لو أحسنت المسألة الفلسطينية الكلام لوقفت على أعلى عمارة في عاصمة عربية وهددت: "أعيدوا النظر فيّ وفي أدائكم أو رميت بنفسي"! وهو مطلب ينبغي أن يكون الفلسطينيون المعنيون الأوائل والعرب من بعدهم قد فعلوه مرات عديدة على الأقل في نهاية كل عقد من عقود النكبة وضياع فلسطين. ورغم إلحاح السؤال وكبره تستمرّ الحياة على ضحالتها وقساوتها وموتها في الأروقة الفلسطينية والعربية. فالمشهد الفلسطيني الراهن معكّر و"اللغة الفلسطينية" إما مُتعبة أو شائخة تماما، مبعثرة المفردات أو ضائعة المعنى. فهي محكومة لجملة أنماط وأنساق تكشف أن ما أردناه مرحلة انتقالية بين احتلال وتحرر إنما قد يصير مرحلة دائمة، وإن الأمل الذي فتحت شبابيكه وأطلقت سنونواته اتفاقيات أوسلو دخل في أنفاق رملية تتداعى فوق رؤوس حافريها. أما الشبان الذين يرسلون إلى حدود القطاع سرعان ما يُعادون إلى أهاليهم جثثا متشظية أو متفحمة أو... . فتزداد الأرقام علوا وتجتهد الحناجر تزيّن موتا هباء! لا نقول هذا طعنا بصدقية القضية وعدلها ولا بحق الضحية في الدفاع عن نفسها، وإنما لنؤكّد على وجوب تعديل أنماط المواجهة والممانعة والدفاع عن النفس. هذا لافتراضنا أن الاستراتيجيات التي اعتمدت لم تُفض، على الأرض في تطوير ما أنجز ولا في التأثير الجذري على المجتمع الإسرائيلي ولا على العالم.
يبدو لي أن القضية الفلسطينية أسيرة ذاتها مثلما هي أسيرة احتلال استطاع أن ينفذ إلى الشرايين ووتيرة النبض وغرفة النوم والمخيال والحلم. يبدو لي أحيانا أن هناك من لا يريد مغادرة خانة الضحية. لأن الضحوية تعني بالبديهة وجود العدل في جانبي. "فأنا المحقّ ما دمت الضحية، ومن الطبيعي أن أكون في الجانب المحقّ"! وفي الجانب الثاني من الوضعية تنتصب إسرائيل واليهود "جُناة ومجرمين تفننوا في قهري وساموني العذاب المرير!". وكلما قتلوا منا شابا أو طفلا أو شيخا، وكلما أوقفوا حاملا على الحاجز، اتضحت صورتي ضحية مقدّسة! ونحن شعب موغل في القداسة والتقديس وإنتاج الأنبياء والقداسات والأولياء على طول الأرض وعرضها! ومن منا يريد مغادرة "المقدس"؟ من منا يريد مغادرة منزلة الضحية قرب القديسين؟ أما إذا غادرنا فنحو بطولة حقيقية أو متخيّلة. وهنا، أيضا، يصير "أبطالنا"/ ضحايانا مقدسين يهيء لهم العلي ما يليق بهم! في مثل هذه الحالة من تأرجح بين ضحية مقدّسة وبين بطل مقدّس يطيب لجيل بعد جيل أن يمكث لأنه من "الطبيعي" أن يختار الواحد منّا إحدى المنزلتين! في مثل هذه الحالة تصير النضالات مقدسة وغيبية، ومفتوحة إلى يوم القيامة كأننا مبعوثو الله نحارب على جبهته ولرفعته! هذا بالتقريب ما حصل لأصحاب القضية. انتقلوا منها، من استحقاقاتها، من معاناتها اليومية إلى التطهر الإلهي! ويبدو أن ما من أحد يريد العودة من هناك إلى المعاني اليومية للاحتلال والحصار والقمع والسجون ما دام في الأمر إلوهية وقداسة وجنة!
على خط التطوّر ذاته اعتبرنا غضبنا مقدسا ونضالنا مقدسا وعنفنا مقدسا وكل ما نأتي به مقدسا في مقدّس. وهو توجّه سبق مجيء "حماس" و"الجهاد". بل كان العلمانيون هم الذين أرسوه وشادوه بدم الشباب وبعمليات عنفيه وأخرى دموية لا طائل تحتها راح ضحيتها "الفدائيون" والمدنيون من إسرائيليين أو غيرهم. "أعلت شأن" القضية على جدول الأعمال وزرعت في مساحتها بذور أشواكها الآتية.
في ضوء الحاصل الآن، ومع دخول التهدئة بين إسرائيل وحماس حيز التنفيذ، تعود الأسئلة لتطفو ولا أحد يستطيع أن يسترها أو يزيحها جانبا. وهي ثلاثة أساسية تتفرّع منها جملة أسئلة
أخرى. أولها ـ ما هي حدود المشروع السياسي الفلسطيني الآن؟ ثانيها ـ أما آن الأوان للانتقال من العنف كاستراتيجية محورية للنضال إلى الممانعة المدنية الحوارية كاستراتيجية بديلة؟ أما حان الوقت لتطرح الضحية الفلسطينية على ذاتها السؤال الأخلاقي بشأن الممنوع والمسموح والأخلاقي والمعقول حيال غير الأخلاقي وغير المعقول؟ ونشير إلى أننا لا نفترض ورود هذه الأسئلة في مساحة الصراع مع إسرائيل فحسب بل في مساحات العلاقة بالذات على مراكز قواها واستحقاقاتها. وتتمة للفرضية ذاتها، فإننا على اعتقاد أن ثمانية عقود من التجربة والوقائع القاسية تطرح هذه الأسئلة بإلحاح شديد يجعل من إغفالها على الطريقة التقليدية ضربا من الانتحار ومن رمي العصي في دواليب الجيل المقبل، أيضا.
يبدو لنا المشروع الفلسطيني الآن متعثرا في المنطقة الرمادية بعد إخفاقات أوسلو وانقلاب حماس ودخول إيران محورا إقليميا حاضرا بقوة. ولم نحظ منذ عقدين ونيّف بأي مشروع فلسطيني جديد أو أي اجتهاد من النُخب لا القومية العلمانية ولا الدينية، يكون قابلا للحياة. ومع هذا نستدرك لنشير إلى الحديث المتجدّد عن دولة ثنائية القومية من النهر إلى البحر يتقاسم فيها اليهود والفلسطينيون الحيّز والسلطة على نحو يُتفق عليه. لقد تم الانسحاب تدريجيا من خيار الدولتين إلى اتفاقيات أوسلو إلى خارطة الطريق إلى أنابوليس. وقد كان على الفلسطينيين أن يقبلوا ويناقشوا التفاصيل، أن يقولوا "نعم ولكن..."! ولا يُمكننا أن نعتبر انقلاب حماس أكثر من "لا" للتفاصيل الدقيقة. و"لا" هذه، لم ترقَ إلى مستوى مشروع بديل إلا إذا اعتبر البعض فكرة إزالة الكيان الصهيوني من الوجود ـ كما يتلهى بعض العرب الآن ـ مشروعا قابلا للحياة!
على صعيد آخر، لا يزال العنف سيد الأحكام باعتباره الطريقة الوحيدة للتعاطي مع الوضع القائم رغم المتغيرات والتحديات فيه. وقد رأينا أن هذا العنف لا يعرف حدودا واضحة بين الأنا والآخر الإسرائيلي، فيتسرّب إلى الحياة الفلسطينية الداخلية ويفعل فعله فيها. فلا غرابة أن تتسع حصيلة الضحايا الفلسطينيين بأيدي فلسطينيين من كل اتجاه وانتماء. صحيح أن هذا العنف أقلق الإسرائيليين أو أخافهم أو شغلهم أو حتى كان بين أسباب إدراكهم باستحالة السيطرة لكنه هو ذاته الذي يغذي فيهم نزعة تكريس القوة والعنف وإدامة الاحتلال لغة وواقعا على الأرض. بل أن العنف الفلسطيني بدا مستقلا في أحيان كثيرة عن المشروع السياسي غير محكوم له إلى حدود أن المشروع انحكم لاستراتيجيته تماما ـ الانتفاضة الثانية مثلا. فلم نعد نستدلّ أحيانا، على المشروع السياسي من كثرة العنف لأنه اختفى في ثنايا المشهد الإسرائيلي المتفجّر أو في بيوت رفح التي تم تسويتها بالأرض! وصار النقاش أيها أفضل عنف المحتل الإسرائيلي أم عنف الانتحاريين، وأي موت أجمل؟ وأي ضحايا أجمل؟ وأي جنة تنتظر الضحايا؟ إلى أن سأل محمود درويش " من يدخل الجنة أولا؟ مَن مات برصاص العدو، أم من مات برصاص الأخ؟". وفي ظل هذه الأسئلة ضاع السؤال الفلسطيني الكبير وبقيت المعاناة والموت والبؤس على صدر الفلسطيني كما كانت ليسأل: وهل كل التضحيات سدى؟ فرد مَن ردّ بصاروخ قسام جديد دون أن يتحمّل رسم المشهد إلى آخره. فلنفترض أن التهدئة هشّة وستسقط وأن الصواريخ ستواصل التساقط حتى عسقلان. ألا نتوقّع أن يقتحم الجيش الإسرائيلي القطاع من جديد؟ قد يسقط مئات الجنود من صفوفه، وهذا سيناريو يرسمه الإسرائيليون الذين يحسبون لذلك حسابات ويحتاطون لذلك من ألف زاوية ومطرح، لكن مَن منا يحسب حساب الضحايا والتدمير الذي سيلحق بالقطاع وأهله؟ سيكتفي البعض بتوثيق المجازر التي ترتكبها إسرائيل لإثبات دموية الاحتلال وإثميته! فيأتي صندوق خيري فلسطيني ليمنح معونة لمصوّر أفلح في تخليد المشهد أو لكاتب كتب ملحمة الفلسطينيين في غزة!
أما المحور الثالث لمداخلتنا هنا فهو السؤال الأخلاقي الذي ينبغي أن يكون في أساس الحسابات الفلسطينية. وهو مرتبط بسؤال العنف الآنف الذكر. فالراسخ حتى الآن أن الفلسطينيين لم يفلحوا، رغم كل آثام الاحتلال وكل خطايا إسرائيل الدولة والحركة الصهيونية من قبل أن، يعيدوا لقضيتهم البُعد الأخلاقي الكوني وأن يحاصروا العالم به. سيقول البعض أن العالم تغيّر وأن غالبية دول العالم كانت معنا. وهذا صحيح جدا في عالم تأسس على قطبين. لكن ما دام هذا العالم تغيّر جذريا فلماذا لم نتغيّر نحن؟ لماذا لم نقرأ تفاصيل الخارطة الكونية الجديدة ونتموضع من جديد فيها؟ لماذا لا نفكّ الارتباط الذي أقمناه وأقامه الآخرون بين تفجيرات 11 سبتمبر وبين قضية فلسطين، بين الإرهاب الإسلامي الأصولي وبين عدل القضية الفلسطينية، بين إيران التي ينام رئيسها ويستيقظ راسما بحركة غير إرادية إشارة البدء بإبادة إسرائيل؟ بين مشاريع إقليمية وبين حق الفلسطينيين في وطن ودولة؟ ولهذه الأسئلة موازياتها على الصعيد الداخلي الفلسطيني، أيضا. سنوافق على إن الاحتلال يسعى بطبيعته إلى نزع إنسانية الفلسطيني وبقهره في جوانيته، لكننا لا نقبل أن يختار الفلسطيني لعب الدور المرسوم له. لأن النضال صار أسير أدواته وأنساقه فنسي المشرفون على النضال أن الهدف النهائي هو تحرير الإنسان وليس الأرض فقط وإن كل المشاريع أساسها كرامة الإنسان الفلسطيني وحقوقه الجمعة والفردية ولا شيء آخر!
ثلاثة أسئلة كبرى مطروحة أمام الفلسطينيين تطالبهم بتجديد مشروعهم السياسي واستبدال العنف باستراتيجيات الممانعة والعصيان المدني والمثول بشرف أمام استحقاقات السؤال الأخلاقي التي تتجسّد في كون الضحية غير محرّرة من سؤال الأخلاق. فالفلسطيني نفي للاحتلال أولا لكنه ينبغي أن يكون بديلا له في الجوهر والمؤدى.
بقلم: مرزوق الحلبي
السبت 5/7/2008