نعم يافا هي المدرسة والمدرسة يافا والخريجون هم أهلها من العهد الكنعاني إلى يومنا هذا. مدرسة عمرها خمسة آلاف عام قضتها بالتعليم دون ملل أو كلل فتخرّج منها المحامي والطبيب والصحفي والمدرس وكان من فشل وسقط ضحية للإهمال والتقصير . مدرسة لا عطل فيها ولا غياب الكل حاضر وعلى مدار الساعة التدريس يبدأ من طلوع الفجر وبدون انقطاع إلى ما لا نهاية .
التسجيل للمدرسة يكون مباشرة بعد الولادة وبدون رسوم أو إجراءات هي مدرسة أهلية يتعلم فيها الكبار والصغار الفقراء والأغنياء الأذكياء والجهلاء لا فرق بين أسود وأبيض مدرسة تنبذ الطائفية والعائلية ولا نظام قبلي فيها، مدرسة معلموها طلاب وطلابها معلمون ومديرها الزمن ومستشارها السماء ومنهاجها الحياة وكتبها مفتوحة على مصراعيها كبوابة المدينة وساحتها البحر ورائحتها زهر البرتقال ولونها برتقالي وشكلها من خلاصة الجمال ، أصواتها تسمع من كل الازقة والحواري كأنها سيمفونية بدأت ولم تنته.
يافا المدرسة المغتصبة التي فقدت طلابها المشتتين في أرجاء المعمورة تخاطبهم يوميا فهم غائبون عنها ولكن يطالعونها كل يوم ، بعيدون عنها ولكنها تعيش فيهم يسمعونها وتسمعهم يناجونها وهي أيضا تناجيهم يبكونها وهي تصرخ ألما لفراق طال ولكن تبقى كما الأم التي أرسلت ولدها للجهاد فأن عاد ستفرح وأن لم يعد فستنتظره فوق السور تنظر إلى الميناء وسفن بعيدة تتجه نحوها ثم تغيب إلى أن يعود وحتما سيعود.
يافا هي ليست مكانا ولا زمانا بل الزمان والمكان معا ، يافا العاشق والمعشوق ، العروس التي لا تخلع فستانها كي تطول ليلة الزفاف وتسحر ناظرها فيهيم بها كما هامت الفرعونية بيوسف. تخاطب العروس كل من فيها بلا انقطاع ولا تردد ولا تلعثم واضحة وضوح الشمس لا تعرف الأسرار عارية من الخبث والضغينة متسامحة كعيسى عليه السلام صابرة كالخنساء عادلة كعمر رضي الله عنه تسلمنا عنقها كإسماعيل ولا تبالي.
يافا تكتب سطورها في كتب لا أول لها ولا آخر ومدادها البحر وأقلامها أرجل تجوب شوارعها وقاموسها أسواق ومبان، أصوات وأغان وأنين وحنين ودفاترها مليئة بقصص الأبطال والمشتتين والعابرين والقابعين والساجدين والمعمدين يافا كلية للشريعة واللاهوت تقرع أجراسها عند بداية الدرس وعند الصلاة ينادي المؤذن وتسمع الخطب والمواعظ ولا أحد يدخل غرفة الاعتراف لأنه لا يعرف عن أي ذنب سيبوح وعن أي قصة غرام سيتحدث فيافا هي القصة وهي الاعتراف وهي الذنب ونحن الضحية فان كان للغريب أم فيافا الأم والمعلمة والطبيب ونحن المرضى هي البيارة ونحن البرتقال الذي يتساقط تحتها وحولها بدون انقطاع.
عندما نسأل العاقل منا أي الفترات هي الأجمل في حياتك فيقول وبدون تردد يافا ، المدرسة. فما بالكم بأناس يعيشون أجمل لحظات حياتهم وهم لا يدرون ، فرصة لا تعوض نسكن في يافا وهناك من يتمنى أن يطأها ولو ميتا ، نعبث بها وهناك من ينزف دما لرؤاها. يافا هي رسمة من ريشة فنان بارع ليس لها ثمن ولا تباع وتشترى موقوفة لأهلها إلى الأزل ، هي قطعة ثمينة سقطت من الجنة يجهل قيمتها الكثيرون منا ولكن علمتنا هذه المدرسة أنهم يذهبون وتبقى يافا شامخة تطل على البحر وتغازل صخرة اندرو ميدا وتحدثها عن السابقين واللاحقين.
سماها الأخ سمير الحاج في كتابه ببارة الشعر والعطر اسم يضاف إلى قائمة الأسماء المعلقة على صدرها فوق الساعة والعقارب توقفت عند المغيب بانتظار الفجر المنجلي.
يافا مدرسة طلابها أنا وأنت وابن المخيم وأبناؤها في الشتات وأولادهم وأحفادهم،يافا طلابها أكثر من مليون ولكن لا يدفعون الرسوم ولا يتصلون بها وتحتل الجزء الأكبر من بطون قلوبهم وغرف عقولهم أجسادهم بعيدة ولكنها فيهم كالعاشق الذي أن فارق محبوبته جسديا تبقى متواجدة فيه ليل نهار.
وعودة إلى المدرسة التي لا ندفع رسومها وطلابها أنا وأنت نحمل فيها الرسالة لتصل إلى العنوان ولكن العنوان مفقود ، تعلمنا الحب والكراهية سيد الموقف ، تعلمنا التسامح فنبغض بعضنا تعلمنا الصلاة فنتركها تعلمنا الأدب والآداب ونحن عنها بعيد. تعلمنا حب الوطن فنخونه وتعلمنا الأمانة فلا نصونها والوحدة شعار والمحبة نفاق والشعارات خادعة والموال طويل وفيه نشاز والموسيقى غربية والعربية في المسلسلات المدبلجة وصيانة العهد صور معلقة على الجدران كالآيات نراها كل يوم ونجهل مكنونها.
يافا هي أنا وأنت فان كنت تريد أن تكون يافاوي بحق فصن العهد ان كنت قريبا أو بعيدا وتابع الدرس كي لا تكون الضحية وقدّم هديتك لأمك يافا كل صباح. يافا هي العروس فهل ستحفظ فستانها من الغبار والطين ، هي البيارة فأي الثمار تريد أن تكون هي الأم فأي الأولاد أنت هي المدرسة فأي الطلاب أنت؟
(يافا)
عبد القادر سطل *
الأثنين 30/6/2008