تشكيل بطعم الارض - جدليات الاضداد في معرض الفنانة لبنى نواضحة



في الناصرة

كُثرٌ هم الذين يعرفون المكان، المركز الثقافي البلدي – صالة الفنون الجميلة، قاعة المسرح، ورشات الفنون المتعددة، الندوات الثقافية.. وأشياء أخرى منذ سنوات لم يشهدها المكان، ولم يكن شاهد عليها احد. فهذه الحركة النابضة بالحياة، ثمرة جهد تتوافق فيه الافكار والسواعد والارداة الجماعية، لينسج سيمفونية فسيفسائية الابعاد، هي وجه الامل المرسل الى الزمن. هنا يلتقي اللحن باللون بالكلمة، وبالاصدقاء ايضًا، فسلام عليك ابا طارق، ومرحبًا بك سهيل، وشوقًا اليكَ ابا نزار، يوم التعارف ويوم التباعد، ويوم التقينا هكذا على قارعة الصدفة هنا. مرحبًا بكل من هم من أمثالكم، متميزون بالطيبة وحب الحياة.

لبنى

 لم نلتقي، او ربما التقينا صدفة مرة واحدة قبل الآن، وكان اللقاء مجرد امر عابر. ففي اغلب الاوقات وأكثرها، لا تعني الاسماء لكَ شيئًا محددًا! ربما العيون تحمل في عمقها الا متناهي، اذا ما وجد! قصة عمر.. وربما تختزن في رؤياها الكثير من حكايات الزمن والايام. وعيون "لبنى" فيهما بريق ينذر بتقاسيم الحلم على وتر الذكريات.. تسافر في لغة الفنون الجميلة، علها تحمل نسيجًا لمشهدية تعشش في ثناياها، فتغدو على بساط الايام عملاً ابداعيًا، يحمل دلالاته بعناصره ورموزه المتنافرة.. ويقبض على ذاته برائحة الارض، وروحانية السماء.

 

 

 عمرها غصن من السنوات، عمر يمر عبر تجربة الانشاء والتكوين، لعبثية تتأرجح في صراع الموت والحياة، الفناء والبقاء.. فيبهرك ان تعمقت به، ويعود بك الى وجدٍ انت فيه، وهو في حياتك يتكرر اكثر من مرة كل يوم. وحين تطيل الانتظار امامه تستشفه حالة عرضية، مستوحاة من حنينك لعبق الايام، وكلمات تنام في ثنيايا الغياب والنسيان. تعربش في شغافك غيبوبة لاهوتية، لمورثات الايمان المنسوج بخيوط الرهبة، وترانيم كلمات الجد للحفيدة، احاديث عابرة طول الطريق بصوت الوالدين، عن قدسية الرغيف وحاجته الى نار جهنم.

الارض

 اعتاد رواد معارض الفنون الجميلة، ان يدخلوا الصالات وهم يسافرون عبر عيونهم المرسلة الى الجدران.. بحثًا عن تلك العناقيد المدلاة عليها، والمحملة بثمار بساتين عطاء الرسامين وصراعات وجدانهم. الا انه منذ ولوج الفن في مكونات العصر.. كولوج العصر في مسامات الاساليب المتعددة لمشهدية فنية تحمل ملامحه، انبثق، لست ادري كيف واين، اسلوب التركيب "Installation" المبتكر حديثًا، هذا الاسلوب الذي برعت فيه الفنانة الفلسطينية منى حاطوم، هناك في مدينة الضباب والغياب، لندن، حيث عرضت اعمالها الجريئة حد الصاعقة، منبأة بصوت صارخ منبسطًا بمستوى الارض، لتغدو الارض جدران التواصل بين الناظر والمنظور.

 

 وهنا في معرض لبني نواضحه، "ارض حرام" افترشت عليها اعمالها التي امضت ساعات متوالية في انشائها وتكوين ملامحها، لتصبح اطروحة من الارض المقدسة، التي لا يجرؤ على استباحتها سوى شعاع الضوء والنظر.

 

 

 للارض مفهوم العطاء، كونها احد اهم المصادر الاساسية لاستمرار الحياة، وهي في المنظور الروحي موضع اسفل الهاوية، موطئ الاحذية والاقدام العارية، وهي التراب الذي يشرب عرق البسطاء ودمائهم.. لكنها تبقى "الارض الام"، مصدر الطبيعة والحياة.. ومصدر المواد التي طوعتها "لبنى" بذكائها الحاد، لتصبح مادة تعبير جمالية، تحكي رواية رؤية تشكيلية ترتبط بالانسان والارض والحياة.

 

 تشدك الاعمال المستلقاة على بساط الصالة، معلنة بشئ من الاستفزاز المقصود، عن احتلالها لمساحة أُعدَت لتكون ركيزة للوقوف لا للنظر. وحول كل مساحة من الاعمال المعروضة ارضًا، اربعة ركائز وحبل يمثل الفاصل الحدودي الوحيد، ما بين مساحة الانتظار ومساحة السفر. هكذا تكتب القداسة ايحاءاتها بكل ما تملك من بساطة وتألق، لتقول بصمت، فقط لمن يجيدون لغة الاصغاء، "من التراب والى التراب تعود".

دقيق السنابل والفحم والزعتر

 تبتكر "لبنى" في هذه المجازفة الانشائية، حالة وجدان عاصفة، فهذا الطحين الذي نصنع منه "خبزنا كفاف يومنا" يتحول حينًا بين يديها الى مادة لونية لها بعد واحد، وفي احيان أخري يسافر في عباب الذكريات، ليُدخلنا في جدلية المورثات التربوية، عندما يتوازى مع سواد الفحم المطحون. ومن ثم يبحر في صراعات اضاد متتالية ما بين الايمان والكفر، الحياة والموت، البقاء والفناء، المادة والروح، العدالة والظلم، الارض والسماء.. والى ما ذلك من مفردات الصراع الابدي، لكل ما هو متجدد متغيير في لغة الكون.

 

 يتناول الفحم المطحون دوره في التعبير عن الملامح البشرية في لوحة "الجد نعمة والجد سليم"، لوحة بمقاس الارض، تمتد على مساحة ملفتة للرؤية، لتترك للون الطحين مساحة الفراغ، او فناء الجسد! في محاولة لترجمة مفاهيم العلاقات الاجتماعية المتوارثة، لعقود تراكم فوقها الغبار، حكاية يومية ما بين الليل والنهار، الأخذ والبذل، الشر والخير، في هذا العمل بالذات، حيث اضافت اليه دقيق الزعتر المطحون، لتعطي للوجه رائحة الذاكرة العبقة بتاريخ فلسطين. فهذا الطحين لغة الرغيف، وهذا الفحم لغة النار، وهذا الزعتر لغة الانسان الفلسطيني على هذه الارض.

مشاهد أخرى

 في الصور المعلقة على جدران الصالة مشاهد لأعمال صوَّرتها "لبنى" بعدسة عينيها، ونقلتها عبر الة التصوير لتصبح حالة مشهد مسمرٍ بالبقاء، هي مشاهد اخرى لجدلية دقيق الحنطة ومسحوق الفحم، وهي أيضًا اطروحات جدلية لما يختزله ذهنها الفوضوي في اجتراح ابدع حي، متنقل ما بين رهبة الخشوع ووعنفوان الرفض. ففي لوحة "وجه امها" الذي حاولت ان تجمع فيه بين زينة العروس وخمار الراهبة، تستشف ما هو ابعد من ذلك لكثير، فراهبة الدير منذورة لقداسة الروح، والام منذورة لقداسة الاسرة والابناء، ولا ضير في ذلك! بيد انني استشفيت ما هو ابعد منها، ربما في حالة اللاشعور التي تنتاب الفنان اثناء صياغة عمله، فتعتصره الرموز وينحى نحو امور لم يقصدها.

 

 في هذا العمل، وفي سواه ايضًا، حيث يد المرأة "لبنى" هي الصانعة، والانوثة هي المشهدية الطاغية، لزمن ما، في عمل وآخر، ارى ان هذا المد الزمني الذي عاشه الشرق، واعطى للمرأة صفة العبودية خلف جدران البيوت، في اروقة الخبز والطحين، وولجت الحداثة الصناعية والاصطناعية في حياة هذه المجتمعات الفلاحية، حين دخلت رحاب البيوت بكل الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة، انتزعت المرأة من غيابها المُغترب، لتصبح جزءًا حي في حركة الحياة العامة، وليتجسد هذا العبور القصري، من الاستغياب الى الحضور، في تلك البراءة المقدسة في غبار الطحين، في حين جعلته "لبنى" يتباهى متراقصًا ما بين الانصياع والتحدي، مبحرًا طواعيةً في سواد الفحم، وموبقات الاعراف الذكورية الرافضة لأمثولته الانثوية.

 

 فبياض العفة، اروقة الستائر، الايدي الناعمة، والثدي المُرضع، صيرتهم لغة العصر الى حركة مساهمة، في صنع كل شيء آخر في الحياة، ربما دافع لا ارادي هو الذي اظهر سيرورة الحياة في هذه المواجهة، ومكَّنها من ان تتلمس بندفاعها روح مسحوق الفحم وقذارته.

ختامًا

 اكتب هنا رؤيا لمشهدية لم تأخذ مني سوى بضع ساعات من التأمل، في حين انه لو قُدرَّ لي السفر عبر متاهات الايام التي كوَّنت ذهنية "لبنى"، طفولة ونشأة وشبابا، ربما كنتُ تمكنتُ من ان اكتبَ شيئًا ما، في اسطورة علاقتها الذاتية، فوق جدلية الرحيل ما بين دقيق الخبز وحطام جهنم.

زاهد عزت حرش
الأربعاء 25/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع