جبرين يُطرب آذان المدينة بأنفاس الرعاة



نابلس- جميل ضبابات- عندما ينفخ محمد جبرين زفيره بقوة في أنبوبة خيزرانية مجوفة طولها لا يتعدى (40 سم) وسط مدينة نابلس في الضفة الغربية، تخرج ألحانا جميلة تجذب اهتمام المتسوقين في الأسواق المكتظة.
 وعندما يحرك أصابع يديه على ثقوب الأنبوبة لتعديل اللحن المنساب منها تتغير درجات قوة اللحن فيردد بعض المارة الذين طربت آذانهم مقاطع من أغان فلوكلورية مختلفة بطريقة عفوية، وبعضهم يمضي في طريقه والبعض الآخر يقترب من العازف أكثر لسماع كل اللحن.
قبل عشر سنوات كان جبرين شابا عاديا يعمل في مهن مختلفة ويقيم في إحدى قرى الخليل جنوبي الضفة الغربية، لكن هناك من أرشده إلى اقتحام عالم الفن وتعلم صناعة بعض الآلات الموسيقية.
والآن أصبح جبرين (37 عاما) معروفا على مستوى الضفة الغربية بصنع آلة الشبابة وعزفه ألحانا جميلة عليها.
واقفا في ظل بناية العنبتاوي أشهر البنايات القائمة وسط نابلس، يجذب جبرين زبائنه بمواصلة العزف على شبابته المصنوعة من الخيزران المستورد من مصر.
مرة يعزف الشاب ألحانا محلية، ومرة عربية، وأحيانا يحاول إعادة تلحين أغانٍ لعمالقة الغناء العربي مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم.
وقال مناديا أحد المارة "تعال اسمع سيرة الحب لأم كلثوم، وسواح لعبد الحليم حافظ".
وأضاف "الشبابة هي الآلة الموسيقية التي تخرج الهموم من القلب". يردد المعنى ذاته أحد الرجال من قرية قريوت، قال إنه يريد شراء شبابة ليهديها لأحد كهول القرية كان فيما مضى عازف شبابة مشهورا، مضيفا" سيكون سعيدا عندما أهديه هذه الشبابة".
وقال هذا الرجل إن أنفاس الرعاة هي الأفضل لإخراج لحن جميل من الشبابة.
عادة ما يعزف الفلسطينيون على الشبابة في حفلات الأعراس. ويصاحب العزف أداء الشبان المدعويين لحفلة الدبكة الشعبية الفلسطينية المعروفة على مستوى العالم.
وعندما كان جبرين يعرض أدواته الموسيقية وسط مدينة أريحا السياحية، كان شبان من المدينة يحثونه على العزف كي يؤدوا الدبكة وسط السوق التجارية حتى ساعات متأخرة من الليل.
في نابلس يكتفي العازف بالعزف دون دعوة أحد للمشاركة الفعلية في الدبكة، وعندما عزف ألحان إحدى أغاني سميرة توفيق تحلق حوله عدد من المارة وأرخوا سمعهم للحن دون أن ينبسوا بكلمة حتى انتهى.
 فقام احدهم بشراء آلة، وعندما حاول العزف عليها خرج لحن نشاز فضحك الجميع.
وقال جبرين الذي ينحدر من عائلة يتقن معظم رجالها العزف قبل أن يزم شفتيه حول طرف الشبابة "اسمع هكذا العزف على الشبابة 100%". وعزف الرجل لحنا لأغنية الفنان الأردني الراحل عبده موسى المشهورة التي ترافقها الربابة  (يا عنيد يا يابا).
يصنع جبرين الشبابة الواحدة في حوالي 15 دقيقة، وكل مرة يعرض في نابلس نحو 300 منها يستغرقه صنعها نحو يومين من العمل الشاق، لكن عمله مؤخرا لم يعد يقتصر على الجمهور الفلسطيني فهناك الكثير من اليهود يشترون الشبابات منه عندما يعرضها في منطقة البحر الميت.
وقال جبرين الذي يتميز صوته ببحة تساعده على ترديد الأغاني الحزينة بإتقان "عندما ابدأ بالعزف يتراكضون علي- الكل يحب الشبابة عربا ويهودا وأجانب من جنسيات أخرى".
وجبرين الذي جال تقريبا مدن الضفة الغربية يعرض فيها الشبابة، وجد في نابلس آذانا صاغية لأدائه الموسيقي ليس بين الشبان فقط بل في صفوف النساء اللاتي يرتدن الأسواق.
"سماع اللحن غير مقترن بجنس محدد، الكل يحب الشبابة" قال جبرين مشيرا إلى أنه مثلما يشتري الرجال هذه الآلة هناك نساء يشترينها أيضا.
عندما توقف شبان لشراء هذه الآلات الموسيقية منه حثوه على العزف، وعندما فعل وعزف موسيقى لاحدى أغاني الرعاة التقليدية حركوا أقدامهم في حركات أقرب إلى دبكات ساخرة.
في المجتمعات العربية يشترك الرجال في أداء الدبكات والرقصات الفولكلورية التي تختلف من مجتمع إلى آخر، وبعضهم يمارسها في الشارع ولو عفويا مثلما يفعل بعض المراهقين الذين يمرون بجانب جبرين.
لكن يصعب في مجتمع محافظ مثل المجتمع الفلسطيني رؤية قدود النساء تهتز وتتلوى على وقع ألحان الشبابة وسط الشارع.
في نابلس التي يحيط بها عدد كبير من التجمعات الريفية يهوى الرجال سماع ألحان الشبابة لكن قليلا منهم يتقن العزف عليها الآن.
 وتعتبر الشبابة من أقدم الآلات الموسيقية التي عرفها الإنسان، وفي منطقة الشرق الأوسط عرفت هذه الآلة الموسيقية منذ آلاف السنين.
اقترنت الشبابة في الأراضي الفلسطينية بمهنة الرعي، وكثيرا ما تذكر الروايات والأشعار الشعبية الرعاة الذين عزفوا للحيوانات البرية أثناء رعيهم المواشي.
على الشبابات التي يصنعها ويبيعها جبرين طبعت عبارة تشير إلى السيرة التاريخية لهذه الآلة باللغة الإنجليزية لجلب نظر السياح: "جاء الرعاة إلى موقع الميلاد يحملون الشبابات".
وفي ذلك إشارة إلى ميلاد السيد المسيح في بيت لحم.
ثمة مثل سائر عند الشعراء الغنائيين الفلسطينيين بأن راعيا مهوّسا بحبه للعزف على هذه الآلة ظل يعزف على شبابته حتى استطاع أن يروض مها برية جامحة ومتمردة بألحانه الجميلة.

الأحد 29/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع