بدون طائرات وبدون دبابات وبدون أن تُطلق رصاصة واحدة يعود الاستعمار التركي، بعد تسعين عاما، ليسيطر على بلادنا فلسطين؛ يقيم في بيوتنا ويحتل صالوناتنا ويجتاح مشاعرنا. السلاح السري، وسجلوا لديكم لئلا تصادفونه وتُخدعون به، مكون من: "نور" و"مهند" و"يحيى" ولميس"، وقد حضروا بفرقتين يلبس أفرداهما ، للتمويه، آخر صرعات الأزياء؛ فرقة تطلق على نفسها "نور" والأخرى "سنوات الضياع".
الحقيقة أن المسلسلين: "سنوات الضياع" و"نور"، هما نسخة أخرى من "التيلي نيفولا" المنتجة في دول أمريكا اللاتينية، وهي مسلسلات متشابهة القصة ومتشابهة الأجواء، أجواء الغنى الفاحش والقصور الفخمة. في مثل هذه المسلسلات من الممكن التنبؤ بالأحداث من الحلقة الأولى، وفي المقابل يمكنك أن تتعرف على تفاصيل الأحداث الماضية كلها بمشاهدة الحلقة الأخيرة فقط. ومع ذلك يجب الاعتراف أن هنالك جمهورا كبيرا لهذه المسلسلات، الذي يجدها جذابة وجميلة وتشغل ساعات وساعات من أوقات فراغه.
ولكن السؤال يبقى: ما هو سر الاهتمام بهذين المسلسلين بالذات؟ وهنا، بالإضافة لتشابه المجتمعين التركي والعربي، أتفق مع تحليل الكاتب سهيل كيوان في صحيفة "كل العرب" الذي يُرجع هذا الاهتمام، وبرأيي بحق، للصورة التي تريد المرأة العربية أن ترى فيها الرجل في محيطها؛ تريده نظيفا وسيما متأنقا بثياب جيدة والأهم فهي تريده متفهما للمرأة ويتعامل معها بندية..
إضافة لذلك، فعرض هذين المسلسلين بعد أشهر من انتهاء عرض مسلسل آخر، "باب الحارة"، جعل هذين المسلسلين يحملان كل هذه الشعبية، لأنهما النقيض لرسالة "باب الحارة"، في قضية المرأة وإنسانيتها ومشاعرها ودورها في المجتمع.
مسلسل "باب الحارة"، زرع قيما رجعية في نفوس الناس، معتبرا المرأة عارا، يجب أن تحبس خلف الأبواب الموصدة، ومعتبرا الرجل سيدا بدون منازع، وشعار "جايي جايي" كان التعبير المكثف عن هذه النظرة.. بالإضافة لذلك، سادت المسلسل، نظرة الماتشو (البطولة)، التي، من طبيعتها، أن تضع كل شيء في مقياس مبسط ساذج، هل هو "سغورت وإلا مش سغورت".. وهكذا نجح المسلسل، لأن الوتر الذي لعب عليه لا يمكن أن يقاوَم بالرغم من ضحالته الفكرية.
هنالك من سيقول أن "باب الحارة" عالج ظروف وتقاليد كانت موجودة، وسيقول، وبحق، أنه ليس من واجب الكاتب تجميل الوضع.. ولكن باستطاعة الكاتب من خلال عكس الواقع، أن يقول كلمة ما ضد هذا الوضع. باب الحارة "تمتع" بهذا الواقع، أظهر جماليته، تغنى به، لم أشعر، لحظة واحدة في المسلسل، أن هنالك رفضا لهذا الواقع.
في المقابل، هنالك روايات كثيرة عالجت وضع المرأة خلف الأبواب الموصدة، ومع ذلك فقد خرجت من صفحاتها تحفا فنية في إظهار عبثية هذا الواقع، وبالضبط من خلال شخصيات هذا الواقع، وما يتبادر للذهن هنا، ثلاثية نجيب محفوظ، الذي أطلق من هذه الأجواء نماذج التمرد على هذا الوضع، ابتداء من تمرد الأخت المسجونة، حتى السخرية من "السجانين" (الرجال) الخالعين ملابسهم ووقارهم في العوامات والمواخير.
لذلك من هذا المنطلق، يمكن القول أن مسلسلي "نور" و"سنوات الضياع" هما رد كبير وجميل على ما استنزف من كرامة المرأة، وكرامتنا، في "باب الحارة"، عندما نشاهد نساء لديهن مشاعر ولديهن الحق في الحب والاختيار ويملكون بشكل ما، حريتهم الشخصية، نشعر بالارتياح بالرغم من ضحالة القصة..
عاش الاستعمار التركي.. الجميل.
عودة بشارات
الأربعاء 9/7/2008