"من فيض الذاكرة" كتاب إلزامي لكافة المناضلين التقدميين



*عبد الرحمن عوض الله: النبالة والبطولة*

 

"وفي يوم الخميس الأول من حزيران (يونيو) 1967 استدعاني الحاكم العسكري المصري فى مقره في دير البلح وقال لي: "اسمع يا أستاذ. أرجو أن ننسى الماضي. ويعني ذلك اعتقالاتي السابقة. الآن الحرب على الأبواب، كما أكد الرئيس عبد الناصر وأنت رجل متعلم وفهمان، وأنا سألت عنك الأخ مصطفى أبو مدين (والد الشخصية الوطنية المحامي فريح أبو مدّين- ع.ب)، وعددا من أعيان ومخاتير المنطقة الوسطى، خصوصا في النصيرات، وطلبت منهم أن يرشحوا لي شخصا واعيا وشجاعا يُعتمد عليه وقت الشدة فرشحوا لي اسمك. أنا مستعد أن أوفر لك كل متطلبات العمل السري المقاوم، من مطابع وألغام. والسلاح موجود بين أيديكم، لتكون قادرا على تنظيم وقيادة حركة مقاومة شعبية. ورايح أكون صريح معك: قطاع غزة ساقط عسكريا، إيه رأيك في تحمل المسؤولية؟" (ص 244). هذا الحديث وارد في كتاب المناضل الفلسطيني، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفلسطيني، الرفيق عبد الرحمن عوض الله، "من فيض الذاكرة" الصادر عن مركز فؤاد نصار في رام الله، بداية هذه السنة.
ماذا يمكن أن يكون رد فعل مناضل فلسطيني، مشرد عن وطنه قضى أكثر من ثلث عمره، زهرة شبابه في سجون النظام المصري، الملكي وفيما بعد التقدمي، عندما يقال له أولا، أن "قطاع غزة ساقط عسكريا"، والناس في غزة كانت تعتقد أن يوم العودة قاب قوس وأدنى العودة إلى أسدود والمجدل.. وثانيا، عندما يُعهد إليه من قبل ممثل هذا النظام الذي اعتقله وعذبه وجعل الكلاب تنهش في جسمه، قيادة العمل السري ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي سيدخل غزة..
هذه هي كل القصة بجملة واحدة، وهي تتكرر جيلا بعد جيل، بشكل عصي عن الفهم. المشهد السابق كان قبل تسعة عشر عاما من ذلك اليوم المشؤوم، حين هتف والد عبد الرحمن عوض الله، وهو يرى الجيش المصري ينسحب من أسدود يوم الثالث والعشرين من اكتوبر 1948، تاركا البلدة تحت رحمة القوات الصهيونية، قال، وربما صرخ، حسين عوض الله: "خيانة، خيانة، يا ناس، خشوا بلادنا (أي المصريين- ع. ب) وهي بإيدنيا، سلموها لليهود وشردوا، يا للعار".
مذكرات عوض الله تنفع أن تكون رواية، وهي كذلك، فللواقع خيال جامح يفوق خيال أي كاتب، وقصة هذا الشخص ابن أسدود، هي تجسيد للمعاناة الفلسطينية: من الحياة في ظل والد عامل أبناءه بصرامة من بلدة جميلة خصبة وغنية إلى مسيرة التشرد الطويلة، في مخيمات غزة، إلى جهنم التعذيب في السجون المصرية، وخلالها حصوله على شهادة التوجيهي في السجن حيث قام مأمور السجن بالتوقيع في الخانة المعدة لولي الأمر على طلب تقديم امتحانات التوجيهي، إلى وفاة والده وهو في السجن، ولم يعرف عن وفاته إلا بعد خروجه.. كل ذلك يجعل هذا الكتاب رواية آسرة، حزينة وثائرة وفي كل الأحوال وعلى كل صفحاتها رواية انسان مرهف الحس. وتعجب من هذا المناضل العنيد كيف يستطيع أن يصف بكل هذه الرقة، وجه شابة متورد، ولذلك فعوض الله هو بالأساس عاشق للأرض والوطن والحياة الكريمة الهانئة، وعشقه هذا "غلّبه" في السجون والمنافي، لينتج هذه السيرة "الوثيقة" التي تشرّف كاتبها وتشرّف أي شعب لديه مثل هؤلاء الأبناء.
فيما بعد كانت قصته الطويلة في التعذيب المرعب في سجون قيادة وطنية تقدمية، بالفعل، وقعت في تخبطات عصية عن الفهم، فكيف تريد تحرير الشعب وفي الوقت نفسه تسجن وتعذب خيرة أبناء هذا الشعب؟ وكيف تبني الاشتراكية بدون الاشتراكيين الحقيقيين؟ وفي حينه ظهر هذا العبث بشكله الفظ، عندما كان عبد الناصرة في زيارة لتشيكوسلوفاكيا، وفي أحد الاجتماعات وقف الحضور إجلالا لذكرى الرفيق شهدي عطية، الذي استشهد في السجون المصرية، وعندما عرف عبد الناصر بذلك، أمر بوقف التعذيب.
ولذلك هذا الكتاب الذي يخطه إنسان، أسكنوه غياهب السجون، وعلقوه على "العروسة"، واستقبله صف من العساكر بالهراوات وبضرباتهم المميتة، هي شهادة لإنسانية الإنسان: كيف يستطيع في ظروف الجحيم، أن يحافظ على إنسانيته وأن تبقى نضارة الحياة في عينيه.

 

*أسدود العامرة*

عوض الله يبعث الحياة في شرايين أسدود بعد ستين عاما على نكبتها. أسدود تبقى في ذهني، وذهن من لم يعرفها، وهم كثر، اسما ضبابيا، لبلدة منكوبة لا أكثر، مجرد اسم. عوض الله يأتي في هذه المذكرات ليبعث الحياة في بياراتها الخضراء المثقلة بالحمضيات وفي كرومها المثقلة بالعنب وفي أرضها الخصبة المعطاء. في أسدود هذه كان الخيار يثمر في شهر تشرين الأول، وكان الأسدوديون يبيعونه بأسعار خيالية، فكانت تباع الصحارة التي تزن ما بين 4-5 كغم بسعر جنيه إسترليني. ويتحدث عوض الله عن شجرة العنب الواحدة التي كانت تعطي 24 صحارة عنب. وكانت قوافل الجمال المثقلة بالخضرة والفاكهة تمضي إلى يافا عروس فلسطين، وعلى نهر روبين جنوب يافا كانت مواسم فلسطين العامرة حيث، "يتجمع فيه المصطافون من أهالي سلمة واللد والرملة.. وتنعقد هنالك رقصات الدبكة .. ولمحبة الناس التصييف في روبين كان يُقال أن المرأة اليافاوية كانت تقول لزوجها "روبني يا بطلئني" (ص 49). (و"روّبني" هنا القصد منها الذهاب إلى نهر روبين، و"طلئني" هنا مقصود بها طلقني).
عوض الله يبعث الحياة بالأساس في حياة أهل أسدود، ويتحدث عن طفولته في هذه البلدة، حيث تعلم هناك في فجر حياته، وكان هو القارئ الذي يجتمع حوله والده وأصدقاؤه، وكان يقرأ لهم قصص ألف ليلة وليلة والأميرة ذات الهمة وعنترة بن شداد وسيف بن ذي زن ويقول بعبثية: "أما أنا فلم يعلق في ذهني آنذاك أي شيء من هذه القصص، كنت مجرد ببغاء ينقر الكلمات من صفحات الكتب ويُلقمها للسامعين". (ص 19)..
كان سكان أسدود يحلون مشاكلهم بأنفسهم دون تدخل من السلطة المركزية، إلا في حالات نادرة، من خلال نظام العشائر. والأهم من ذلك، يقول: "كان سكان أسدود لا يحتاجون للعمل في المدن أو القرى الأخرى فأراضيهم واسعة وخصبة. ولا تجد فيها فقيرا" (ص39).

 

*مشروع فؤاد نصار- دولة في غزة*

يتحدث الكتاب عن بداية تشكيلات الحركة السياسية في أسدود، وبالذات تشكيل عصبة التحرر الوطني وعن اجتماع شعبي ضخم للعصبة، عشية النكبة، كان من بين من تحدث فيه فؤاد نصار وإميل حبيبي، وقال أن أعضاء عصبة التحرر الوطني سيطروا على تنظيم النجادة في أسدود، ويتحدث عن واقعة طريفة: "وأما أحمد البيومي (أبو السعيد) فقد حرّضه الشباب على أن تخيط له زوجته بذلة عسكرية فخمة، وُضع على كتفيها مقصات الجنرال وميداليات عسكرية، وفيصلية (طاقية) حمراء وكان أبو السعيد (البيك) طويل القامة ممتلئ الجسم مهيبا" (ص 43).. ويتحدث عن عرض عسكري أقامته النجادة في يافا، وظن محمد نمر الهواري، زعيم النجادة عندما رأى أحمد البيومي، بهذه الهيبة وبهذا الزي، أنه جنرال من الدول العربية، فوقف أمامه وحياه تحية عسكرية.. فيما بعد عندما علم الهواري أن الشيوعيين سيطروا على تنظيم النجادة في أسدود، حل التنظيم في قضاء غزة.
في الكتاب معلومة هامة، من الضروري الانتباه إليها، يقول عوض الله: "وفي شباط فبراير 1948 وصل، إلى المجدل من قرية بيت جبرين، فؤاد نصار وعيسى شاكر.. كان أبو خالد (فؤاد نصار- ع.ب) يتصور أنه يمكن من قطاع غزة الإعلان عن قيام دولة فلسطينية مستقلة طبقا لقرار التقسيم، معتمدا في ذلك على أن قطاع غزة كان تحت إشراف لجنة قومية تشكلت من مندوبي الأحزاب السياسية ومنها عصبة التحرر، ومؤتمر العمال العرب ومجموعة من النوادي والجمعيات، وكان الشيوعيون هم العنصر المسيطر فيها فقد كان يشرف عليها الرفيق فايز الوحيدي (أبو فاعور) الذي كان ضابطا سابقا في البوليس الفلسطيني، ولم يكن معروفا بانتمائه الشيوعي، كما أنه كان يقود الميليشيا المسلحة التي شكلتها بلدية غزة".. ولكن، "وبدخول القوات المصرية إلى قطاع غزة انهار مشروع فؤاد نصار". (ص 56)
دخول الجيش المصري إلى أسدود أحدث نتيجة عكسية تماما. في البدء، بعث هذا الدعم روحا معنوية هائلة بين الأهالي، بأن بإمكانهم التصدي للغزو الصهيوني لبلدتهم، وفعلا فقد استبسل الجنود المصريون، إلى جانب الأهالي في الدفاع عن البلدة، وأوقعوا خسائر بشرية كبيرة بالجيش الإسرائيلي، ويقول الكاتب أن المعنويات تعززت لدرجة أن والده استثمر مبالغا كبيرة في استصلاح بيارته، ولكن وبدون سابق إنذار، انسحب الجيش المصري ليلا، تاركا وراءه المدنيين العزل تحت رحمة القوات الاسرائيلية.. ""كان يوم الثالث والعشرين من تشرين الأول يوما أسود، صحا فيه سكان القرية فلم يجدوا جنديا مصريا واحد.. فأخذ الفزع بأهالي اسدود وتذكروا المعارك الضارية التي وقعت بين أهالي أسدود والعصابات الصهيونية وحرق جثثهم أو إبقاءها حتى تحرقها الشمس.." حسين عوض الله، والد عبد الرحمن، لم يصدق واعتقد، بموجب خبرته العسكرية، أن ذلك الانسحاب ما هو إلا انسحاب تكتيكي للالتفاف على العدو، وعندما تبين عمق الخيانة قال الجملة المعبرة آنفة الذكر: "خشوا بلادنا وهي بإيدنيا، سلموها لليهود وشردوا".
ولا ينسى عوض الله أن يذكرنا بدور الرفيق الخالد في قلوبنا عبد الله ربيع زقوت، ابن أسدود والرملة، وابن فلسطين البار، يقول: "وقد ساهم الأستاذ عبد الله ربيع زقوت أبو نجم بدور لا يُنسى، فقد ركب الحصان وأخذ يعترض طريق النازحين، ويدعوهم لعدم النزوح والبقاء في أرضهم ولكن دون جدوى" (ص 68)، طيب الله ثراك يا أبا النجم- وطنيا طيبا وصادقا.
وفيما بعد كانت رحلة التشرد إلى غزة في ظروف انعدام المسكن وقلة الغذاء والجوع الحقيقي، بينما كانت مخازن أسدود البعيدة، المطوقة، ممتلئة بالخيرات. "كان الفلاحون في القرى الفلسطينية يخزنون حبوب القمح في حفرة عميقة يسمونها المطمورة، يحفرونها في ساحة الدار" (ص 82). لعدة أشهر، كان شبان أسدود، ومن بينهم الشقيقان أحمد وعبد الرحمن عوض الله، يسيطرون على البلدة في الليل، وفي الصباح تحتلها من جديد القوات الإسرائيلية، التي كانت تسمي هؤلاء الشباب لصوصا؟! لأنهم يأخذون ما أنتجت أيديهم.. أُسر أحمد عوض الله، وانقطعت أخباره، ويظهر أنه قُتل على يد القوات الإسرائيلية، وقبل ذلك جُرح شقيق عوض الله، محمود، في المواجهات مع الجيش الإسرائيلي، قبل احتلال أسدود.

 

*رحلة السجون المضنية*

الكتاب هو وثيقة رهيبة لما جرى في السجون المصرية في الأعوام العشرة الأولى لثورة تموز/يوليو. لم يكن هدف الاعتقال والتعذيب هو اكتشاف مخطط لقلب نظام الحكم، ولم يكن الهدف منع عملية إرهابية، الهدف كان بدائيا ومتخلفا: كسر شوكة مناضلين من أجل إعلان "براءتهم" من الشيوعية.
هذا الكتاب، بالرغم من حالة اليأس القاتلة، هو كتاب يضج بالحياة، كتاب متفائل، بالرغم، الكلاب الآدمية والحقيقية مثل : "لاكي" وغولدا" و"عنايات". و"لاكي" هذا، يبشرنا عوض الله، إنه خلف كلابا أكثر شراسة.
المشاهد صعبة جدا، يحدثنا عوض الله عن الجنود المصريين المعتقلين، الذين يركضون حفاة وبساطيرهم معلقة في رقابهم، لإذلالهم، وهؤلاء لا يمتون للسياسة بصلة. من خلال هذه المشاهد يدرك المرء، وعن قرب، أسباب الهزيمة الموجعة في حزيران 67.
يحدثنا عن العساكر الذين يقفون على الصفين بانتظار السجناء الداخلين لتوهم للسجن، حيث تبدأ عملية التعذيب مباشرة، بالهراوات التي تنزل على رؤوسهم وأعضاء جسمهم، ويتحدث عوض الله عن فترات سوداء كان التعذيب فيها يتم في الليل والنهار، وحتى عندما يتوجه السجين لقضاء حاجته تبقى الهراوات فوق رأسه.
ونقرأ في الكتاب عن الرفيق المجند مصطفى شوقي البهنساوي، الشيوعي المصري البطل، الذي بالرغم التعذيب رفض ان يعترف قائلا بصلابة: "لن تأخذوا مني أية كلمة".. "فربطوه في سيارة جيب وجروه وواصلوا ضربه حتى فقد وعيه فألقوا به أرضا وسُمعت حشرجات تصدر منه، ولم تمض لحظات حتى لفظ نفسه الأخير.. وقتها وقف ضابط المخابرات إزاء جثة البهنساوي وضربه بحذائه على رقبته قائلا "يا ابن الكلبة، بتمثل؟ حتخدعنا وتتظاهر بالموت، احنا رايحين نقتلك بصحيح"، وانهال هو وحراسه عليه بالضرب الى ان اكتشفوا انه مات فعلاّ، فحملوا جثته بعيدا ودفنت سرا".(ص 189)
مسلسل التعذيب رهيب، وهنالك حاجة لقراءة هذا الكتاب فهو كتاب إلزامي لكل وطني ومناضل وتقدمي وإنسان. وعندما أستعرض صفحات الكتاب لاختيار فقرات معينة، أجد نفسي اريد أن اقتبس الكتاب كله، لأن كل كلمة فيه هامة، ووراءها كم هائل من المعاناة والبطولة. ولكن سر الصمود، بالإضافة الى إيمان المرء بعدالة قضيته وازدرائه لسجانيه، هو "كيف يدرك بوعي أنه ليس وحيدا فالاحساس بأنه وحيد مقتل له اي مقتل" (ص 214). ولعل هذا الأمر هو الذي ميز الشيوعيين الفلسطينيين، فكانوا يهتفون لشد أزر بعضهم البعض، "عاش الشعب الفلسطيني"، وفي الوقت نفسه لهز ثقة السجانين بأنفسهم وبما يقومون به من جرائم.

 

أنا فخري لبيب يا حسن مصيلحي..

وهنالك في الكتاب مشهد مثير، مشهد الصراع بين الجلاوزة والمناضلين، وكيف، في ظروف اللاشيء يهزم هؤلاء المناضلون آلة القمع الرهيبة المتمثلة بحسن المصيلحي، رئيس مكتب مكافحة الشيوعية. وبرأيي أن رفيقنا البطل يضع هذا المشهد بأجمل صوره، حيث تتيقظ العواطف السامية لدى القارئ في مواجهة آلة موت صماء غبية. هذا المشهد البطولي الذي يصنعه أناس في ظروف الموت، يعجز عن كتابته أكبر المسرحيين والسينمائيين، لأنه مكتوب بالدم والدموع، ويجب قراءة هذا الفصل كاملا، إنه أنشودة الحياة في غياهب الجحيم. في وسط سجن الواحات الرهيب، في نهاية المشهد، يقف المناضل الشيوعي المصري البطل يهتف في وجه السفاح:
"أنا فخري لبيب يا حسن المصيلحي، أنا بقولك أنو حييجي يوم حنحاسبك فيه، ودم الشهداء على رأسك، مش حنسيبك، يا قاتل يا مجرم.." وهنا "أسرع المصيلحي ومعاونه بمغادرة المكان مهزومين. وفي داخل السجن احتفل المعتقلون برفاقهم الذين أجبروا المصيلحي على الفرار. (ص204)
وقبل وصول هذا السفاح الذي جاء كما يظهر ليرعب الشيوعيين، عقد الشيوعيون الفلسطينيون اجتماعا، تحضيريا لهذه الزيارة، وألقى عليهم معين بسيسو، هذا المناضل الصلب كالصوان والمرهف كنسمة منعشة، قصيدة " المرتد" الرائعة لشحذ الهمم:

"إركع للورقة إركع
إغرس قلمك في عيني طفلك
واكتب ما أمرك أن تكتب.."

وبدل أن يكون الرفاق، كل على حدة في موضع الدفاع عن النفس، قام الرفاق بهجوم كاسح، فقدموا مذكرة تستنكر النفي والاعتقال وتحتج على السجن والتعذيب، وقد جن جنون معاون المصيلحي هذا، فقال للرفيق احمد عبدون الذي اتهمهم بقتل الرفاق شهدي عطية ومحمد عثمان وفريد حداد.. قال المعاون:
" - نعم نحن أمرنا بقتلهم
- إذن ستحاكمون كقتلة يا أوباش" رد الرفيق عبدون. و"كانت كلمات عبدون هي الطلقة الأولى في هذه المعركة، وتوالت بعدها الطلقات في وجه المصيلحي. فقد قال الاستاذ خليل عويضة مدير التعليم في قطاع غزة وأحد قادة الجبهة الوطنية في القطاع، ما شأنكم يا ممثلي السلطة المصرية بابناء الشعب الآخر.." (ص 204) كما يقتبس عوض الله من كتاب طاهر عبد الحكيم "الأقدام العارية".
" وقال لهم : المسألة ببساطة انتم شيوعيون..
قال فايز علام سكرتير نقابة شركة مصر للغزل:
- ايوه امال انتو جايبينا من الكبريهات؟ اسمع احنا جايين من وسط الشعب"
أية بطولة هذه التي اعتملت في صدورهم؟ وأي إيمان اتقد في القلوب وهم يزجرون السفاح، الذي قتل قسما منهم تحت التعذيب. لعل المتنبي الذي عاش قبل أكثر من ألف عام كان يقصدهم حينما قال:
 فلا عبرت بي ساعة لا تعزني  ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
وفي غياهب هذا السجن، سجن الواحات، الذي يبتعد ألف كيلومتر إلى جنوب القاهرة، وكان الإنجليز قد جعلوا هذا السجن مكانا للأسرى الطليان في الحرب بالعالمية الثانية، انتظم الشيوعيون ليجعلوا الصحراء الجرداء خضراء، حينما اكتشفوا نبع ماء، فتجمعت الطاقات، وأصبحت الأرض تثمر لأبنائها ولسجانيهم أيضا.
ويتحدث عوض الله بمزيد من الحب والإعجاب عن الشيوعيين المصريين، وعن علاقتهم بالشيوعيين الفلسطينيين.. كانت السجون زاخرة بخيرة أبناء الشعب المصري، المثقفين الكبار مثل أمين محمود العالم ود. رفعت السعيد..
بعد هذا النجاح في الامتحان الرهيب فإن أجمل كلمة سمعها عوض الله كانت حينما أُعلن: "فلسطينية إفراج".

 

*كتاب يضج بالحياة..*

كتاب عوض الله ليس كتابا مرا، بالرغم من السنوات الطويلة في السجن والعذاب والقهر والتشريد، وهذا ما يميز هذا الكتاب عن كتب أخرى لمناضلين عاشوا هذه الظروف. كتاب ينضح بحب شعبه، بحب تلامذته الذين بادلوه الحب ودافعوا عنه حينما تطلب الأمر ذلك. والكتاب يضج بالحوادث الطريفة، من واقع مجتمعنا الفلسطيني، حيث يتناول أوجه الحياة المختلفة، عندما يتحدث عن الشيخ الأكول النّكوح، الذي زعلت امرأته بسبب نشاطه الجنسي الجارف.
أو عندما يتحدث عن الوصفة التي وصفوها للعريس الجديد، المعلم الشاب، الذي لم يحسن الاقتراب من زوجته واعتقد أن هنالك من عمل له "عملا"، وردا على ذلك نصحه عوض الله وزميله إبراهيم بوصفة "لفك" هذا العمل، مع إدراكهما أن المشكلة نفسية لا أكثر، "وطلب منه إبراهيم أن يغادر هو وزوجته البيت الساعة الثانية عشر ليلا بعد أن يغيّرا كل ملابسهما وألا يطآ عتبة غرفتهما ولا عتبة البيت الخارجية وأن يتسللا إلى بيت آخر يهيئه بنفسه، وأن يدخلا الحمام عراة ويغتسلا بحمام ساخن، ويلبسا ملابس جديدة لم تُلبس من قبل وأن يكون قد جهز عشاء بعد جوع، يتكون من ديكين أبيضين تماما، وأن يأكلا الديك الأول مناصفة مع تلقيم اللحم لكليهما، ثم يتناولا بعد ذلك ملعقة من العسل النقي، ضروري أن يكون نقيا، وبعده يذهبان إلى الفراش الدافئ عراة متعانقين وإن شاء الله بصير خير ولا تخف "فالعمل" انتهى مفعوله".. ولا يتركنا عوض الله ننتظر على نار، فيخبرنا في الفقرة التالية "وفي صباح اليوم التالي جاء محمد وشاح إلى إبراهيم وهو يحمل صينية البقلاوة ليوزعها على الأحبة فقد نجح الامتحان". (ص124).
ويتحدث عن حجاب وصفه أحد المشعوذين الكذبة لامرأة من أجل أن تحمل. يقول عوض الله: "كان حجابا من الصفيح مثلثا صدئا، فتحته أمامها، وهي ترجوني ألا أفعل وأخرجت منه ورقة قُصّت كشريط طويل، عرضه خمسة سنتيمترات، كتب عليه بحبر أسود: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، شمهورس، وبعض كلمات لا معنى لها، وأنهاه بهذه العبارة: تحبلي لا طيزي ما حبلت، تحبلي لا طيزي ما حبلت" (ص 160). . المهم، وبالرغم من ذلك فقد حملت المرأة. وأخبره أحد رجال الشرطة، أن هؤلاء المنجمين لديهم جيش من الاستخبارات يوصلون لهم كل أسرار العائلات.. ولذلك ليس غريبا أن يعرف هؤلاء أخبار الناس الأكثر خصوصية.
يتحدث عوض الله بسخاء عن أمور في غاية الجرأة، عن ذكريات طفولته، عن حبه الذي مضى ولم يعد. عوض الله جريء في استعمالاته اللغوية، لأنه في حال وضع مرادف بديل للكلمات المستعملة تضيع الفكرة. والكتاب يحوي تحليلا عميقا وبرأيي صائبا، لمجمل مراحل نضال الشعب الفلسطيني وكذلك للنقاشات العاصفة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية وأيضا داخل الحركة الشيوعية فيها. وبهذا الصدد فهو وثيقة هامة.
وبحق يقول الكاتب حيدر عوض الله، وهو ابن عبد الرحمن عوض الله: "فالأحلام لا الأوهام التي استوطنت روح الكاتب ورفاق دربه في الطريق الطويل للإنعتاق الوطني والاجتماعي والإنساني من جلاوزة الاحتلال وأعداء الشعوب ومضطهديهم ومستغليهم تعادل أسطورة ابن برمثيوس في النبالة والتضحية". (ص 9) ويقول حيدر عن التوأمة السيامية بين الفلسطيني والسياسة: "السياسة لم تكن عند الفلسطينيين نشاطا فائضا من نشاطهم الإنساني بل هي كينونتهم". (ص 10)
هذا الكتاب يأتي في وقت يرزح أكثر من عشرة آلاف سجين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولذلك فهذا الكتاب آني جدا لأنه صرخة هؤلاء السجناء الأبطال في وجه آلة القهر والتعذيب الإسرائيلية.. هذا الكتاب هو سلاح هام في يد المناضلين، أينما كانوا، من أجل الحرية والاستقلال والعدالة.
يمكن القول أن من الواجب قراءة الكتاب، ولكن قبل ذلك يمكن القول، وبكل تأكيد، إنه حاجة روحية وطنية من الدرجة الأولى.

عودة بشارات
السبت 21/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع