في الذكرى العاشرة لوفاة يوسف صباغ



الاخوات والاخوة.. مساؤكم خير وعطر
يجتمع في اليوم حزن وفرح.. وقلما يجتمعان.. يجتمع فرح لقائكم والتحدث اليكم مع حزن على ذلك الصديق المعلم الجاد المخلص الذي رحل عنا فيّ عمر تفتح الزهر، فكانت حياته عريضة رغم قصرها.. الصديق يوسف صباغ الذي عرف كيف يكون المخلص معلما وكيف يكون المعلم مخلصا، كيف يكون المعلم وطنيا وكيف يكون الوطني معلما.

* أن يسكننا الوطن
ان يسكننا الوطن
ماذا يعني هذا؟
هل ان يسكننا كما نسكنه كشمس تطلع
وغيم يمرّ؟
هل يعني هذا انه يحملنا ويطعمنا ويحضننا؟
ام ان في ان نسكنه معنى التجذر والنمو والعطاء؟
ان نسكن الوطن يعني ان نعيش على أرضه
اما ان يسكننا الوطن كأن نصير معه جسدا
واحدا.. روحا واحدة وأملا واحدا..
وكي يدخل الوطن نفوسنا وعقولنا يجب اولا
ان نعرفه كي نحبه وإن احببناه نحافظ عليه..
ان نعرفه يعني الكثير الكثير..
يعني ان تكون بيننا لغة مشتركة
أي ان تكون اسماؤه وظواهره كما نفهمها ويفهمها..
ولا ندعي ان اسماء الوطن من صنعنا وصنع اجدادنا فكما التاريخ تراكما كذا تكون الاسماء والحضارة. لم نضع مثلا اسم فلسطين بل ورثناه وقد تعود التسمية الى معنى الرحل او المستوطنين والذي اطلق على ذلك الشعب القادم من كريت الى شواطئ غزة ويافا قبل نحو 3200 عام. ولم يكن هذا الاسم الوحيد.. لا هو الاول ولا هو الاخير.. سبقه اسماء اخرى مثل كنعان الذي قد يكون من الفعل خنع او من كنعان حفيد نوح. كما سبقه (فينيقيا) من فينيكس بمعنى النخيل او الارجوان او من احد احفاد كنعان.
وأتت التوراة بعد ذلك بأسماء اخرى، كالارض المقدسة وأرض الرب وأرض اسرائيل وغير ذلك..
الاسم تاريخ.. الاسم حكاية.. الاسم علاقة. لهذا نرى ان الحركة الصهيونية اهتمت بوضع اسماء عبرية او معبرنة للمواقع والظواهر على طول الوطن وعرضه.. كان ذلك من اجل تقوية الرباط بين اليهودي وهذا الوطن وزرع الفرقة والغربة بيننا وبين الوطن، ويحضرني هنا قول بن غوريون حسما لنقاش دار بين اعضاء لجنة التسميات حول ضرورة محو او ابقاء الاسماء العربية.. قال بن غوريون بوضوح لا يقبل التأويل وكان يمثل بذلك وجهة النظر الرسمية: "اننا مضطرون الى ازالة الاسماء العربية لأسباب تتعلق بالدولة.. تماما مثلما لا نعترف بحق الملكية السياسية للعرب في الارض، هكذا ايضا لا نعترف بحقهم في الملكية الروحية".
نتعلم من هذا انه من الضروري مخاطبة الوطن بلغتنا واسمائنا.. لننادي مرج ابن عامر باسمه لأن في هذه التسمية روحا ومحبة وتاريخا.. وإذا اخذنا هذا المرج نموذجا لنتذكر تلك القصيدة ذات الدلالات والتي حولها شعبنا الى اغنية شعبية:
النصراويات الجآذر
كم قطعن مداك
في خطو الأكابر
زمر على الطرقات
فيهن الحبالى والبنات البكر
كالزهر المسافر
والمرضعات
صغارهن على الظهور
على الخواصر
ينقلن اكوام الغلال
من الحقول
الى البيادر
يسهرن حول النار
ينشدن الاغاني
دون آخر
عن حرب تركيا
وأسراب الفراريين
عن
ظلم العساكر
وعن الخواتم والأساور
كيف بيعت
لاقتناء سلاح ثائر
لا تحك لي
لا تحكِ لي
إن كان لص الارض
وحشا كاسرا
فالعزم فينا
ألف كاسر
لنا في مثل هذه القصيدة نموذج لما يمكن الحديث عنه من تداعيات:
* الحديث عن التسمية وسببها وظروفها
* الحديث عن عادات الفلاحة
* الحديث عن حكم تركيا الجائر وعن السفربرلك والفراريين
* الحديث عن قلة الحيلة لدرجة الاستغناء عن الحلي لشراء ما هو اهم.. السلاح من اجل الدفاع عن الوطن.
* ثم الحديث عن صفقات بيع الارض وتهجير العديد من القرى زمن الانتداب.
كيف يمكن الحديث عن المرج دون التحدث عن: - الفتوحات الاسلامية الاولى، - معركة عين جالوت وغزوة نابليون، - الجبال المقدسة المحيطة، - كنيسة نين المحفوظة رغم عدم وجود أي مسيحي هناك. ان بدأنا بتعريف ابنائنا الطلاب عن اسماء الوطن كما ورثناها عن اهلنا فإننا نزرع محبة الوطن في قلوبهم.. ونحن نعلم ان الاسم وحده لا يكفي بل يكون مفتاحا للمزيد من المعرفة..
الوطن ايها الاخوة بحاجة لمن يكلمه كما قال لي الشيخ البرعمي ابو رايق: "احسّ يا اخي ان حجارة البلد بحاجن لمن يحدّثها.. آتي كل يوم الاطفها بكفيّ هاتين وأحدثها عن هم الغربة واشتياقي لها.. اُسمعها بيتا من عتابا وأعود الى الجش، لأعود في اليوم التالي.
في مثل هذه الحكاية معنى يجب نقله الى الاجيال اللاحقة كي يبقى التعلق بالوطن ويبتعد خطر الاقتلاع. منذ سنين ونحن نصرخ ضد التهويد ونرفع شعارات ضد كذا ونتظاهر ضد كذا ومن اجل كذا..
لا بأس
لكن ستصبح هذه الشعارات وهذه التظاهرات ذكرى اذا ما كان لها استمرارية والاستمرارية لا تكون الا بالتثقيف.. والتثقيف لا يكون بالشعارات والصراخ انما بالمثابرة في غرس القيم في نفوس صغارنا.. ما الضمان ان يدافع الجيل القادم عن ارضه كما دافعنا؟! ما الضمان ان يبقى تعلّق الجيل القادم بالوطن كما تعلقنا؟ ما الضمان ان يبقى لنا وطن فعلا ولا يتحول ذكرى؟ الضمان.. فقط في صب كل جهد ممكن في التربية والتعليم، في بناء جيل جديد قادر على بناء مجتمع سليم.. كيان سليم.. بناء جيل يشرّش فيه الوطن، جيل يحسّ ان ايذاء زيتونة ايذاء له وايذاء اثر تاريخي ايذاء له.. أي نموذج نعطي لابنائنا حين نأخذ حجارة دير سانت جورج في دير الاسد ونبني فيها سنسلة او حجارة قلعة سعد العمر في دير حنا ونبني بها سورا. أي نموذج نعطي لابنائنا حين ندوس زهرة بأقدامنا ونلوّث عيونا بنفاياتنا..
راقبوا ما يحدث في رحلات المدارس التي انحرفت عن اهدافها او بعضها على الاقل وربما تصرف الطلبة فيها بشكل يتجاوز حدود اللياقة والادب.. الرحلات التي من المفروض ان تكون المفتاح السحري للتربية الوطنية، ستبقى منحرفة الى حيث لا نريد اذا تجاوز المعلم او المرشد قطف زهرة او كسر غصن او تلويث مكان او صراخ في طبيعة تعزف سمفونيتها الخالدة من خرير وحفيف وزقزقة..
تعودنا ان نرى المعلم يتحول في الرحلة الى صديق للطلاب.. لا بأس لكن يجب ان يكون معلما صديقا.. موجها صديقا.. مرشدا صديقا.. نموذجا صديقا.. هل يعني ان تُكسر كل الحواجز كي يكون لطلابه صديقا؟! لنربِّ اولادنا ان يعيشوا في الارض لا عليها فقط لأنه من لم يعش في الارض تذروه الرياح ومن عاش فيها وعاشت فيه لا تقوى عليه الاعاصير.
اذا ربّينا ابناءنا على محبة الوطن لا يكفي ان نلقي عليهم محاضرة ونسمعهم شعارات بل يجب:
ان تمشي اقدامهم دروبه
وتنعم عيونهم برؤياه
وتمسّد وجهه اكفّهم
وتشمّ اريجه انوفهم
وتذوق من ثماره افواههم
عندها لا نرى جميلا يقلع زهرة
او يكسر غصنا او يهدم أثرا
او يلوث عينا.. بل جيل ينتمي لوطن يُسكنه قلبه.
تعودنا ان نكتب عن التهجير والنكبة.. لا بأس ان نتعلم منها الدروس.. لا بأس.. ان نطالب بتصحيح الغبن.. لا بأس.. لكن يجب ان نعلم ان النكبة حلقة واحدة في سلسلة طويلة من الاحداث.. لم يتوقف الزمن عندها ولن يتوقف.. لهذا فلتكن منطلقا نحو غد افضل يجعل من نخاف على مستقبله يثبت اقدامه.. يضرب في التاريخ والجغرافيا جذورا لا يقوى عليها الزمن.. حينذاك لا تتكرر المأساة ولا تأتي نكبة بعد!

(اقرث)

فوزي ناصر *
الأثنين 30/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع