"الحل!"، أو: إشكالية "ألـ التعريف" في السياسة
قبل سنوات كتبتُ مقالة لم تخلُ من سذاجة ورَدَ فيها سيناريو متخيّل لما بعد إنجاز تسوية سياسية ممكنة بين شعبنا وبين مؤسسة دولة اسرائيل. فجمَحَ خيالي المتفائل نحو صورة لمظاهرة مشتركة، فلسطينية- اسرائيلية يخطب متحدثوها ويهتفُ من يشارك فيها ضد مشروع اقتصاديّ خاص ومشترك يجتمع عليه مسؤولان، إسرائيليّ وفلسطينيّ، مرتبطان برأسمال أمريكيّ. كانت خلاصة الاستعارة: اجتماعَ الشعبين في خندق مقابل سلطتين متخندقتين معًا في متراس مضادّ، ويا لها من نظرة حادة (مأمولة) ترسم خيطًا أحدّ بين السلطة والشعب؛ بين السلطات والشعوب. يجب التنويه: لا مجال لمقارنة قامع ومقموع، صحيح. ومع ذلك فليس من أحد بمقدوره ضمان عدالة أية سلطة مهما كانت دربها مزروعة بالثورية. ويُقال هذا بمزيد من الأسف، وبشيء من محاولة استيعاب تجارب التاريخ! مع ذلك، بنظرة خاطفة للوراء، لا تزال تلك السذاجة محبّبة عليّ، على الرغم من إفراطها فيما قد يصحّ تسميته بالرومانسيّة الثورية.. وكيف سنحافظ على وهج الفكرة دون أمل، وكيف سنمتلئ بالأمل لولا الحلم؟ فالحلم ليس وهمًا فقط، بل إنه، ربما، أحد تجليات الإرادة، أو أحد أفعالها الممهّدة لتحقيقها. والإرادة بدورها كثيرًا ما تكون سابقة للفكرة الواضحة. أتمعّن في ذلك فأرى أن تلك الصورة المتخيّلة الساذجة أعلاه لا تخلو من مرتكزات في الواقع. مثلا، ها هم سادة أنابوليس أمريكا الرسمية يواصلون مساعيهم غير الحميدة لهندسة مستقبل الشعبين في بلادنا كدالّة ثانوية مرافقة لمشاريع الهيمنة الأساسية التي تهمّهم. أسس بنايتهم السياسية المخططة لا تقع تحتها، ولو على مقربة تحاكي المحاذاة فقط لمصالح الناس الحقيقية، بل إنها أسس عجيبة تناقض مفهوم "الأساس" نفسه. فهي تتأسّس من فوق الى تحت. لكن الطبيعة نفسها لن تحتمل هذا. الحلم والارادة والفكرة معًا يجعلون المرء يتوقع أن ما يخططون له مهدّد بالتقوّض دومًا. إن ما يجري حولنا يحتاج الى قراءةً نقديّة جادة – تلك التي يجدر الإصرار عليها بالإرادة الحرّة أيضًا وليس بالفكرة فقط؛ وليس بأفكار تقليدية، منغلقة ومتوارثة بالتأكيد. لذلك أعتقد أنه يجب تجديد القراءات وتكرارها. فالقراءات المتجدّدة "تُجَوهر الذهن" مثلما أن "العمل يجوهر البدن"، كمقولتنا القروية الثاقبة. خصوصًا أن القراءة، الفعلية منها والتراكميّة، هي عملٌ أيضًا. مثلا، لربما يتوجّب السؤال: ما الذي تغيّر في الظروف المحيطة بتسوية "الدولتين"، الاسرائيلية والفلسطينية، منذ الأربعينيّات وحتى اليوم، بعد ستة عقود ونيّف؟ هل يعني هذا أنه يجب تغيير مقترح التسوية المرئيّ؟ ليس بالضرورة. ولكن هذا لا يعني التهرّب من قراءة الظروف دومًا. والظروف بالطبع في حالة تغيّر دائم، كسيولة نهر هيروقليطس - أحد أكبر ملهمي كارل ماركس. ففي الظروف الحالية، مثلا، لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية مطابقة لنفسها، ولم تعد في الخندق المعادي للامبريالية تمامًا، لأن الخندق نفسه لم يعد بالوضوح نفسه، (لمن اعتاد القراءات المباشرة السهلة). هناك حالة من الالتباس الشديد قد ميّعت العديد من التعريفات والتحديدات السهلة، وتستدعي بالتالي إعادة النظر. ليس مناكفة لأحد ولا على سبيل الولع بتلك المناطحات اليسارية المراهقة؛ بل من باب محاولة عدم تضييع الهدف المتمثل بتحقيق العدالة، بدافع الخشية من فقدان "فردوس اليقين" أو "نعيم الإيمان" شبه المتديّن "بأننا كنا ولا زلنا على حقّ دومًا". لأننا سنظل على حقّ فقط طالما بقينا يقظين لأنفسنا وأفكارنا وممارستنا، وواعين للسيرورة التاريخية المتغيّرة التي تجمع كلّ ما سلف؛ وطالما بقينا مغيّرين وبالتالي متجدّدين ومجدّدين، مانعين بذلك الصّدأ عن الفكرة، وعن سجنها وتحويلها الى شرنقة تنذر بولادة كائن ممسوخ سيسجننا بعد حين في حدوده، لا محالة. منذ الأربعينيات الى اليوم لم تفقد من صحّتها التحليلات القديمة لدى الأحزاب الشيوعية في منطقتنا، فيما يتعلّق بتحديد طابع الحركة الصهيونية. ولا يعني الطابع جوهرًا ثابتًا بل إنه ما يُقرأ عبر متابعة الممارسات. صحيح، الحركة الصهيونية لم تعد مطابقة لنفسها أيضًا، بل، ككل طبيعي ومتوقّع، مرّت عليها وفيها تغيّرات. لكن لو افترضنا أن هناك "أساسيّ" و "ثانويّ" فيجب طرح السؤال حول ما إذا كان الأساسيّ في طابع الصهيونية قد تغيّر. مثلا، خلافًا للمزاعم القومية الإسرائيلية الراهنة المهووسة والمعزّزة بالديموغرافيا: هل غاب الطابع الاستعماري عن الممارسات الاسرائيلية-الصهيونية على الأرض، محليًا وإقليميًا وعولميًا؟ هل تغيّرت شبكة ارتباطات مصالح حكّامها ونخبها، داخليًا؟ هل تغيّرت، إقليميًا، نظرتهم للمحيط العربي الذي يعيشون بعدائية واستعلاء مقيتين في قلبه؟ هل أعاد أقطابها النظر في معنى وثمن وأثر وخطر الخدمات التي يواصلون تقديمها للمشاريع الإمبريالية؟ أعتقد أن الأجوبة على كل ما سبق من أسئلة لا تزال بالسّلب. ولكن هل يجب أن يعني هذا أن المخرج هو اليأس والوقوع في فخ تعريفات النيو-قوميات الجديدة التي تخلق تناقضًا عرقيًا تافهًا، لكنه خطير، بين "عرب ويهود"، لتغتال بالتالي الجوهر السياسي المركّب للصراع؟ مرة أخرى: الجواب لا. ماذا إذن، ما العمل؟ ربما أنه وسط هذه التلاطمات الضاجّة، يجدر بنا البحث عن يابسة ملائمة لوصولها عبر اعتماد بوصلة الديالكتيك بالذات. لنقف أمام التناقضات كي نستشرف ما هو ممكن من توليفات، بالتلاؤم مع مفاهيم السياسة وليس مع مفاهيم نفسيّات محترفي الرّدكلة السطحية – خلافًا لتلك المتعمّقة ذات البصيرة التي لا تنسى امتداد أفق البصر. ألا يجدر تحرير شعبيّ هذه البلاد من وعيهما الزائف المفخّخ بتسييسات القومية والدين عبر جعلهما (القومية والدين) هدفًا بحد ذاته وجوهرًا منغلقًا على نفسه؟ ألا يجدر بنا التأكيد والتثقيف على أن هناك سماءً خلف نقطة الأفق، مهما بدت هذه لانهائية؟ فالأرض كرويّة في نهاية المطاف، وأبعادها السياسية غير منفلتة في الفضاء السحيق، بل تعود كلّها لتلتقي هنا، على الأرض. وعلى هذه الأرض الصغيرة تحديدًا، يمكن ببعض الجرأة والحلم والتعمّق معًا رؤية أنه وسط حالة تقطيع الأوصال التي تقترفها الصهيونية الكولونيالية الراهنة، جغرافيًا وسياسيًا، لا يزال بالإمكان الأمل والعمل لكنس جميع الأسلاك الشائكة المقسِّمة الصدئة. لن يحدث هذا فورًا، ولا في الغد القريب طبعًا. ولا يعني هذا التنازل عن الموقف الواضح والمثابر بضرورة إنهاء حالة الإحتلال أولا (مع خط داكن تحت العبارة الأخيرة!). لكن، لا يُفترض بذلك أيضًا أن يعني جعل إنهاء الاحتلال نهاية للمطاف، وبالتالي تجميد مستقبل هذه البلاد في حالة تقسيم إثنية مؤبدة. فلا يمكن شطب علاقة أي فلسطيني بحيفا وعكا ويافا، ويجدر بنا احترام علاقة كل يهودي وجد نفسه هنا، بالقدس والخليل ونابلس- شرط ألا يقيم علاقته بشكل استعماري معها وفوقها. قبل سنوات سمعتُ من القائد الشيوعي توفيق طوبي خلال مقابلة معه لصحيفتنا، "الاتحاد"، أن مسألة اتفاق الشعبين مستقبلا على العيش في كيان مشترك، كونفدرالي أو غيره، تظلّ متروكة لقرارهما، وأن حل الدولتين ليس نهائيًا بالمطلق ولا بالضرورة. فالشعبان قادران على العثور على شكلٍ أكثر تطوّرًا لعيشهما المشترك في كل مرحلة قادمة – بعد إنهاء الاحتلال. هنا عليّ التأكيد: لستُ ممّن يعودون لفخّ الحلول المغلقة بعصبيّة، سواء كان: دولة واحدة الآن وفقط، أو: دولتان وانتهى الأمر! فهذا وذاك سيكونان تعبيرًا مؤسيًا عن فجاجة وسطحية التعاطي مع التاريخ باستسهال، وعن فشل التوصّل الى الاستنتاج الضروري بأنه يجب إتقان السير الحكيم دون أيّ إغفال لإيقاعات وحركة التاريخ، وعدم فرض المقولات الإعتباطية عليه كنشاز على النشيد. يشغلني مؤخرًا فرض "أل التعريف" في سياق السياسة. فكل وصف لأيّ تسوية على أنها "الحل" (بـ أل التعريف) من شأنه تقويض فكرة أننا نعيش تغيّرًا دائمًا؛ وهو ما قد يقود بالتالي إيداعنا مسبقًا في مربعات لم نصلها حتى بعد.. فما معنى القول إن "الحل" هو هذا أو ذاك وفقط، والهزء من مجرّد الإشارة الى وجوب رؤية المرحلة القادمة، من دون القفز الأهوج في عمق مياه لم نتدرّب عليها بعد، من جهة، أو القول إن الشاطئ القريب هو آخر محطات المحيط؟ لا أريد بهذا أن يُفهم كاستخفاف بأي رأي، بل كتحذير أشعر وأومن بأن الواجب الأخلاقي يفرض قوله. فما هو "الحل"، إذًا؟ ليس هناك "الحل".. هناك واقع تجب قراءته، يمكن تقسيمه الى الضروريّ الملحّ وهو إنهاء الاحتلال بجميع تجلياته وإحقاق جميع (جميع!) الحقوق الفلسطينية لأجل الوصول الى الأرضية الأولى السابقة بالضرورة (وهذا هو القسم الثاني) لمصالحة ممكنة بين الشعبين، بعد أن يتحرر اليهود (أو: بعد أن نساعد اليهود على التحرر) من المشروع الصهيوني المستعمر. فأي حل سيحقق آخر بنود 242 و181 لن يستحق تسميته بـ "الحل"، طالما لم تنبنِِ بعد ولم تتحقق مصالحة تاريخية معمقة وواعية بين الشعبين. وهذه المصالحة ليس بمقدور أية اتفاقية أن تضمنها حتى لو وُقّعت تحت كنف أي مجتمع دولي أو ما شئنا من تسميات مجمّلة للحلبة الدولية. أخيرًا: لا يجدر بالشيوعيّين، بالذات، الخشية من التأمّل في أيّ طرح لأن غيرهم هو من يطرحه. ولا معاداة أية فكرة لأنها لم تنتج في مصانعهم. فليست الفكرة المجرّدة هي ما يجب أن يهمّنا بقدر أهمية أهدافها والمُراد منها – تحقيق العدالة أو ما ظلّ ممكنًا منها. ويُقال هذا، مع أن الأحزاب الشيوعية في المنطقة رأت لسنوات أن الدولة الواحدة هي أكثر الحلول عدالة، دون إغفال لنسبيّة أي عدل في سياق السياسة، قبل أن تتم ملاءمة خط معظمها الذي طـُرح بقناعة، مع الخط الذي صدر فجأة عن موسكو الحمراء القديمة بقيادة المايسترو ستالين! خلاصة الأمر: لم نصل بعد، وربما لن نصل، مرحلة التحدث باسم الحلول المطلقة؛ قبل كل شيء لأنه من السذاجة التحدث عن حلول مطلقة، أو عن أية حلول، انطلاقًا مما اعتدناه من قوالب تفكير بدلا من إعادة قراءة ما يجري على الواقع ونسبه على الدوام الى معايير العدالة وحقوق الشعوب. وهذه الأخيرة هي المنطلق والهدف في آن معًا؛ هي المقياس؛ وليس أي بيان بروتوكولي مهما بلغت أهميته.
هشام نفاع السبت 28/6/2008 |