(مقالة نقديّة للفيلم السينمائي الوثائقيّ "بِد أند بريكفَست" للمخرجة السينمائية جونا سليمان)
غَوْصا في معماريّة الخرابِ والفُقدان، حيث لا وجه للإنسان يُطلُّ به على الوجود سوى نعله المُهترئ. هكذا تصرخ الثواني الأولى في فيلم جونا سليمان "بد أند بركفست" الذي يتناول مدينة الناصرة القديمة، سوقَها وأطفاله، بصمت موجع وبلغةٍ سينمائيّةٍ تجعلُ من قضيّةٍ تتماحى في هوامش الإحتلال، بكلّ ما تعنيه كلمة إحتلال، خطابا فنيّا سينمائيّا رفيعا يقنع الوُجدان الإنسانيّ العالمي ويؤثّر في حسّه عميقا.
فيلم "بد أند بريكفست" هو الفيلم الوثائقيّ الأول للمخرجة السينمائية إبنة مدينة الناصرة الفلسطينيّة، جونا سليمان. يتناول الفيلم سوق الناصرة القديم مكانا ومعنىً، بجروحه وخرابه وإنتكاسات إنسانه المُحاصر بالإحتلال الخارجي والدّاخلي على حدٍّ سواء؛ الإحتلال السياسي المُضِجّ، الذي يعي خطورة الملامح الصّارخة للهويّة الفلسطينيّة المعماريّة والجماليّة والإنسانيّة المعشعشة في خلايا هذه الأمكنة السّاحرة، ويسعى الى دحرها، هذا من جهة، وضجيج الإحتلال الآخر الداخلي، المتمثّل بالجهل والتّغاضي والإهمال، من جهةٍ ثانية. وبين هذا وذاك تتشكّل هُويّة مشوّهة ومرتبكة للإنسان الفلسطيني المُعاصر داخل معماريّة الضّجيج العمياء هذه. وبين صُراخٍ يُعمي وآخر أعمى تُداسُ طفولةُ مُستقبلٍ بأكمله.
كاميرا "بد أند بركفست"، وبعين المصوّر إيهاب أبو العسل، تقرّر في حركةٍ جريئةٍ لا تخلو من الجنون أن تخترق جدران الإحتلالين ولوجا الى تخوم المكان المُتعب وخبايا النفوس المُهشّمة، صعودا الى سطوحٍ باتت أعشاشا لأحلام طفلةٍ (هَلا) لا تملك حقّ الكلام في زمن الضّجيج، نزولا الى الأزقّة التي تفتح ذراعَيْ ضِيقِها لأطفال الدرّاجات والفرح المخنوق.
ذهنيّةُ جونا سليمان تهزّ أسيجة الإستلاب التي تحيط بطفولة المكان في محاولةٍ لمواجهة معماريّة الضّجيج بمعماريّة الصّمت؛ الصّمت الذي يحيل الهامش الى مَتْنٍ ويُعيد الحقّ في تمثيل النفس والإفصاح عنها لمن أريد لهم أن يسكتوا؛ المرأة التي تُعيلُ عائلةً الرّجلُ فيها غائبٌ في سكرة اليأس؛ الطّفل المُصاب بمرض خطير مُزمن في زمنٍ موبوء؛ ألعاب العنف والتّنكيل بتفّاحةٍ بريئةٍ؛ الطّفل العامل الذي تعلّم عدّ النّقود قبل أن يتعلّم عدّ النّجوم؛ والفتاة العاشقة فوق سطوح الحُلم الساكتة...
توالت المحاولات لطمس سحر السّوق في مدينة السّحر وعاصمة الوجدان الفلسطيني والعالمي بمعاني كثيرة. تآمر الإحتلالان على المكان بحجره وبشره، وتداعت معماريّة الجمال الصّادق والأصيل أمام معماريّة العرض السياحيّ السطحيّ، وخضعت ترميمات الحجر كما خضعت تكوينات البشر الى شروط السُّلطات المانحة والمموّلة في ظلّ غياب رؤية وطنيّة وأفق جماليّ وحسٍّ وجداني في العلاقة مع معنى المكان وشكله. فجاء فيلم جونا سليمان ليُمسِكَ بيد الصّمت ويتجوّل معه داخل نفوسنا المُلتهية عن مأساتها الرابضة بخمولٍ والمستلبة في استحقاقات اليوم يوم، وجعلنا نلتفت للحظةٍ الى حالة وعينا المسلوبة والى عُمق نفوسنا التي تشبه الى حدّ التوأمة عُمق الناصرة نفسها.
هنا، وأمام المُشاهدة الأولى نشعر أننا لسنا أمام مُشكلةٍ يتكفّل العقل الإخراجي بحلّها. ونشعر أننا أمام قضيّةٍ أبطالها مهزومون بلا استثناء. فالفيلم من النوع الإغترابيّ؛ حين يُصوّر فهو يمحو وفيما يكشف هو يتساءل، وكلما التحم مع انتماءاته الى الأمكنة والشّخوص كلّما غاص في اللا- انتماء وفي التحوّل الحركيّ وفي زعزعة الثّوابت البليدة والثّقيلة.
هنا، وأمام الصّدمة الأولى التي يُعرّضنا إليها "بد أند بركفست"، نشعر أننا جميعنا شركاء في معماريّة الضّجيج: شركاء فاعلين أو شركاء رغما عنا. فسوق الناصرة يبدو على شاكلة قلب الإنسان الذي يشغّل معماريّة كينونته وجسده ونبض حياته ولا نُعير إليه النّظر إلاّ حين تدقّ ساعةَ الألم.
من هنا، فإن "بد أند بركفست"، يستدعي فينا صمتَنا الذي بات بلا خارطة وبلا تصميم أمام هندسة الضّجيج ومعماريّة الصُّراخ. ومن هنا فإن الفيلم يشكّل رافعة تحدٍّ وخارطة صمتٍ لمعماريّة الهامش المسكوت عنه/ معماريّة الصّمت. وهو يضع أمامنا عنوانا بالخطّ العريض/ عنوانا سياحيّا، هو بالضّبط ما يريد الفيلم محوه في أمارات هذه المدينة المُمتنعة.
باعتقادي، قد نجحت جونا سليمان، وهي في ريعان عطائها، ومن خلال فيلمها الأول أن تضع على طاولة السينمائيين الفلسطينيّين طرحا سينمائيّا موضوعيا جديدا جديرا بالتفكير، حين قامت بالتخلّص من أكثر أنواع التجريد عِنادا، وأعني بذلك أنها قامت بتجريد ماضي سوق الناصرة بوصفه ماضيا من خلال الإحاطة بـ "النسيان" ـ نسياننا للتعقيدات الدلاليّة التي تشكّل العلاقات في ذهننا بين توقعاتنا المتجهة الى المستقبل وبين تأويلاتنا للماضي الجاري.
فبين الماضي الجاري، أو "فضاء التجربة" و "أفق التوقّع" استقطابات وعلاقات متواترة تدخل في صميم معماريّة الفيلم وهندسته اللاشعوريّة. ففي شُقّ "التجربة" ما يُشير الى التغلّب على ما هو غريب وإحالته الى مَلَكَة أو عُرف، بينما في شُقّ "الفضاء" ما يدل على الإجتياز والتخطّي باتباع خارطة معقّدة من خطوط السير تتناضد كأنها أكوامٌ من قصّاصات الزمن السينمائيّ/ الحياتيّ.
"بد أند بركفست" وفي علاقته مع إسمه السياحيّ، إنما يُجري حساباتٍ تفكيكيّة للمعنى وراء تحويل الهويّة الحيّة والذّاكرة المسلوبة الى مجرّد سلعة تجاريّة رخيصة بلا أفق وبلا رؤيا. وبذلك فإننا أمام فيلم وثائقيّ يُدير دراما خفيّة/ جليّة عبر الإستقطاب الناتج عن التواترات المركبة بين "فضاء التّجرُبة" وبين "أفق التّوقُّع".
كما في التسمية كذلك على الأرض/ أرض "فضاء التجربة" الفلسطينيّة في سوق الناصرة وما يمثّله في الوجدان الإنساني الفلسطيني من تناقضاتٍ حادّةٍ في ملامح الإنتماء ومعايير تَشَكّل الهُوية غير المُرتاحة وغير المطمئنّة.
ومن هنا، فإن تعبير "أفق التوقع" (بحسب رينهارت كوسيلك) يشير الى "التوقّع" أو العيش في المستقبل والإتيان منه، بما يحمله من رجاءٍ وخوف، وبما فيه من مظاهر التوجّه الى الحُلُم الدّافع الى الأمام. هكذا، يستحيل المستقبل حاضرا متّجها الى ما هو ليس كائن بعد، بينما يصبح استخدام "الأفق" بدلا من "فضاء" فهو للدلالة على قوة فرض التجاوز الملحق بالتوقّع.
هذه الدراما الإنسانيّة العميقة التي خلقها فيلم جونا سليمان من خلال بسط التناقض لا بوصفه مجرّد تناشز بين مقولتين، بل كوصف حالٍ لكلّ مقولةٍ على حدة، وفي هذا الطرح أرقى تصوير لواقع حال النفس الإنسانيّة الفلسطينيّة في أوج اغتراباتها وتأزّماتها، وكلّ هذا بأسلوبٍ سينمائيٍّ ساخرٍ وسلسٍ ومُمتنع.
حالة التشتّت هذه إذ نراها في شخوص محمد وبشارة ومجد وهَلا... كذلك نلمسها في أدراج السوق، أزقّته، سطوحه وبيوته. وكما في أشياء الفيلم وتفاصيله الحيّة، كذلك في العلاقات الطباقيّة المتشكّلة ضمن رؤية إخراجيّة أركيولوجيّة فذّة، تشير الى تركيبات المجتمع الفلسطيني المعقدة بالفروقات الطائفية المتمثّلة في سلوكياتٍ متباينة في ظهور أشخاص الفيلم، والى ذكوريّة المجتمع من خلال مشاهد غايةً في الروعة كمشهد الفتاة التي تُداعب فالوس المجتمع الذكوري بالحجارة التي تلقيها بأنثويّة هادئة ومُشاكسة تستثير هياج الأطفال الذّكور فيتهافتون على القذف العنيف تباعا وجمعا.
تستخدم جونا المجاز بدل الرمز، وتتوسّل الصورة السينمائية بدل الإستعارات المُبتذلة، وهي بذلك تصنع فيلما شاعريّا قصيديا يستدعي أكثر من مُشاهدة وأكثر من قراءة وقدرة عالية على الإصغاء الى طبقات الفعل السينمائي الغائرة.
فيلم "بد أند بركفست" ليس مجرّد مشروع سينمائي بقدر ما هو مشروع حُبٍّ، حين يغوص الفنان المبدع في موضوع حبّه، غير آبهٍ بالآلام والأوجاع، متلذّذا بكشف المستور واستصراخ الصّمت.
أمام فيلمها الأول، نشعر أن لجونا سليمان مشروعا وأفقا سينمائيا يستحق منا متابعته ودعمه والإستمتاع به فنيّا والصّحوة معه موضوعيّا.
د. وسام م. جبران
السبت 5/7/2008