كان الجو عاصفا وباردا ، والرياح عاتية تزمجر بلا انقطاع ، وتطرق الابواب والنوافذ فيعلو صفيرها ليشبه صوت صفارات الانذار . بدأ الليل يتسلل بظلامه . دفع عبد المحسن الباب ودخل بشكل مفاجئ ، وبلا استئذان وكان صوت هدير سيارات الشرطة وحرس الحدود التي اجتاحت التلة قد توقف واخذت الاضواء الكاشفة تغزو المنطقة . ترجل افراد الشرطة وانتشروا في التلة يبحثون عن " المتسللين " "والمخربين" العمال من الضفة الغربية الذين يعملون في المنطقة بلا تصاريح ، واختاروا التلة ملاذا ومخبأ لهم من الشرطة وعيون العملاء . انتهى الشيخ العجوز من تادية صلاة المغرب ، سلم واستغفر وترحّم ، وتضّرع لربه بان يقيه وسائر المسلمين والمسلمات من شر الشيطان الرجيم . استبق عبد المحسن تساؤل الشيخ له عن دخوله المباغت والمفاجئ فقال عبد المحسن : دخلت وجئت مستجيرا يا عماه وكان لكلمة مستجير وقع خاص في نفس الشيخ . قالها عبد المحسن وقد بدا عليه الرعب والارتباك وظهر بمظهر يثير الشفقة والعطف . شاب يافع، ملابسه رثّة ملطخة بالجبص والطين ، ارتعدت فرائصه ، واهتزت اوصاله ، نهض الشيخ بجلبابه الابيض وسوّى قلنسوته البيضاء على رأسه وطوى سجادة الصلاة ، واذن له بالدخول والجلوس، تناول الشيخ القنديل واشعله وقال شاكيا : قاتل الله لجنة التنظيم والبناء والحكومة ، وكل القوانين التي سنوها ظلما وانتقاما فحرمتنا من ممارسة حقنا في ادخال الماء والهاتف والكهرباء بذريعة ان البيت غير مرخص لعدم دخول الارض في منطقة العمار المسموح بها . استانس عبد المحسن بالشيخ ، ودخل الدفء لقلبه وهدأ روعه وزال توتره ولكن ظل الخوف يخامره خشية مداهمة الشرطة للبيت والقاء القبض عليه . نظر الشيخ الى الشاب نظرات تخفي في طياتها تساؤلات فادرك عبد المحسن من تلك النظرات ان عليه ان يفصح اكثر عن سبب جِِواره. فقال : جئت مستجيرا يا عماه فانا لست بسارق او قاتل او مغتصب وتابع يقول اوقدنا النار في هذا الجو العاصف الشديد البرودة في مغاورنا والتففنا حولها ، دهمتنا سيارات الشرطة بأفرادها وانتشروا في التلة ، يبحثون عنا وكانوا في طريقهم الى كهوفنا ومغاورنا واوكارنا التي لجانا اليها من هذا القر وتحاشيا من عيون العملاء والاعوان . فهربنا وتفرقنا شذر مذر طلبا للنجاة . اما انا فعرّجت الى هنا . هز الشيخ راسه الما وحزنا وتوردت تجاعيد وجهه الغائرة . فاغلق الباب واحكم اغلاقه . وجلسا على ضوء القنديل الاصفر الخافت اشتد البرد ونال من الشيخ فالتحف الشيخ وتدثّر في فراشه وتكوّر فيه . وظلت موجات نظراته الحزينة تتابع وتنطلق صوب الشاب الى وجهه الشاحب الاجرد وشعره المسترسل الاسود الذي تكتل خصلا سوداء والى حبات الطين الرمادية العالقة بين خصلات شعره ، واهدابه التي تكحّلت بالغبار ، كسر الشاب ذلك الصمت ، فانطلق بصوته متحديا صوت زمجرة الرياح وصفيرها المخيف والمزعج . واردف قائلا يحدث الشيخ جئت من جنين ابحث عن لقمة الخبز وسرد له حكاية عائلته وما الم بها من مصائب وويلات ومعاناة وكيف هجر مقعد الدراسة وهو لم يبلغ بعد اشده بحثا عن لقمة الخبز بعد ان اغتال المستوطنون الغوغائيون والده عندما هب يدافع ضد الاستيلاء عليها . واستشهاد اخيه الاوسط في معركة مع جيش الاحتلال . واعتقال اخيه الاكبر اعتقالا اداريا منذ سنوات يقبع في غياهب معتقلات الاحتلال وهو مجهول المصير. وظل هو يعيل والدته وثلاثة (فراخ) براعم خلفهم والده وراءه. انهى الشاب كلامه وكان التأثّر قد بلغ مداه في نفس العجوز فاغرورقت عيناه واطرق قليلا ومد يده اليسرى الخاملة وداعب شاربيه وبيده اليمنى الراجفة مسّد لحيته الكثه وقد وخطها الشيب . وانطلق من حنجرته الضعيفة وفمه الاثلّ صوته الاجش المتهدج يخاطب الشاب قائلا : ان حاضركم يا بني بما يفيض من آلام ومآس، وبما يزخر من بؤس وتعاسة وظلم الاحتلال ، وما آل اليه من تنكيل، وتجويع، وقهر ، وهتك للاعراض ، وفتك بالارواح ، ومطاردة الشرطة لكم ، وهضم حقوقم النقابية ، وسلب اجوركم من المشغلين والمقاولين ، ما هو الا امتداد لماضينا السحيق ، الذي يجسد حاضرنا ، بلواكم امتداد لبلوانا ، واعلم يا بني ان العيش الكريم بحاجة الى جهد واجتهاد ، وصبر ، ورفع الضيم بحاجة الى كفاح، والحرية تحتاج الى الفداء والى (يد مضرجة تدق) والتفاؤل بالمستقبل النير الزاهر ، ضرورة من ضرورات النجاح "فما اضيق العيش لولا فسحة الامل" وما يحدث لكم هناك ويحدث لنا جميعا ما هو الا غمامة صيف لا بد وان تنقشع ان عاجلا ام آجلا . "ولا بد لهذا الليل ان ينجلي "ولا بد لهذا القيد ان ينكسر" . اياكم واليأس والقنوط ان الله لا يحب القانطين والصبر مفتاح الفرج . ابتهج عبد المحسن من كلام العجوز ، وغمرته ابتسامة رقيقة ثم تابع الشيخ حديثه الى الشاب فقال : اعاد حديثك يا بني ذكرياتي واعاد الى ذاكرتي الكثير ، واني وقد بلغت من العمر عتيا . ولكن هناك ايام واحداث لا تنسى وحالات لا تمّحى تنقش في الذهن . عشت في شبابي حكاية تشبه حكايتك مع فارق الزمن والطقس من تلك السنين الغبراء الماضية فان انسى لن انسى ذلك اليوم الذي قست علي السياسة الرسمية فقسا علي الزمن ورماني على ابواب مدينة هائما في شوارعها بلا تصريح وشبح الخوف من الشرطة يطاردني . دخلت مقهى لشاب عربي ، ولذت في زاوية من زواياه ، لا بل حانية من حناياه وجلست وحيدا استرق السمع والنظر من اولئك البؤساء الذين جلسوا بالقرب مني ووجدوا في ارتشاف الجعة مع ما تيسر من حبات الزيتون ملاذا لهم وهروبا من بؤسهم المر . فكنت ارى بعضهم يضحك تارة ويبكي اخرى ومن بعيد جلس اناس ممن عاقروا الخمرة بابتهاج وسرور وانتصبت امامهم زجاجات الخمر الفاخرة بمستواها الرفيع بانواعها المتعددة . وكدسو امامهم اكواما من اللحم ، وانتشرت امامهم على المنضدة اطباق المقبلات ، مما طاب ولذ وتعدد ، وعلت قهقهاتهم المتواصلة فصمّت الآذان في حين كنت غائصا في همومي اعزي نفسي ببؤس اولئك البؤساء فمر بقربي بائع جريدة الاتحاد فعرض علي الجريدة ثم دار حديث بيننا فجلس معي واثناء جلوسه تعرفت عليه وكان انسانا لطيفا دمثا . انقذني من ورطتي فهيأ لي المنام والعمل .
انتصف الليل وقادني الى غرفة كانت قريبة من المقهى تقع وسط خرابة مليئة بالركام والردم ومسرح للقطط والجرذان والافاعي وفي الطريق اليها اخذ يتلو علي بارشاداته وتحذيراته لاخذ الحذر والحيطة من ذلك العميل الذي يطل بيته بشرفاته العالية على الخرابة والغرفة . وبلّغني ان احدى مهماته هي رصد الغرباء الذين يأتون من الشمال من الجليل والجنوب من النقب يتسللون كما تتسلون انتم بحثا عن العمل وبلا تصاريح فيشي بهم للشرطة . سلمني المفتاح ، فانفتح قلبي بهجة وانشرح صدري سرورا . دخلت الغرفة ولم تطل فرحتي فانقصم ظهري من هول الصدمة وانكمش قلبي ولم يكن يدري انه ادخلني السجن . افتقدت الغرفة لاي منفذ او متنفس امتلأت بالجلود والاحذية المهترئة فصاحبها عمل سكافا انبعث منها رائحة آسنة كريهة اقفلت الباب فلا مندوحة لي ولا مناص . افترشت الارض وتوسدت بعضا من الاحذية المهترئة . وكان يوما احر من ايام شهر تموز الحارقة ترمضت من شدة الحر . واخذ العرق يتصبب من جميع اطراف جسدي، وبعد سويعات شعرت بالجفاف والاختناق وشعرت بدوار في رأسي ثم اخذت اتقيأ. انهارت قواي فسارعت وجمعت ما تبقى بي من قوة وجازفت وغادرت الغرفة متحديا ارشادات وانذارات صاحبي وخرجت الى مرحاض خارج المقهى غرفت الماء من حوض المرحاض واطفأت ظمأي فبللت رأسي ومسدت جسدي فعادت لي الحياة رويدا رويدا فضلت البقاء في المرحاض وقضاء ليلتي هناك مع رائحته على الرجوع الى الغرفة فهجعت على مقعد المرحاض حتى بزوغ الفجر. بقيت على هذا الحال اياما اعيش متنقلا بين الغرفة والمرحاض ومع فحيح الافاعي ومواء القطط وتصوية الجرذان شاهدت في اقامتي تلك القطط السمان كيف تقتل الافاعي وتنقض على الجرذان الضعيفة منها فتلتهمها وشاهدت تلك القطط وهي تتعايش بسلام ووئام مع تلك الجرذان الكبيرة القوية وتقبل بالتهدئة معها وتساءلت في نفسي كيف يمكن ان يحدث ذلك تلتهم الضعيفة وتتعايش مع القوية الكبيرة فهي جرذان فكنت انفجر بالضحك وما كنت ادري هل كنت اضحك من لعبة الجرذان والقطط ام كنت اضحك على حالي (وشر البلية ما يضحك) انهى الشيخ حديثه وكانت العاصفة قد هدأت واخذت سيارات الشرطة بالانسحاب تحركت وتوقفت الاضواء الكاشفة التي غزت التلة فغادر عبد المحسن المكان وعاد الى مغاوره سالما مفعما بالرضى يحدوه الامل بالمستقبل النيّر..
عمر سعدي *
الخميس 3/7/2008