أوباما يدخل "عالم الأمريكيين" عبر نخبتهم الرأسمالية، ساعيًا لاستبدال ثالوث بوش، الحرب والبترول والسلاح، بالرأسمالية التقنية والتبادلية التجارية ودبلوماسية التعارف لا التكبر... هذا الجناح الرأسمالي الهادئ عموما هو الذي يستطيع أن يواجه الجناح الجمهوري المتعجرف
منذ تصدر باراك أوباما عملية الترشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي مكتسحا صدارة الإعلام من جهة، ومنافسة كانت ذات فرصة كبيرة مثل هيلاري كلينتون من جهة أخرى، أصبح شعاره: "من أجل التغيير" ذا معنى في البيئة الأمريكية المتعطشة لذلك، بل والبيئة العالمية، الأكثر تعطشا، من فرط الضيق بالرئيس العابر جورج بوش على الساحتين.
أنا لست مع القول أن جماهير الفقراء أو النساء وهما ساحتا المرشحين، هما وقود هذه الحملة الإعلامية الكبرى.. إذ تشير كل التقارير الآن أن أوباما اعتمد علي مصادر رأسمالية كبرى من مليارديرات ومليونيرات علي ضفتي الأطلنطي، إشارة لاحتضان أجنحة قوية من الرأسمالية الأمريكية، بل والبريطانية، للسيد أوباما وتحقيق أكبر حصاد لأوسع لحملة انتخابية عرفتها الولايات المتحدة علي ما تقول تقاريرهم.. إذن فليست جماهير السود والفقراء الذين عمل أوباما وسطهم لبعض الوقت بالفعل من خلال العمل الأهلي وفترة عضويته في مجلس الشيوخ في الأعوام الأخيرة. ومعروف ضمنا أن "السود" هؤلاء، أو الأفرو أمريكيين، هم أقل الفئات تصويتا في النظام الأمريكي، وأظن أن بقية "الفقراء" من الإثنيات الأخرى ليسوا أسعد حالا.
* البورجوازية السوداء
لذلك فإننا يجب أن نشير إذا شئنا إلي البورجوازية السوداء وليس فقراء السود، وهؤلاء هم الأكثر مسعى إلى طبقة الأغنياء البيض مثل الحال في جنوب أفريقيا، بل ومسعى أمثالهم في بعض بلداننا العربية والأفريقية في اتجاههم نحو الشمال والتعاون الأوروبي. ولأن الحزب الديمقراطي معروف بممالأته للطبقة الوسطى عموما باسم دعم الفقراء، وهي طبقة فقيرة فعلا في هذا العصر لكنها الأكثر انتظاما في ترتيبات المجتمع الخدمية والاقتصادية عموما. لذا يضاف لهم بورجوازية السود بسهولة أكبر مع أطراف أخرى من المهاجرين اللاتينيين والآسيويين. هذه الفئات تغريها بالطبع أحاديث التغيير التي يجيدها أوباما "بكاريزما" طموحة، وطاقم إعلامي متميز. وفوق هذا وذاك الرغبة العارمة في بعض أنماط "التغيير" بالفعل، سواء بأوباما أو بغيره! وقد سبق لهذه الفئات أن دفعت بكارتر ودعاوى حقوق الانسان والسلام. فأعقبته عائلة بوش ومآسيها اللاإنسانية. ولكن لأوباما نكهة خاصة، ترتبط بأصوله السوداء، بما يجعل "الدهشة " تدفع أحيانا باحتمال فوزه استسلاما لغرابة التطلع الأمريكي إلى "التغيير" وخلاصا من فجاجة صياغة الجمهوريين بقيادة بوش والمحافظين الجدد للخريطة الأمريكية المتفجرة بأحوال الحرب والإرهاب وزعامة العالم الخ. والنكهة الأكثر أصالة بحق حتى هذه المرحلة من تقدم أوباما هي معنى قبول مجتمع رأسمالي حديث لإفرازات التنوع الثقافي داخله حتى لو استخدم ذلك لغرض عملي أو لآخر، فأوباما يدخل على "عالم الأمريكيين" عبر نخبتهم الرأسمالية، التي ترغب في تنمية استثمارات وتجارة وزعامة أمريكا بطريقة أخرى، يمكن أن تبتعد عن الحرب وصراع البترول وتجارة السلاح. فثالوث بوش هذا يمكن استبداله بالرأسمالية التقنية، والتبادلية التجارية، ودبلوماسية التعارف لا التكبر حسب ما ورد في برنامج أوباما والتحالف الأنجلو سكسوني المساند والخبير في المجالين (ومن أهم وسطاء أوباما بلير وسوروس وماردوخ في حملته لجمع التبرعات!). هذا الجناح الرأسمالي الهادئ عموما هو الذي يستطيع أن يواجه الجناح الجمهوري المتعجرف، بل ونفاق هيلاري كلينتون غير المأمون لمصالح هذه الطبقة، حيث بدت في كثير من تعاملاتها مع الموقف أقرب إلى الجمهوريين. في هذا الجو إذن يمكن لأوباما أن يكسب قاعدة شعبية من الطبقة الوسطى والفقراء لتستمع لخطاباته الذكية، وقد تدفعه إلي حكم هذا المجتمع المتنوع التكوين والمزاج!
* نفوذ كلينتون
ولأن أوباما وشخوص حملته ذوو ذكاء واضح فعلا، فإنه رتب لهذا الوضع منذ نجح عضوا في مجلس الشيوخ، وأظن أن اللوبي صاحب المصلحة هو الذي أعدّ له ذلك باقتدار. فها هو شاب خريج هارفارد وكولومبيا، ذو أصول في طبقة أفريقية فقيرة، وتعليم آسيوي أيضا، وعائلة مسلمة ومسيحية، وقاعدة نخبوية أمريكية من شيكاغو إلي نيويورك، وفصاحة وعلاقة، تجعله شبيها بطلعة أنتوني بلير في إنجلترا، وبأفضل من أن يكون وريثا لعائلة كلينتون. هنا يشبهه البعض بجون كيندي، في انفتاحه علي الداخل والخارج في آن. وهذا ما يفيد اللوبي الرأسمالي الهادئ والمختلف عن ذلك الذي قاده المحافظون الجدد! وهنا أيضا لعب أوباما بالعلاقة مع أفريقيا، وخدمه في ذلك أصدقاء فنانون في إبراز هذا الجانب بهدوء ذكي، فثمة فيلم عن الرئيس في البيت الأبيض عن شخصية مماثلة منذ نجح أوباما بمجلس الشيوخ عام 2004 وبعده يزور أفريقيا عام 2006 متحركا من حدود الصومال ومآسيه وملابس شيوخه، إلي قرية أليجو وجدته الأفريقية في غرب كينيا إلي جزيرة روبين آيلاند التي كان مانديلا سجينا بها لربع قرن، تذكيرا بموقفه أيضا مع الحملة المناهضة للعنصرية في جنوب أفريقيا فترة شبابه، إلي معسكرات اللاجئين بين دارفور وتشاد للاستفادة من هوجة أو موضة دارفور في الأوساط الأفروأمريكية ومنظمات الإغاثة والعمل الأهلي التي تسانده في حملته الشعبية علي نطاق واسع ! لكن أوباما لا يغامر ضمن تلافيف برنامجه الرسمي المنشور علي موقعه الخاص أو في خطبه عموما بأي أحاديث أبعد من المآسي الإنسانية وإبادة الجنس في دارفور والصومال ورواندا والكونغو وليبيريا إخ. وهو يتغلب علي "مشكلة والده المسلم" بالحديث عن خبرته مع والدته المسيحية في إندونيسيا، ويؤلف عن أحلام والده كمهاجر طموح لأمريكا حاول الخروج من عباءته (وأظنه يقصد تلك العباءة الاسلامية)! وهو الذي زار كينيا منذ 1987 أكثر من مرة لا يلح على ذكر تلك الأصول. لا يشارك أوباما إذن في الغناء علي "ليلى" العرب ولا الأفارقة ولا الأسيويين كما يحاول البعض جذبه لذلك، وتسمح الأحاديث الانتخابية بالطبع بالتوسع في الكلام لترضية جميع الأطراف إن لزم الأمر!
يجب ألا ننسى بالطبع أن أوباما مرشح الحزب الديمقراطي الأمريكي في النهاية، بأغنيائه وفقرائه. وهو لم يشأ أن يردد الصياغات المرنة والجذابة أحيانا التي صاغها ذلك الحزب قبل بوش، لان تلك الصياغة كانت من صنع عائلة كلينتون المنافسة. صياغة اعتمدت مثلا علي حصار العراق لا ضربه، وعلى تعزيز مكانه "جيل جديد من القادة الأفارقة" أصبح معظمهم من أصدقاء النظام الأمريكي الحميمين، وعلى مبدأ "التجارة لا المعونة" لإنقاذ ميزان المدفوعات الأمريكية وإن ضاعف بؤس الجماهير الأفريقية وفق مبادئ منظمة التجارة العالمية التي ترسخت في عصر كلينتون. ثم كان نظام المؤتمرات الرئاسية الأمريكية الأفريقية آخر إنجازات كلينتون قبل أن ينتقل التقليد نفسه إلى الصين والهند واليابان لتطوير العلاقات الاقتصادية.
فقط لأن "مدام كلينتون" كانت في السرادق المجاور، لم يستطع أوباما أن يؤكد – علنًا - التزامه بنفس خطوط سياسة الحزب الديمقراطي التي صاغها الرئيس كلينتون. وكان غلافها التسلل في سلام ولطف إلي زعامة العولمة الأمريكية، أما غلافها الجديد، فعليه وجه جديد فعلا يحمل اسم أوباما رمزا لرغبة أمريكية تبدو جامحة من أجل التغيير السلمي لسياسة بوش الوحشية، مع حفظ كل الحقوق.
(عن "الأهالي" المصرية، بتصرّف)
حلمي شعراوي *
الأثنين 30/6/2008