مذكرات ميت!



يا لتشابه الاسماء والكنى المميت!
الهاتف يرن في ساعة غير متوقعة. اصدقاء وأقارب يتصلون، يودون القيام بالواجب بصورة اولية، تعزية العائلة، قبل المشاركة الفعلية في التشييع!
- هالو!
- نعم!
عرف المتصل صوتي على الفور. اخرسته المفاجأة. صمت هنيهة قبل ان يسألني:
- أنت؟ ألم تمُت؟
- والله "لسّه مثل ما انت شايف".
تكرر الاتصال وتكرر المشهد الصوتي ذاته. محبون قلقون يريدون الاطمئنان عني، فيفاجأون بأنني لست ميتًا!
خطرت ببالي فكرة. ما دمتُ قد حُكمت بالموت، فلماذا لا امارس هذه التجربة ممارسة فعلية. عليّ ان اموت كي لا يخيب ظن المتصلين! وهكذا كان، مت..
كان الجو حارا جدا في ذلك اليوم الحزيراني. جلتُ ببصري على مَن حولي، كنت ما زلت قادرا على الرؤية وتمييز الاشخاص. كان الحزن والالم واليأس يلفهم جميعا، كما لفني بعد لحظات، وبعد ان اسبلت اجفاني، قماش ابيض ناعم، لم يعد الشهيق والزفير يتناوبان. وكان القماش ما زال يسمح لي بالرؤية.
أدخلوني بعد قليل في مكان ضيق جدا. كأنه اناء معدني كذاك الذي يستعمله القصارون لجبل الطين، لكن ما هذه الظلمة التي هبطت عليّ فجأة وما زالت الشمس في اول شروقها؟ البرد هنا قارس وحارق ولاذع. كأنني في ثلاجة. قبل قليل لم يكن الحر يطاق، فمن أين جاءت هذه البرودة التي تفت العظام؟
لم يطُل الانتظار كثيرا. سحبوا ذلك "الران" المعدني، اخرجوني منه ووضعوني في صندوق خشبي على مقاسي تماما. لكن لماذا يُحكمون سد الغطاء سدًا محكما؟ لعلهم يخشون ان اهرب! حمل الصندوق بضعة اشخاص اعرفهم جيدا، ودفعوه دفعا الى صندوق السيارة. لا شك انهم سيعودون بي الى البيت. الى احواض الحبق والعطرة والنعنع، الى شجرة الجوافة وشجرة الحمضيات التي صرنا نسميها "البيارة"، لكثرة ما ادخلنا في فروعها من تراكيب: ليمون، غريب فروت، برتقال صيني. كم انا مشتاق لساحة الدار امارس فيها ديوان العصر او لعبة الزهر خلال النهار.
شقت السيارة شوارع المدينة في طريق العودة. كان المستشفى اللعين يبتعد بأجهزته وروائحه رويدا رويدا. عرفت ذلك من خفوت صخب الامواج في البحر. حمدت الله انني غادرت المستشفى. لكن ما بال هذا السائق يقود السيارة بهذا التهور وهذه السرعة؟ ألا يخشى وقوع "حادث مروع" يؤدي الى موت ركابها!! نسيت انني ميت ولا يمكن ان اموت ثانية. ارتحت. فالموت بذاته ليس مخيفا. المخيف هو التفكير فيه، التفكير في الأحبة والاهل الذين سنغادرهم الى غير لقاء. وفي الاشياء التي لن نعود نراها الى الابد.
اخيرا وصلنا. فوجئت. ما هذا الحشد الهائل من الناس المحبين، (وغير المحبين!) هل كل هذا الحشد جاء لاستقبالي؟ ثم لماذا هذا الصراخ وهذا العويل؟ هل نسي الباكون انهم سيلحقون بي، طال الزمان أم قصر؟؟ اذًا لماذا ينهى رجال الدين عن الحزن "لا تحزنوا كسائر الذين لا رجاء لهم"!! وما الفرق بين هذا وبين ان نطلب عدم التدخين، وفي نفس الوقت لا تكفّ الصواني المملوءة بشتى انواع السجائر، عن الطواف بالحاضرين؟!
من هذه؟ زوجتي؟ كم اقنعتها ان الحزن مكانه القلب. وان التعبير الأبلغ عنه يكون بالبكاء الصامت والدموع الهادئة. انتِ تفعلين ذلك. الا تذكرين بأنني اوصيتك بألا تكتفي بالتزام جانب الصمت والهدوء لدى وصول جثماني، بل ان تردعي ابناءنا وبناتنا عما يعذبون به انفسهم. هؤلاء الابناء والبنات الذين تتقطع قلوبنا اذا ما لمحنا سحابة حزن او ألم تخيم فوقهم. ونتمنى ان نكون الحزينين والمتألمين بدلا منهم. أتتركينهم يتألمون بهذا الشكل ولا تفعلين شيئا؟؟ هل بتّ تعصين أمري ووصيتي؟! حسن. سنتفاهم فيما بعد! ومتى هذه "الفيما بعد"؟
أتفرّس في الوجوه. افتقد الكثير من الاصدقاء. لا شك ان اسبابا قاهرة حالت دون مجيئهم. دائما نحن نوفر الاعذار لتقصيرنا:
من هذا الخطيب الذي يصول ويجول ولا يترك منقبة الا وألصقها بي؟ أقسم بعمري (فطنت انه لم يبق لي عمر فاكتفيت بأقسم)، انني لم اره في حياتي. اتلفت يمينا ويسارا. عمن يتحدث؟ لم يكن ثمة ميت غيري. إذًا لماذا يصرّ على الاساءة لي بهذا الشكل؟ الأنه متأكد من انه ليس بوسعي مقاطعته؟ اكنت انا كل هذا الذي يقوله عني؟؟
ويتوالى الخطباء كأنهم في مسابقة كلامية. انه شرط آخر من شروط تأبيني انتهكته زوجتي. كنت اوصيتها ألا تسمح بالتحدث في موتي سوى لواحد سميته لها، اعرف انه ينصفني ويذكر صفاتي على حقيقتها، ممتنعا في الحد الاقصى عن الاشارة الى مساوئي، وهي كثيرة. لا بل كنت مصرا على قراءة كلمة رثائي لو لم يداهمني المرض ولم تباغتني المنية. لكن.. ابنائي. اين هم؟ ولماذا لم يقوموا بما كنت انوي القيام به؟ هل هانت عليهم بهدلتي في مماتي، وأنا الذي لم اتبهدل في حياتي؟! أعوذ بالله من شر المغالين والمبالغين.
الموكب يتأهب للانطلاق الى المثوى الاخير. من بين الحشد تمر سيارة ينطلق منها ضجيج هائل. شاب طربان لا يميز بين جنازة وعرس. ذات زمن من ازمان الاخلاق، كان اصحاب العرس يلغون مراسيمه الاحتفالية والغنائية احتراما لمشاعر ذوي الفقيد. اما في زمن السماعات هذا فيكفي ان نستأذن اهل الراحل ونتلقى منهم الجواب التقليدي المتسامح "الله يهدي بالكو"، لكي يتم العرس بكل ما يرافقه من زعبرات ومفرقعات. حتى الصوت لا نعمد الى خفضه، متذرعين بان الحياة يجب ان تستمر بغض النظر عن كيفية استمرارها.
أنا لم يعد يزعجني هذا الضجيج ويهمني جدا ان يسارعوا في دفني لكي يتفرغوا لاستمرار الحياة! ولكي لا يتخذوا من موتي مناسبة لاستمرار الدواوين واجترار الكلام.
يا ابا فرح. يا ابن اخت زوجتي، يا سميّي. ربما اكون قد شاركتك في ميتتك مناصفة. أنت مت وربما استرحت، اما انا فلم يبق منذ الآن أي مجال للالتباس حول من هو الميت.
وأخيرًا اقول، منذ زمان تراودني رغبة في كتابة مقال كهذا لكن تشابه الكنيتين والاسمين، هو الذي فرض التوقيت فاعذرني، وأتمنى لك آخرة بسيطة مرحة سعيدة، كما كانت حياتك..
****

 

*ومضة*

بابا الفاتيكان، وخلال زيارته للولايات المتحدة، لم يجد سوى بوش المتصهين، يناشده المحافظة على الوجود المسيحي في لبنان!!!!

 

يوسف فرح
السبت 5/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع