ماذا لو أصبح أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية !



اجتاز باراك أوباما عقبة كأداء بتغلبه على منافسته العتيدة والعنيدة هيلاري كلينتون في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي، وبذلك أصبح المرشح الذي سيواجه مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين في الانتخابات الرئاسية التي يحين موعدها في نوفمبر القادم. ولأنه لم يسبق لأي مواطن أمريكي من أصول إفريقية أن وصل إلى حلبة المنافسة على منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاء إنجاز أوباما بمثابة زلزال هز أركان النظام ومن المتوقع أن تكون له توابع وتداعيات قد تغير من الأسس التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي ذاته على المدى البعيد. لذا لم يكن من المستغرب أن تبدأ دوائر التفكير الاستراتيجي الأمريكي في تحري ورصد حقيقة ما جرى بالأمس وما قد يجري غدا من تغيير في المشهد الأمريكي عبر عنه أحد كتاب صحيفة الواشنطن بوست، وهو يوجين روبنسون، في مقال بعنوان: "أوباما يعيد صياغة التاريخ الأمريكي".
يرى كثير من المراقبين أن ما حققه أوباما حتى الآن أكبر بكثير مما كان متوقعا، الأمر الذي يوحي ضمنا بأن فرصه في الوصول إلى البيت الأبيض تبدو ضئيلة. غير أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الرغبة في التغيير، والتي تفور في أحشاء المجتمع الأمريكي منذ فترة ليست بالقليلة، هي التي ولدت التيار الملتف الآن حول أوباما. ولأنه ليس من المتصور أن يكتفي هذا التيار الواسع "بشرف المنافسة على مقعد الرئاسة" ، فالأرجح أنه لن يهدأ بالا قبل أن يتمكن من الوصول بمرشحه المختار إلى خط النهاية ويقوم بإجلاسه فوق مقعد الرئاسة في البيت الأبيض.
ولأنني شخصيا لا أستبعد ذلك فلا شك أنني سأصاب بدهشة كبيرة، وليس فقط بخيبة أمل، إذا قدر لجون ماكين أن يفوز في تشرين الثاني المقبل. وقد يبدو للبعض أنني أنطلق في تقديري لهذا الموقف من انحيازات أو رؤى أيديولوجية مسبقة. ورغم اعترافي بصعوبة الوقوف على الحياد في مسألة كهذه، إلا أنني أعتقد، مخلصا، أن أوباما يقف فيها على أرض صلبة. فهناك قطاعات ودوائر أمريكية عريضة ترى أن المجتمع الأمريكي يمر حاليا بأزمة عميقة ويدرك في الوقت نفسه أنه لن يكون بوسعه تجاوزها أو التغلب عليها إلا من خلال حلول غير تقليدية بات عليه أن يتحمل تكاليفها. وأظن أن ما جرى في الانتخابات الأولية به من الدلائل ما يكفي للتأكيد على أن حيوية المجتمع الأمريكي أفرزت "ظاهرة باراك أوباما" كرد غير تقليدي، على أزمة غير تقليدية ، في لحظة تاريخية فريدة وبالتالي غير تقليدية.
لقد أثبتت حملة الانتخابات التمهيدية أن أوباما يتمع بكاريزما هائلة وبمواهب مكنته من تجاوز العديد من العوائق والعقبات بل ومن توظيفها لصالحه لتصبح ، في سياق الأزمة التي تعصف بالمجتمع الأمريكي حاليا، جزءا من الحل وليس من المشكلة،. ففي الظروف والأحوال العادية كان يمكن لصورة أوباما أن تصبح في ذهن المواطن الأمريكي أقرب إلى صورة معتقل في سجن غوانتانامو، وفقا للتعبير المستخدم من جانب أحد المحللين الأمريكيين، فهو شاب في الأربعينات، توحي سحنته بأصله الأفريقي، ويحمل اسما غريبا (باراك حسين أوباما) ورثه عن أبيه الكيني المسلم، وتشير سيرته الذاتية إلى أنه امضى بعض سنوات طفولته في مدرسة إسلامية في إندونيسيا. وتلك سمات تكفي أي واحدة منها لاعتراض طموح شاب يريد أن يشق طريقه في بلد كالولايات المتحدة، ناهيك عن أن يصبح رئيسا لها، غير أن أوباما يعي في الوقت نفسه أنه مواطن أمريكي مائة بالمائة، ولد على أرض أمريكية لأم أمريكية بيضاء، وتربى تربية مسيحية في كنف جده وجدته لأمه حين قضى معهما معظم فترات المراهقة والشباب، وتعلم في أرقى الجامعات الأمريكية (كاليفورنيا وكولومبيا وهارفارد) وأصبح أستاذا للقانون في إحداها (جامعة إلينوي).
وكان هذا كافيا بالنسبة لشاب في موهبة وذكاء أوباما كي ينتخب عام 1996عضوا في مجلس شيوخ ولاية الينوي التي أقام فيها، ثم عضوا في مجلس الشيوخ الفيدرالي ممثلا للولاية نفسها عام 2004 لكن أن يقوده طموحه للتطلع إلى رئاسة الولايات المتحدة نفسها ، فقد بدا هذا وكأنه المستحيل بعينه بالنسبة لشاب في مثل سخنته واسمه،وهنا تجلت قدرات أوباما ومواهبه بأروع وأرقى ما يمكن أن تكون عليه القدرات والمواهب. لقد أدرك أوباما عمق الأزمة التي يمر بها المجتمع الأمريكي في تلك اللحظة التاريخية الفريدة ، وقرأها قراءة صحيحة خلص منها إلى أن هذا المجتمع يحتاج في هذه اللحظة تحديدا إلى قيادة قادرة على صياغة خطاب سياسي من نوع جديد يعتمد "التغيير" شعارا له. وقد اعتبر أوباما أنه الشخص المؤهل طبيعيا للقيام بمثل هذا الدور، وأثبتت الأحداث أنه ربما كان محقا في ما يراه، خصوصا وأنه استطاع ، بكاريزميته ومواهبه الخطابية الفذة، أن يصوغ خطابا سياسيا راقيا ومقنعا تمكن من الوصول والنفاذ إلى أسماع الجميع، بصرف النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم وولاءاتهم الدينية والأيديولوجية، ويذكرهم بالوجه الأمريكي الآخر الأكثر إشراقا والذي كادوا ينسونه بسبب تنكر بوش له وإساءته إليه. لم يكن التغيير الذي عكف أوباما على رفع شعاراته غامضا أو نظريا وإنما بدا واضحا وقابلا للتحقيق، وبالقدر اللازم فقط لتمكين أمريكا من العودة إلى روحها القديمة كما صورها الآباء المؤسسون. من هنا اختياره لشعار "التغيير الذي نستطيع أن نؤمن به: the change we can believe in"، وهو شعار بسيط وجميل بدا خاليا من أي مظاهر "ديماغوغية".
ولأنه سبق لأوباما أن اتخذ مواقف مناهضة للحرب على العراق وصوت في الكونغرس ضد شنها، فقد بدا شديد الاتساق مع نفسه، ومن هنا تمتعه بمصداقية لم يحظ بها أي من المرشحين الذين رفعوا مثله شعار "التغيير". لذا لم يكن غريبا أن تلتف حوله ملايين المواطنين من مختلف الأعمار والأجناس والطوائف الأديان في مشهد ذكر الجميع بالروح التي سادت المجتمع الأمريكي أيام مارتن لوثر كينغ. لو أن هذه الانتخابات التمهيدية كانت قد جرت في ظل ظروف عادية أو طبيعية لكان من الصعب على مرشح من نوع أوباما أن يصمد لأيام معدودة في وجه مرشحة في حجم هيلاري كلينتون. فقد تمتعت، بحكم وضعها كزوجة لرئيس امريكي سابق وناجح، بخبرة كبيرة في الشؤون الداخلية والخارجية يصعب مقارنتها بخبرة أوباما المحدودة. ولأنها سيدة معروفة ومحنكة، فقد كان من الطبيعي أن تصطف وراءها حركة نسائية قوية بدت أكثر ثقلا وتأثيرا من أي حركة للسود يمكن أن تصطف وراء أوباما.
أما وقد جرت الانتخابات في ظروف استثنائية خلقتها حالة مجتمع يتمزق ويتوق للتغيير في لحظة تاريخية شديدة الخصوصية ، فقد كان من الصعب على مرشحة تقليدية من نوع هيلاري كلينتون أن تتفوق على مرشح من نوع باراك أوباما. ولأن هذا الأخير تمتع بما يكفي من مصداقية وموهبة لتحويل "الرغبة" إلى "تيار" تتبناه حركة شعبية واسعة ، فقد كان من الطبيعي أن تصبح يد أوباما هي العليا في الانتخابات الأولية ، رغم كل ما حظيت به منافسته من مزايا ومواهب شخصية. بعبارة أخرى ربما كان بوسع كلينتون أن تواجه وتتفوق على أوباما "الشخص" لكن ليس على أوباما "التيار". ويرى عدد من المراقبين أن انتصار أوباما أضر بفرص الحزب الديمقراطي في كسب معركة الانتخابات النهائية واستعادة البيت الأبيض من أيدي الحزب الجمهوري. أما حجتهم في ذلك فتتركز على أن الانتخابات الأولية طالت بأكثر مما ينبغي واستنفدت طاقة الحزب وعمقت الانقسامات داخل صفوفه. غير أننا لا نتفق مع هذه الرؤية. فهناك دلائل تشير إلى أن كفة أوباما سترجح على كفة ماكين لسببين ، الأول: تفوق أوباما في مجال جذب الأموال لدعم حملته الانتخابية ، وهي ظاهرة جديدة تماما بالنسبة للحزب الديمقراطي ، حيث تمكن من جمع ما يزيد على 250 مليون دولار خلال الانتخابات التمهيدية ، منها 55 مليون دولار خلال شهر فبراير الماضي وحده ، والثاني: قدرته الفريدة على تحريك وتعبئة شرائح وقطاعات لم يسبق لها أن أبدت اهتماما يذكر بالنشاط السياسي ، حيث وصل عدد المتطوعين في حملته الانتخابية إلى أكثر من 750000 (ربع مليون) متطوع حتى الآن. ويعود الفضل في ذلك إلى الشباب المحيطين به والذين يشكلون العمود الفقري لحملته الانتخابية ، وقدرتهم الفائقة على استخدام "الشبكات الاجتماعية الافتراضية" المتاحة على الانترنت ، حيث تمكنوا ، على سبيل المثال ، من اجتذاب حوالي مليون وثلاثمائة ألف متبرع لحملته الانتخابية على شبكة الانترنت، إذا صح هذا التحليل ، وأظن أنه صحيح في حدود ما هو ظاهر ومتاح من معلومات حتى الآن ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو أصبح أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ، هل ستتغير السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وبالذات وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي؟ يعتمد أكثر المراقبين ، عند محاولتهم الإجابة على هذا السؤال ، على تحليل مضمون خطب وتصريحات المرشح الفائز لتحديد موقفه من القضايا المختلفة واعتبارها اساسا صالحا لاستكشاف معالم ومحددات سياساته المستقبلية تجاه القضايا والمناطق المختلفة.
ولذلك أصيب أكثر المتحمسين العرب لأوباما بصدمة حين فاجأتهم تصريحاته في مؤتمر "إيباك" الأخير ، والتي أعلن فيها تأييده للقدس "مدينة موحدة وعاصمة أبدية لدولة إسرائيل اليهودية" ، حيث بدت سياسته وكأنها صورة طبق الأصل لسياسة بوش. غير أن هذه الطريقة في التحليل تنطوي ، في تقديري ، على خطأ منهجي واضح. فخطب وتصريحات المرشحين تصاغ لأهداف انتخابية بحتة ، أما السياسات الفعلية التي تصاغ عند تولي المسئولية الفعلية ، وخاصة في مجال السياسة الخارجية، فترسمها موازين قوى ومصالح تتحدد وفقا لمنطق ومن خلال آليات أخرى تختلف كليا عن منطق وأليات الحملات الانتخابية.
وللتعرف على ملامح السياسة المحتملة لأوباما تجاه المنطقة يتعين أن ندخل في تحليلنا مجموعة من العوامل والاعتبارات أهمها:
1 - أن السياسة الخارجية سوف تلعب في هذه الانتخابات دورا أكبر من المعتاد في تحديد اتجهات التصويت لدى الناخبين.
2 - أن قضية العراق ستكون هي أكثر قضايا السياسة الخارجية تأثيرا في تحديد اتجاهات التصويت والفرز بينها.
3 - أن فوز أوباما في الانتخابات هو نوع من التصويت بالثقة لصالح التغيير على كافة المستويات والأصعدة. ووفقا للمنطق الكامن وراء هذه الاعتبارات الثلاثة ، من المتوقع أن يحثل البحث عن مخرج مشرف لانسحاب القوات الأمريكية من العراق موقع الصدارة على جدول أعمال السياسة الخارجية في عهد أوباما ، وأن تعالج هذه المسألة من منظور براجماتي بحت ، وليس وفق رؤية عقائدية مشتقة من أطروحات مسيحية - صهيونية ، مثلما كان عليه الحال في إدارة بوش. ومن المتوقع أيضا أن يقود العمل في هذا الاتجاه إلى تقارب مع كل من إيران وسوريا. صحيح أن هذا التقارب سيكون في حدود ما تفرضه ضرورات البحث عن مخرج مشرف يتيح للقوات الأمريكية الانسحاب من العراق ، لكنه سينعكس حتما على الموقف الأمريكي من قضايا تهم سوريا وإيران بعضها له صلة وثيقة بالصراع العربي - الإسرائيلي. ولأن إسرائيل لا تريد لهذا التقارب أن يحدث أبدا ، فالأرجح أنها ستبذل كل ما في وسعها لتغيير المعطيات الخاصة بهذه الأوضاع قبل انتهاء ولاية بوش ، إما بالعمل على سحب سوريا بعيدا عن إيران ، بالتلويح بإعادة الجولان ، تمهيدا لتوجية ضربة عسكرية لإيران ، أو ، في حالة فشل هذا الخيار ، بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا وإيران معا. غير أن احتمالات نجاح إسرائيل في تحقيق اي من أهدافها على هذا الصعيد تبدو محدودة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن قوى التغيير في الولايات المتحدة تضم الآن أصواتا قوية تطالب بوضع حد للانحياز الأمريكي السافر لإسرائيل ووضع خطوط فاصلة بين مصالح البلدين ، فمن المتوقع أن تنشط هذه القوى أكثر في حال فوز أوباما. لذلك نعتقد أن إسرائيل ستلقي بثقلها من وراء ستار للحيلولة دون وصول أوباما إلى البيت الأبيض. لكن قد لا تستطيع هذه المرة.

حسن نافعة
الأحد 29/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع