الثماني السمان



ذكرتُ في مقال سابق عن ما جاء كتاب مروان كنفاني "سنوات الأمل"، أنه غداة حرب الخليج، في وضع كان عرفات فيه يعاني من العزلة السياسية حتى من الدول العربية، بسبب تأييده لصدام حسين، وفي ظروف تحولت فيها الانتفاضة إلى نزاعات داخلية خطيرة، في الوقت الذي قبعت فيه القيادة الفلسطينية بعيداً في تونس، قال عراف هندي لعرفات أنه خلال سنتين سيكون في فلسطين، وآنذاك كان هذا القول ضرباً من الخيال..
يرفض كنفاني طبعاً كل هذه "التنبؤات" التي قد تصيب مرة وتخطئ مراراً، ولكن في كتابه يتحدث عن شيء ما حدث في سياسات الدول العظمى التي قررت أن هنالك حاجة، لن أدخل في أسبابها، للتقدم في المسار الفلسطيني وتحقيق فسحة من الهدوء، بعد سنوات من الدم.
هل نحن اليوم بصدد شيء مماثل؟ لا أعرف ولكن هناك أموراً تدعو للتوقف عندها، بدأ ذلك باتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية المتخاصمة، فجأة تمنح الأطراف الخارجية العالمية والمنطقية موافقتها على الاتفاق، ويتم انتخاب رئيس الدولة اللبنانية، وفجأة هنالك انفتاح نحو سوريا، وفرنسا التي جعلت من بشار الأسد "مسخاً"، يصبح شخصاً مرغوباً به في قصر الأليزيه.
من جهة أخرى فإن حزب الله على وشك توقيع اتفاق مع إسرائيل لتبادل الأسرى، وهنالك حديث ويظهر أنه جدي حول مستقبل مزارع شبعا، نقطة الخلاف الأهم بين لبنان وإسرائيل. ومن جهة ثالثة، وبعد أشهر من "المراجل" لاجتياح غزة، وحرق الأخضر واليابس فيها، تُنبت هذه التهديدات اتفاق التهدئة، وفي خضم ذلك، هنالك أجواء أخرى بين فتح وحماس.. أجواء تبشر بشيء جديد.
طبعاً، كانت هنالك "القنبلة" الايجابية، التي نفّست سنوات من التحريض على سوريا، هذه القنبلة التي تمثلت بالمفاوضات السورية الإسرائيلية، غير المباشرة، بوساطة تركية. فجأة.. لم تعد سوريا جزءاً من محور الشر وثبت أنه من الممكن التفاوض مع سوريا، وفجأة.. لم تعد سوريا "ملجأ الإرهاب الدولي".        
هل انتهت السبعة العجاف (التي أصبحت ثمانية في عصرنا- أي دورتين رئاسيتين في البيت الأبيض)؟ هل هي أجواء قدوم براك أوباما الذي يعلن أنه سينسحب من العراق وسيتفاوض مع أحمدي نجاد وسيقيم علاقات مع كوبا؟
يظهر أن الحياة تحب الأضداد، أمام المتطرف من المفضل أن يكون قبالته متطرف نقيض، وأمام المعتدل ستجد المعتدل، وهكذا: خاتمي أمام كلينتون، أحمدي نجاد أمام بوش. الجواب الفلسطيني لشارون هو حماس. وفي حينه فعل شارون كل ما في استطاعته من أجل التخلص من عرفات، مع إنه كان يدرك جيداً أن البديل لعرفات في الجانب الفلسطيني لن يكون "مؤيدو بيتار".
النقيض يحب نقيضه، لأنه النقيض يُظهره بالضبط كما هو.. المتطرف يرى في المتطرف النقيض فرصته لتأكيد نظريته، والمعتدل يفتش عن المعتدل من أجل إثبات نظريته. الليكود لكي يثبت نظريته، يريد نهجاً فلسطينياً رفضياً ليثبت أنه "لا يوجد شريك".. قوى السلام في إسرائيل تفتش عن تيار ينادي بحل الوسط التاريخي، بالضبط لإثبات نظريته أنه "يوجد شريك".
ويظهر أن هذا الصراع بين الخط المتشدد وبين التيار العقلاني، مستمر ولن يكون هنالك حسم، مرة يسود هذا الخط، وفي المرة التالية يسود نقيضه.. والحياة ستستمر في ظل هذا الصراع. بطل رواية "صندوق مغلق" للكاتب عاموس عوز يناقش مقولة السعادة يقول أنه  يوجد فرح ولا توجد سعادة، لأن السعادة أبدية بينما الفرح محدود بالزمان.
 نفرح حيناً ونحزن حيناً.. ولكن حتى حين تشتد حلكة الظلام من الضروري أن يكون هنالك من يواصل ولو بشمعة صغيرة إنارة الدرب لتقصير أجل الظلمة.

 

فن السياسة

المدة الآن هي ثلاثة أشهر بالتمام والكمال.. وهي فرصة لم يحلم بها أولمرت الذي عندما يستيقظ صباحًا لا يعرف أين سينتهي به النهار: هل سيكون في اجتماع رئاسي فخم في شرم الشيخ أو غرفة التحقيق، في حضرة ثلاثة محققين أشداء.
هل هذه الحكومة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. هذا ما يظهر، وإلا فماذا يعني أن يفرض براك من حزب العمل، أجندته على حزب آخر، كاديما، وزعيم هذا الحزب، أولمرت، كان قد هدد قبل يومين من ذلك بإقالة من يقوم اليوم بفرض البرايميرز عليه.. هذا الاتفاق بصيغته الحالية يحتاج إلى مهلة من الوقت لاستيعاب تفاصيله وعبثيته. ولكن الحقيقة أن لا براك ولا أولمرت، هما المسؤولين عن عسر الفهم هذا. فداحة التهم ضد أولمرت هي السبب ومن جهة أخرى مقدرة الأخير على الصمود (كما قال ناحوم برناع، دون معاناة ترجمة هذه الكلمة للعبرية)، تفسر عبثية هذا الاتفاق.
بالنسبة لأعضاء الكنيست من الجبهة والكتل العربية، كان واضح أن التصويت لصالح حل الكنيست هو تقديم رئاسة الحكومة على طبق من فضة لنتنياهو، وباعتقادي أن موقفهم الواضح بهذا الشأن ساهم في منع سقوط أولمرت. إنقاذ أولمرت أمر صعب على "الهضم"، وبحق، في الشارع العربي، ولكن أصعب من ذلك بكثير هو "هضم" مساهمة العرب في عودة نتنياهو إلى سدة الحكم..
ولهذا، يسجل للجبهة ولعدد من أعضاء الكنيست العرب، مقدرتهم على قراءة الخارطة، ومقدرتهم على استعراض البدائل وبالتالي على نبذ البديل الأكثر سوءاً. من الواضح أن هذا الموقف لم يكن مقابل ثمن، لأنه موقف ناتج عن قناعات وبرأيي أنها قناعات صحيحة، ولكن يمكن استثمار الموقف الصحيح، باتجاه تحقيق انجازات للمواطنين العرب وللشرائح الضعيفة في المجتمع الإسرائيلي، وهذا الأمر يعني "شغل سياسة"، في فهم الإمكانيات لعقد تحالفات عينية لتحقيق انجازات حتى لو كانت صغيرة، لأن السياسة في النهاية هي فن، وتراكم الانجازات، في شتى المجالات يؤدي إلى التغيير النوعي.. السلام وإحقاق الحقوق.

عودة بشارات
السبت 28/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع