك يا صديقي؛ فالكل يعرف هذه البدهية، "ها أنت تقصف بدهية أخرى" إن الرواية تحتاج إلى مدن واسعة صاخبة معقـّدة وصناعية. أما زلت تصدّق أكذوبة رواية القرية (زينب)؟ أما زلت هناك؟. معظم هؤلاء الروائيين الـمبدعين أصدقائي، وأنا أحترم جداً تجاربهم الإبداعية وأعرف أن معجبيها بالآلاف، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنني أستمتع بقراءة معظمها، رغم أن بعضاً قليلاً منها يجبرني على الاستمتاع، لكن هذا الاستمتاع لايعني رضاي عن واقع الرواية الفلسطينية.
"هل أحتاج مرة أخرى إلى القول إنني أتحدث عمّا بعد إميل وغسان وجبرا؟ سأقولها حتى لا أتعرّض لرصاصك مرة أخرى"؛ فأنا أستمتع بالتهام الشوكالاته، وقد تـُغيّر نفسيتي الـمكتئبة عدة ساعات، لكنها لا تقوى أو تثري على الـمدى الطويل دمي وعظامي وقلبي وأعصابي، كما السمك مثلاً، أنا أحتاج إلى الرواية / السمكة، رواية تشبه سمكة، نصيدها أو تصيدنا، في بحر ثقافتنا الصعب. لكن الرواية / السمكة تحتاج إلى خبرة في الانتظارات، وفطنة في العينين، وعمق وذكاء في حركة اليدين حين تحركان الصنارة، ومهارة كبيرة وخاصة في فهم حركة الأمواج، وصبر على الخيبات وحب هائل للنوارس، وصداقة مع الرمل الـمتحرّك، تحتاج شخصاً يهب شاطئها وبحرها وضبابها ذوب روحه وعويل ليله وجنـّة سرّه. والسؤال هو: هل يمتلك روائيونا هذه الـمهارات؟ أترك الإجابة ــ وأختم بها ــ لقارئة فلسطينية لا أعرف إلاّ اسمها أرسلت لي هذه الرسالة عبر بريدي الإلكتروني رداً على مقالي (ستأتي وحدها كما الحب تماماً) الـمنشور في 24 حزيران في عمود "دفاتر الأيام":
تحية طيبة وبعد:
شكراً على مقالك في صحيفة "الأيام" عن الأدب الفلسطيني وغياب الرواية التي تحمل قارئها إلى عالـم آخر.
فإلى متى سننتظر روايات على غرار (شيكاغو) و(بيروت مدينة العالـم) و(عراقي في باريس) وتصطفل (ميريل ستريب) وغيرها ... ولكن هذه الـمرة بقلـم فلسطيني؟.
في معظم الـمرات التي أشتري فيها روايات لكتاب فلسطينيين أصاب بالإحباط، ويسقط الكتاب من يدي، فأتركه على الأرض حيث سقط، فالكتاب الذي هو غير قادر على أن يبقى في يدك لا يمكنه أن يحملك معه إلى أي مكان.
ربما مشكلة أدبائنا لا تكمن في الاحتلال أو في قصر الـمسافات بين البيت والـمقهى أو في حالة الإحباط التي نعيشها جميعاً، وإنما تكمن في نقص الوقت الذي يكرسونه للذات وروايات غيرهم من الأدباء.
على أي حال، شكراً لك، فأنت كتبت ما كنت أفكر فيه مساء أمس بعد زيارتي إحدى مكتبات رام الله.
رانية عبد الله.
zkhadasah1@gmail.com
زياد خداش
الخميس 10/7/2008