ها هو الماضي يعود إلى ذاكرة "رشيد".. والمسافة التي قطعها من ساحة مسجد حسن بيك إلى سوق الكرمل حينذاك، بعد إيقاف سيارته فيها والتي استغرقت معه اثنتي عشرة دقيقة، باتت أبعد منها الآن إلى حيفا وما بعد حيفا.. وسؤالها له عن الجهة التي تقع فيها سوق الكرمل والذي فتح باب التعرّف عليها أصبح لعنةً يلعنها صباحًا ومساء.. نعم كان قد تعرّف عليها فصارت بعد ذلك اليوم أشبه ما تكون بزوجته.. ولم يعد ينسى التضحيات التي قدّمها من أجلها فتبددت وذابت في بحر يافا.. لم يستطع أن ينسى كيف حاول أن يتهوّد من أجلها ومن أجل حبّها ولولا رفض الحاخامات لخطوته هذه، لأصبح الآن يهوديًّا.. أهذه هي "أوديللا" التي عرفها وأحبها، هي التي أصبحت اليوم تتنكر له، هو بالذات؟ ولماذا كلُّ هذا التنكّر؟! لأنه لم يعد يملك ثروة؟ ولأنه سافر إلى أنطاليا من غير إرادتها؟ يا للخسارة! أين مَنْ يعرف الناس قبل أن يجرّبهم.. والشقّة التي قضيا فيها أمتع الأوقات وأحلى الليالي لم تعد شقّته.. ألم يعلن تنازله لها عنها أمام أحد المحامين واثنين من الشهود.. وفي ذات مساءٍ حاول الدخول إليها ولكنه اكتشف أن أكرة الباب قد تمّ استبدالها، ولم يعد مفتاحه الذي يحمله ينفعه.. ومحاولاته الفاشلة المتكررة للاتصال بها من جوّاله صباح ذلك اليوم جعلته يفكّر بالاتصال الآن من هاتف أحد الأصدقاء:
- لماذا تفعلين بي كلّ هذا يا "أوديللا"؟ تعالي لننسى الماضي!
- أنت عربيّ قذر. قلت لك إنّك لم تعد تناسبني، اذهب وابحث لك عن فتاة عربيّة تناسبك!
- أين أنت الآن أريد أن أكلّمك وجهًا لوجه؟
- لا داعي لذلك أنا الآن مع صديقي "يسرائِل" نسبح في البركة..
- أقولها لك وللمرّة الأخيرة، إن لم تعودي إلى صوابك وتُرجعي لي الشقّة وكلّ ما أنفقته عليك خلال هذا العام سوف يحدث لك ما لم تتوقعينه..
لم يعد باستطاعته أن يصبر أكثر من هذا. جلس قرب الشاطئ وعيناه تقدحان شررًا. صار يشعر أن مياه البحر لن تطفئ غضبه. النسيم الآتي من جهة الغرب يداعب روحه وأنفاسه.. وساقته الذكريات إلى تلك الأيام التي كان يغدق عليها ويقدّم ما تجود به نفسه، وينفق كلّ الإنفاق دونما تردد. إلى تلك الليالي التي قضاها معها في النوادي الليلية. إلى حيث الساعات الطويلة في أرقى المطاعم التي لم تحلم بها طوال حياتها.. إلى الرحلات الممتعة في لندن وباريس وجنيف.. إلى هداياه النفيسة وهو يقدّمها في كلّ مناسبة. لقد أنفق كل ما ادخره طوال حياته، ولم يعد يملك الآن إلا ثمن تذكرة فيلم واحد.. وظلّت تتردد في ذهنه أفكار الانتقام- " صرتُ الآن عربيًّا قذرًا يا "أوديللا"! لكن كيف يمكنني أن أنتقم منك وأردّ لذاتي اعتبارها وكرامتها التي سلبتيها مني؟ ألهذا الحدّ كنتُ مغفلا لتخدعينني؟ هه كنتَ ليبراليًّا يا "إرشيد" في قراراتك متحرًّرا في أفكارك وها أنت الآن ترجوها أن تغفر لك ذنوبك"، تذكَّر قول أمّه له حين قالت له: أنت ولدٌ متحذلقٌ وفيلسوف لا ينتابنا منك إلا الهمُّ والغمُّ ثم أجابها بالديباجة المرصعة بكلمات من العبرية التي طالما ظلَّ يرددها في سرّه وعلانيته: العقل سيّد الكون. ليس له دين ثابت. والميراث الفكري لا بدّ له من أن يتغيّر في جميع نواحي الحياة كل فترة وجيزة ويجب على المرء العاقل أن يحرر نفسه من قيود الماضي والتوجّه نحو المستقبل. أنتم ستعيشون في الماضي أما أنا فللسمتقبل...
ما كان له أن يتوقع منها أن تتصل به في صباح اليوم التالي. أفاق على رنين جواله ولم يتوقع أنها ستغفر له وتعيد حساباتها على جناح السرعة، ثمّ تطلب منه العودة إلى بيته معزّزًا مكرّمًا.. لا زالت الدنيا بخير.. الظنُّ الخاطئ أفسد الدهرَ رائحتُهُ.. ومن طبيعة الإنسان أن يخطئ ثم يعود إلى صوابه. غادر بيت صديقه "شلومو" وأخذ يحثُّ خطاه قاصدًا شقتها. فتحت له الباب ثم فتحت له ذراعيها فانكشفت له أسرار جسدها التي غابت عنه منذ فترة ليست ببعيدة. ملابس النوم التي خرجت بها مثيرة حقًا.. بدت كأنها أجمل عروس في الدنيا.. ولكن ما الذي غيّرها؟ وكيف تغيّرت بهذه السرعة؟ كلمات عذبة أسمعها من جديد!! يا للعجب.. من الأفضل له أن لا أعاتبها على ما فعلته به.. ومن الأفضل أن لا أحاسبها على الذي أصبح زمنًا ماضيًا..كأس الويسكي والموسيقى الهادئة لهما دلالة واضحة على مرادها. هو يفهمها منذ أن تعرّف عليها ويفهم تلميحاتها ويدرك كنهها.. فليكن.. لم لا يبدأ معها حياته الجديدة بهذا الأمر الجميل. هذا شيءٌ والغضب شيءٌ آخر. السعادة لن تتحقق إلا بهذا.
ما أن أنهى اغتساله وتطهّر من نجاسته، حتّى بادرته قائلةً :
- نفسي تتوق لشرب القهوة العربيّة! اذهب إلى حانوت "يوسي" واشترِ لنا نصف كيلو..
أجابها بابتسامة عريضةٍ وهو يتغنّى:
- من عيوني.. من عيوني.. من عيوني.. بل سأشتري لك كيلو ونصف..
لم يمض على غيابه أكثر من نصف ساعة.. كان عائدًا وهو يحمل في يده كيسًا أسودًا.. أمارات الفرح باديةٌ على محيّاه.. وجمال الدنيا حمله على التصفير لتخرج من فمه ألحان أغنية عربيّة أحبّها منذ صغره.. أقبل وهو يتمايل نشوانًا يفكّر الساعة الممتعة التي قضاها مع صديقته "أوديللا". شاهد سيارة الشرطة قرب العمارة ولم يأبه بها. صعد الدرج فاستقبله ثلاثة رجال من الشرطة الخاصة لمكافحة الجريمة.. وضع أحدهم الأغلال في يديه وهو يقول:
- أنت مقبوض عليك بتهمة اغتصاب امرأة في بيتها، وإقامة علاقات جنسية دون رغبتها..
بعد بضعة شهور وقف "رشيد" تحت حراسة شرطيين أمام القاضي وكانت قد قدّمت ضده لائحة الاتهام.. وسمع القاضي يتلو أمامه قرار الحكم:
- حكمت المحكمة حضوريًّا على المتهم " رشيد يحيى الصوّاف" بالسجن الفعلي لمدة خمس سنوات وسنتان أخريان مع وقف التنفيذ بتهمة اغتصاب "أوديللا خاييم كاشتان".. رفعت الجلسة...
(كفر قاسم)
نعمان إسماعيل عبد القادر
الخميس 3/7/2008