(رواية لا أعرف مسارها ولكنني أعرف نهايتها)
علي أن أحرر داخلي من حمل ثقيل، من ثقل شخصيات تلاحقني، شخصيات أحملها في رحم الكتابة، شخصيات تشعر أن تكوينها قد اكتمل، وتود أن تبدأ بالنطق المبكر. وأنا؟ اشعر الآن بحزن الفراق، وكأنني أريد أن أبني عريشة في ساحة الدار للعزاء....عشر سنوات أحمل في داخلي تلك المرأة، أسيرة، لا أريد لأحد أن يشاركني سحرها، لا أريد لأحد أن يلتقي بها حتى على صفحة كتاب، ولكنها تتململ في أحشائي، ترفس، وتزعق، وتصرخ قائلة لي: لقد سئمت الاختباء وراء الزيف الذي تبنيته لكي تحافظ على توازن كاذب، توازن الإنسان الليبرالي مع مخلفات يحتفظ بها....
وماذا عن ذلك الأب الذي يكافح في أحشائي من أجل البقاء فيها؟ هل يخجل من ابنته على أنها ساحرة وجميلة، ولا يعرف كيف ستولد من رحم الكتابة؟ يرسل إلى دماغي رسائل عبر أوردة الدم، يسألني فيها:هل ستظهر للقاريء على أنها زانية؟
كيف لي أن أفسر له، أفسر لذلك الأب، كيف أنظر إلى ابنته؟ هل أحكي له منذ البداية أنني أعشقها؟ وهو الذي يفكر أن وظيفتي تكمن في إظهار حقائق يريدها أن تظهر كما يريد لها أن تظهر....أعرف أنه سيعكنن علي حياتي في رحلتي معها، وسأحاول أن أقنعه أنها شخصية من شخصيات هذه الرواية، ولا دخل لي بابنته، ولم ألتقها جسديا في يوم من الأيام، وهي بمثابة ابنة لي، تكونت في أحشائي في خضم أورغاسما التخيل والتخييل.
*******
أيقظتني من نوم ثقيل. لجأت الى الفراش بعد أن شربت يأسا من مقدرتي على إخراج روحي من بوتقة اليأس، يأسي من نفسي، ويأسي من التخلص من عجز كلي، عجز نفسي وجسدي. لجأت إلى الفراش والأمل يحتفل في داخلي أنني لن أصحو، وأنني سأحصل على جائزة الراحة الأبدية.
قلت لها: ما الذي أيقظك الآن، في هذه الساعة؟
قالت: لقد اختمرت في داخلك، وأخشى من التعفن.
قلت يائسا من روحي: أنا هو العفن بعينه. ماذا تريدين؟
قالت: أريد أن أموت في الهواء الطلق، أريد أن أموت في مكان أختاره أنا بنفسي. لا أريد لجمالي الذي كونته أنت لنفسك أن يموت في أحشائك المتعفنة. أريد موتا جميلا.
صحوت من نومي الثقيل على صدى جملة" الموت الجميل"، وهزئت من نفسي، هزئت لأن شخصياتي تتبنى جملا سخيفة "أبدعها" في لحظات اليأس...
نهضت متثاقلا لكي أزود جسدي بجرعة ماء يحتاجها بعد شراهة شرب الكحول، نزلت إلى الطابق السفلي حافي القدمين لكي لا أوقظ زوجتي وابنتي، اللتان لم تشعرا كيف دخلت البيت بعد أن أنهيت طقس الشرب المميت في حلقة نقاش سفسطائية، متكررة في شكلها وفي مضمونها أكثر من ألف مرة، مع نفس الأشخاص والشخصيات "الأدبية والفكرية" في هذا البلد الحزين على مثقفيه، الذين يجدون في السفسطائية ملجأ ليأسهم من الحياة ومن أنفسهم. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا، والتلفاز في الطابق السفلي ما زال على حاله، على قناة الجزيرة، وإذ أسمع تلك المذيعة، ذات الصوت الساحر، خديجة، تذيع خبر موت أربعة أطفال وأمهم، جراء قصف صاروخي إسرائيلي، كانوا " يتناولون وجبة الفطور". ولم أعرف في اليوم التالي أن هذا الخبر كان متداولا في كل القنوات العالمية على مدى أكثر من 15 ساعة على الأقل.
صحوت من نومي الثقيل، وهمست لأحشائي: علي أن أتخلص من شخصياتي، التي تريد أن تظهر وكأنها الضحية، ضحية نموذجية لظلم هذا العالم.
خديجة وزميلها على الشاشة يواصلان تزويد الفضاء بمقتل العشرات في العراق وفي الصومال...وأنا؟ بدأت أخجل من نفسي. لا أعرف لماذا.
أسكت صوت التلفاز لكي لا أسمع أكثر.
صرخت: ابقي في مكانك!لا تخرجي الآن!علي أن أكتب عن الذين يعانون جراء....
لساني ثقل، وكأن صخرة أحزان نزلت عليه من سماء غير معروفة لا لإله في السماء ولا لأي إنسان على هذه الأرض...نظرت إلى التلفاز وقد أعلنت خديجة عن فاصل، وبعده:عشرات القتلى في الصومال، وتفجير في صعدا اليمن، وأصابع الاتهام تتجه إلى جماعة الحوثي، ثم اعتلت موسيقى حزينة، خلفية لعنوان:حق يأبى النسيان...وكانت هناك صورة لأم فلسطينية توجه نظراتها إلي، وكأنني أنا المتهم، لتقول لي:ما بك أيها الطفل؟ ما الذي يؤلمك؟
كنت جبانا في تلك اللحظة، لم أستطع أن أجيبها، كنت خجلا منها، ماذا باستطاعتي أن أقول لها؟ انني في خضم كتابة رواية عن زانية وهمية؟ والعرق الذي تصبب من كل خلايا جسدي كان شاهدا على جبني، شعرت باختناق، فتحت الباب المودي إلى الحديقة، وركضت باتجاه النعناع، الذي ينمو كذاكرة تلك الأم الفلسطينية على شاشة الجزيرة، قطفت عرقا منه، التهمته، عله ينظف جزءا من أحشائي، استلقيت على العشب الأخضر، ناظرا إلى سماء صافية، يتوسطها ضوء القمر المكتمل،وشعرت بوجع في أحشائي، شعرت برفس أرجل،وكأنه الطلق التي تتحدث عنه النساء في لحظات الولادة،والعرق يتصبب، شعرت ببرودة، والألم يزداد، شعرت بسخونة، والأم يشتد أكثر وأكثر. وإذ بصوت يعلو في داخلي يقول لي: لا تخنقني، أريد أن أتحرر!
لم تنتظر ، ثائرة، صارخة في وجهي:
- جبان!
صوتها الثائر دخل إلى جسدي، وسمعت ملايين الأصوات تردد كلمة جبان، كانت تلك أصوات خلايا جسدي، التي ثارت فجأة، وتلقت الأمر من دماغي، أن تثور هي الأخرى علي.
صحوت وسألتها: أنا؟ جبان؟ لماذا؟ أنا لا أريد لك الفضيحة. احتفظت بك في داخلي لي أنا، وفقط لي أنا.
موجات ضحكها ملأت فضاء الحارة، وخيل إلي أن جماهير الحارة تدفقت وأحاطتني، ضاحكة هي الأخرى، رأيت وجوها لم أعرفها، تنظر إلي ببسمات مضحكة، ببسمات السخرية، وإذ نظري يتركز ببسمة الخباز الساخرة، الذي يسخر مني دائما، لأنني أشتري فقط خمسة أرغفة كل يوم، وعندما أقول له: أريد خمسة، يبتسم ساخرا، قائلاا: خمسون رغيفا؟ عندك عزيمة؟
الخباز في الحارة يسخر مني، وهي تتهمني بالجبن، ودماغي مشغول بتلك الأم على شاشة الجزيرة، وبالحق الذي يأبى النسيان...وأنا؟ لا أعرف ماذا أريد، لا أعرف ما هي حدود نشوتي واشتياقي في الواقع وفي التخييل....
قررت في تلك اللحظة أن لا أتدخل في مدى ضحكتها، قررت أن أسمع لحنها الساخر، قررت أن أغير إيقاعه في خلايا جسدي، لأحوله إلى إيقاع كونته لنفسي من قبل، إلى إيقاع ورثته عن أمي، ورثته عن ماض سعيد، أردت أن أحول ضحكتها إلى جمالية افتقدتها، وعدت إلى نظرة تلك الأم على شاشة الجزيرة، التي نظرت إلي، وخجلت منها، والآن أتذكر أمي، تلك المرأة الجميلة حقا، التي التحقت بسنها المبكر كزوجة لأبي، الذي ألحقها بزوجته الأولى مخلفا منها سبعة، وهي، أمي خلفتني بالدور كسادس، في سنة 1948، أنزلتني من رحمها ورائحة برتقال يافا تملأ محيط هوائي.سأكرس لها فصلا خاصا في هذه الرواية، التي لا أعرف حتى الآن لا مسارها ولا نهايتها. لأنني سأسلك العشوائية في الكتابة، ولن اتقيد بأي أسلوب كتابي.
*******
القمر المكتمل غسل كل شيء باللون الأزرق، الزرقة أحاطتني، جدران بيتي، الأشجار، العشب الأخضر، ولأول مرة في حياتي أسمع ضحكة زرقاء، حتى أصوات الحشرات بدت لي زرقاء هي الأخرى، ورائحة برتقال يافا.
ارتجفت، جسدي برد، نزلت دمعة زرقاء، باردة على وجنتي، ابتسمت، أوقفت ضحكتها، وسألت:
- ما بك؟
انفجرت من داخلي ضحكة حزينة، وقلت:
- لقد نسينا أن نقطع حبل السرة بيني وبينك.
- هذا يعني الطلاق!
- لأكشف سرك.
- أنا هي التي ستملي عليك! سأملي عليك سري! لست خائفة.ولكن قبل ذلك....
توقفت عن الكلام....أصابتها رجفة الشبق المفقود، سالت دمعة واحدة، فقط واحدة، تدحرجت على وجنتها، وسقطت على الأرض، أحدثت انفجارا هائلا، أودى بنا الى زمارين، التي ألصقوا لها اسم زخرون يعقوب...التي تطل على الطنطورة.
سألت: لماذا زمارين؟
قالت: لأنها تطل على الطنطورة.
صرخت: كلا! ليس هذا هو السبب.
*******
الصمت كان ملاذي...أعرف حيلتي الأدبية، وأعرف أسرار التورية، وأعرف ذلك الأسلوب المبتذل، أن تمارس جدلية الخاص والعام، بأن تبرر يأسك بواسطة اللجوء الى التاريخ الفلسطيني والى النكبة،وأن تبرر ذلك العجز المدمن، وأن ترمي كل مصائبك على الآخر. أعرف أن في داخلي بركان على حافة الانفجار، بركان ساخن وجميل في الوقت نفسه، جميل للذي يشاهده من بعيد،ومأساوي للذي يدرك كنه هذا البركان. لأن القاريء أحيانا يقول: هذا ما أحسست به! هذا ما أردت قوله! الكاتب يحكي عني!
سخافة ما بعدها سخافة...أنا أمارس الآن سخافة اليائس من نفسه، سخافة العجز المتخيل، سخافة التسويق لما أكتب.
*******
نحن الآن في زمارين، ولا أقول زخرون يعقوب، لكي أحظى برضى القوميين والقومجيين الذين يرفضون استعمال اللغة العبرية، ويريدون أن يحتفظوا بأسماء المواقع الأصلية...زمارين تعجبني،واسم العلم زمارين شاعري، والطنطورة أمامنا، أنا وهي ، ولا أعرف ما هو هذا الشبق المستعري في داخلها، لكي تأتي بي الى هنا لكي تمارس تاريخ النشوة أمام الطنطورة؟
*******
ما بك؟ صرخت في وجهي، وكادت قطرات بصاقها تجرح خدي المحمر. ضحكت ساخرة من صمتي وقالت:ها أنا أمامك، أقف شامخة في زمارين ، ,أرى الطنطورة في تاريخها، الذي لم يستطع أن تمحوه هجمات الموج البحري خلال 60 سنة. صف مولودك الأدبي، الذي هو أنا، وهل ستقنع قراءك أنني فقط مولود أدبي؟ ها هي الطنطورة أمامنا، من تحتنا،هناك أرى جثث 250 ، ذبحهم الاسرائيليون، انهم مقبورون في مقبرة جماعية،ومقبرتهم هي عبارة عن موقف لمركبات السياح اليهود والفلسطينيين، الذين أتوا يوم السبت ليستحموا في بحر الطنطورة. هل يعرف الفلسطيني أنه يوقف سيارته فوق 250 جثة؟
*******
ماذا تريد مني هذه المخلوقة؟ مخلوقتي. أردت أن أستخرج من داخلي زانية، شخصية يتمناها المخرجون السينمائيون الفلسطينيون، لكي يبرهنوا للعالم السينمائي الغربي أننا نملك زانية فلسطينية في داخلنا، تتحلى بكل صفات الزنى المتعارف عليها عندهم،وألا يتقوقع تفكيرهم فقط في تلك الأم الفلسطينية التي فقدت شهيدا أو أكثر، وتتمنى الشهادة لأولادها المتبقين،وكأن الفلسطيني يتمنى لنفسه الموت وفقط الموت...والحياة بالنسبة له له استثناء...
*******
ابدأ بوصفي! صرخت، وضحكت،وأدارت جسدها بلولوبية راقصة في فن الرقص الحديث. رقصتها هذه أسمعتني لحنا لأغنية طلبتها من المطرب مصطفى دحلة، كلما حضرت عرسا يغني به، كان لحن أغنية للسيد درويش: حرج علي بابا ماروحش السينما واقابلك فين...حرج علي علي...!
وجهت نظري الى شاطيء الطنطورة حزينا، الى موقف السيارات...الى المقبرة الجماعية التي يرفض الاسرائيلي الكشف عنها،وأنا أسمع اللحن، وأسمع خبطات أرجلها،منتظرا أن تبدأ في املاء قصتها علي، لكي أتخلص منها ومن جمالها الأسطوري الذي خلقته في مخيلتي. باختصار : أردت موتها السريع.أردت أن أقتلها لكي أتخلص من معاناة دامت عشر سنوات.
صرخت موقفا رقصتها: أين تريدين أن تموتي؟
غنت: أنا من رايي تجاوبني وأجاوبك وتجاوبني.
أوقفت غناءها ورقصتها وقالت:
- هل نسيت أنك عنونت روايتك: موت في البحر الميت؟ أريد موتي في البحر الميت يا هذا!
أعترف أنها أملت علي موقع موتها. لم أفكر في ذلك عندما تعرفت عليها، أو فلتقل، عندما فكرت بخلقها في داخلي. لا....لم تقرر هي موقع موتها....أبوها هو الذي قرر.
من قتلها اذن؟ أنا ؟ أم أبوها؟ ما هذا الهذيان أيها الكاتب؟ ماذا تريد؟
لا أعرف قلت للكاتب في داخلي. لا أعرف من لجأ الى الآخر. هل أنا لجأت اليها، أم هي التي لجأت الي؟ لا أعرف... كلانا يريد الموت، ابوها يريد الموت لها، وأنا أريد أن أقتلها في مخيلتي، وانا اريد لنفسي الموت الجميل، أريد أن أذهب الى النوم وأحظى بجائزة النوم الأبديي عندما أنهي حكايتها، حكايتي....
رياض مصاروة
السبت 21/6/2008