بحضور وزيرة الخارجية الاسرائيلية، تسيبي ليفني، اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في السابع عشر من شهر حزيران الحالي، في مدينة العاصمة البلجيكية بروكسل، جرى التقدم خطوة الى الامام في المساعي التي تبذلها اسرائيل الرسمية لدخول الاتحاد الاوروبي كعضو يتمتع بجميع الحقوق والامتيازات التي يحظى بها مكونات هذا المحور الامبريالي الاستراتيجي السياسي والاقتصادي. ففي هذا المؤتمر حظيت اسرائيل بامتياز التوقيع على اتفاقية سياسية – امنية، "بروتوكول" سياسي – امني، مدلوله تقديم امتيازات وافضلية في مجالات التعاون والتنسيق السياسي – الامني!!
وبصراحة فان توقيع هذه الاتفاقية السياسية – الامنية بين اسرائيل والمحور الاوروبي الامبريالي لم يفاجئنا، بل جاء ليجسد ويعكس تطور العلاقات الاستراتيجية بين المخفر الاستراتيجي الامامي في خدمة المصالح الامبريالية في المنطقة ومنذ النكبة الفلسطينية وقيام اسرائيل وبين مراكز ومحاور الامبريالية الاساسية وخاصة مع محوري الامبريالية الامريكية والاتحاد الاوروبي. فالاتفاقية الجديدة جاءت مكملة ومتوّجة نوعا ما للاتفاقية الاقتصادية – التجارية (البروتوكول التجاري) الموقّع بين اسرائيل وبين الاتحاد الاوروبي منذ ان كان يعرف بـ "السوق الاوروبية المشتركة" في السبعينيات، والتي بموجبها تحظى اسرائيل بامتيازات في مجال التبادل التجاري مثل التخفيض في المكوس الجمركية والضرائب على السلع والبضائع الاسرائيلية المصدرة الى بلدان السوق والاتفاق على جدول محدد للسلع والبضائع الزراعية والصناعية المطروحة على اجندة التداول والتبادل التجاري بين الطرفين، وتقديم التسهيلات التسليفية لاسرائيل في مجال القروض الاوروبية المخفضة السعر وتشجيع الاستثمار الاوروبي والتوظيفات الاجنبية الاوروبية في القطاعين العام والخاص في اسرائيل، وفي شتى المجالات، في الصناعة والبناء والسياحة والبنوك والخدمات والزراعة. ولاسرائيل علاقات مميزة ووطيدة، استراتيجية عسكرية ومخابراتية، مع الحلف الاطلسي العدواني حيث يعتبر الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية الركنين الاساسيين في اطار هذا الحلف العسكري الاستراتيجي العدواني.
وحتى ندرك المدلول السياسي للاتفاقية السياسية – الامنية الجديدة فانه من الاهمية بمكان تأكيد ان القوى الاستعمارية المختلفة، الاوروبية والامريكية التي دعمت ربيبتها الصهيونية باقامة اسرائيل على حساب نكبة الشعب العربي الفلسطيني وتشريده وحرمانه من حقه في تقرير مصيره باقامة دولته المستقلة، هذه القوى الاستعمارية كانت معنية من حيث مصالحها الاستراتيجية ان تكون اسرائيل بسياستها الرسمية الممارسة نبتة سامة غريبة في قلب المحيط العربي وضد حركة التحرر القومي العربية والفلسطينية والعصا الامبريالية لمنع وحدة العرب وتقدم بلدانهم على طريق التنمية الاقتصادية والتطور الحضاري وابقاء الشرق الاوسط، خاصة الشرق العربي في حالة توتر وصراع دموي تشعل أتون الحروب العدوانية وتغتصب الحقوق الوطنية الشرعية للشعب العربي الفلسطيني وتؤلف حارسا بلطجيا للدفاع عن المصالح البترولية للدول الامبريالية وشركاتها عابرة القارات ومتعددة الجنسيات. فاسرائيل الرسمية كانت منذ قيامها وحتى يومنا هذا بؤرة التوتر الاساسية في المنطقة التي هددت وتهدد الامن والاستقرار وتعرقل سيادة السلام العادل في المنطقة.
برأينا ان لجوء الاتحاد الاوروبي الى تقديم الامتيازات لاسرائيل من خلال البروتوكول السياسي – الامني ينسجم مع توجه هذا المحور الامبريالي للتكيف مع الطابع الهمجي الشرس للعولمة الرأسمالية ومع الاستراتيجية العدوانية "الجديدة" لليمين المحافظ ولليبرالية الجديدة السائدة في مراكز قيادة هذا المحور، في بريطانيا وفرنسا والمانيا. ولا يغيب عن بالنا ان نجاح اليمين في المانيا وفرنسا خاصة، وفي غيرهما، قد اعادهم الى حضن التدجين الامريكي والانسجام مع استراتيجية الهيمنة الكونية تحت ستار "الحرب الكونية ضد الارهاب" التي تنتهجها ادارة بوش وقوى اليمين المحافظ والنيوليبرالية المنهج الذي اصبح سائدا في الاتحاد الاوروبي.
ما نود تأكيده ان ما قدمه الاتحاد الاوروبي في بروكسل من امتيازات سياسية – امنية يعتبر من جهة اولى، تناقضا صارخا مع المبادئ التي يدعي الاتحاد الاوروبي احتضانها والالتزام بها، كما يعتبر في نفس الوقت استهتارا من قبل هذا المحور بالبلدان العربية وكأنها "لا في العير ولا في النفير"، ويعتبر موقفا معاديا للحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني ولنضاله العادل من اجل التحرر والاستقلال الوطني والتخلص من براثن ومعاناة الاحتلال الاسرائيلي ومآسي اللجوء الفلسطيني في اماكن الشتات القسري المختلفة. فالاتحاد الاوروبي يدعي انه يدعم حق الشعوب بالحرية والسيادة ويدعم اقتصاديا الشعوب المنكوبة الرازحة تحت نير الاحتلال. وتوقيع اتفاقية الامتيازات الجديدة مع اسرائيل يناقض بشكل صارخ هذا المبدأ المزعوم. فالاتحاد الاوروبي وقع على بروتوكول الامتيازات مع اسرائيل في مؤتمر بروكسل في وقت لا تزال فيه اسرائيل تواصل احتلالها للمناطق المحتلة منذ السبعة والستين وتنكّرها لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والدولة والقدس والعودة. كما تواصل بشكل استعماري استفزازي فظ تكثيف الاستيطان الكولونيالي في المناطق المحتلة، خاصة في منطقة القدس الشرقية المحتلة ومنطقة الاغوار لخلق وقائع احتلالية جديدة تمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. استيطان سرطاني يضع على كف عفريت مصير انجاز سلام عادل. كما تواصل اسرائيل جريمتها باحتلال الهضبة السورية، هضبة الجولان منذ السبعة والستين، وكذلك مزارع شبعا اللبنانية. وتوقيع اتفاقية التنسيق السياسي والامني العسكري والمخابراتي مع اسرائيل يشجع العدوانية الاسرائيلية على مواصلة احتلالها الكولونيالي والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية ومشاركة اسرائيل في ادعاءاتها الديماغوغية بالحرب ضد "الارهاب الفلسطيني" لتبرير اغتصاب الحقوق الشرعية الفلسطينية.
مبدأ آخر يدعي الاتحاد الاوروبي الدفاع عنه والالتزام به وهو ضمان حقوق الانسان، والدفاع عن المعذبين المهدورة والمغتصبة حقوقهم الانسانية الاولية والاساسية، الحق في الحرية في وطن حر وسيادي، حرية التعبير عن الرأي، عدم التأتأة في ادانة جرائم الحرب ضد الانسانية الممارسة في أي مكان من عالمنا. وفي هذا الموضوع الهام فان الاتحاد الاوروبي ينتهج مثل باقي المحاور الامبريالية سياسة ازدواجية المعايير في الموقف من حقوق الانسان، حقوق الفرد والشعوب، سياسة مرهونة ومحكها الاساسي الموقف السياسي لمحاور الامبريالية من هذا النظام او ذاك، نسمع عن من في "عينه خشبة" وينتهك حقوق الانسان في بلده، في امريكا او بعض بلدان الاتحاد الاوروبي "يدين" وينتقد نظام شافيز الفنزويلي المعادي للامبريالية والنظام الكوبي والصيني والايراني بينما يغضون الطرف عن انظمة تمارس جرائم همجية ضد الانسانية والشعوب وحقوق الانسان. فالاتحاد الاوروبي في بروتوكول علاقاته السياسية – الامنية الجديدة مع اسرائيل يغض الطرف عن حقيقة ان الاحتلال الاسرائيلي يمارس بشكل وحشي وهمجي جرائم ومجازر دموية ضد الانسانية والشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، انه يمارس بشكل متواصل سياسة الدوس على حقوق الانسان الفلسطيني، حقه في المعيشة والحياة كباقي ابناء البشر والشعوب، يمارس بشكل وحشي ارهاب الدولة الاحتلالية المنظم من خلال فرض مختلف العقوبات الجماعية، مثل فرض الحصار الاقتصادي التجويعي على مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة، ارتكاب المجازر الجماعية ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة والقطاع والقدس المحتلة، ولا يسلم من جرائم الجزار الاحتلالي الاسرائيلي الاطفال والنساء والشيوخ المسنون، يرتكب العقوبات الجماعية بهدم البيوت الفلسطينية والمدارس واماكن العبادة، ولا تنجو الارض الزراعية من التخريب المنهجي لاحفاد هولاكو. وكل ذلك بهدف كسر شوكة شعب يقاوم المحتل وجرائمه ويناضل من اجل حريته واستقلاله الوطني ويعلن ليل نهار ان السلام العادل خياره الاستراتيجي هذا الخيار الذي يغتاله المحتل باستيطانه وبمجازره المخضّبة بدماء الضحايا الفلسطينين.
وبرأيي ايضا ان الامتيازات السياسية – الامنية التي حصلت عليها اسرائيل العدوان من مؤتمر وزراء خارجية دول الاتحاد الاوروبي في مدينة بروكسل تندرج في اطار المشاريع الاستراتيجية الامبريالية، وخاصة الامريكية والفرنسية، لاقامة تحالفات استراتيجية سياسية واقتصادية مبنية على تطبيع العلاقات العربية – الاسرائيلية وقبل الزام اسرائيل بالتسوية العادلة لانهاء الاحتلال الاسرائيلي والاعتراف بتجسيد الحق الفلسطيني بالتحرر والدولة والقدس والعودة وبانسحاب اسرائيل من هضبة الجولان السورية المحتلة الى حدود الرابع من حزيران السبعة والستين. فمشروع الرئيس الفرنسي ساركوزي الضبابي حول حلف "الحوض المتوسطي" الذي يشمل دول حوض المتوسط الاوروبية وبلدان "الجنوب" من حوض المتوسط، الجزائر ومصر وتونس والمغرب وموريتانيا وسوريا، اضافة الى اسرائيل وتركيا، هذا المشروع يخدم بالاساس مصالح الامبريالية الاوروبية في تعزيز قواعد الطابع التمييزي الهمجي للعولمة الرأسمالية، وتعزيز مكانة ودور اسرائيل التي تملك مستوى تطور اقتصادي عصري مربوط بالثورة العلمية – التقنية الجديدة اكثر من بلدان المشرق والمغرب العربيين، اضافة الى كون اسرائيل الركيزة الاساسية كمخفر استراتيجي عسكري وسياسي في خدمة هذا المشروع، ومشروع "الشرق الاوسط الكبير" الذي طرحته ادارة بوش والمحافظين الجدد، والذي ادخل الى سرير الانعاش المكثف بعد الهزيمة العسكرية لمحور الشر الاسرائيلي – الامريكي في لبنان على ايدي المقاومة اللبنانية وحزب الله، وفي ظل فشل المحتل الامريكي في كسر شوكة المقاومة في العراق المحتل او في ضمان استسلام القيادة الشرعية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية لاملاءات تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية التي يطرحها المحتل الاسرائيلي ويمارسها بدعم من سيده الامريكي.
امام تعزيز العلاقة السياسية الاستراتيجية بين اسرائيل وكل من الاتحاد الاوروبي والمحور الامبريالي الامريكي بمدلولهما المستهتر بالعرب وبالفلسطينيين وبحقوقهم الوطنية الشرعية فان دجاج الانظمة العربية لا يتجرأ على الخروج من دائرة "التعبير الخجول" عن عدم رضاه من خلال تصريحات التأتأة، لا يتجرأ باتخاذ موقف ناجع يردع التدهور في الموقف السياسي للاتحاد الاوروبي المؤيد والداعم للعدوانية الاسرائيلية والمعادي للمصالح الوطنية والقومية الحقيقية العربية والفلسطينية. وبأيدي العرب العديد من الاسلحة الثروة النفطية وغيرها والموقع الجغرافي الاستراتيجي وغير ذلك، لو استعملت بحكمة وكما يجب لما تجرأ الاتحاد الاوروبي على الاقدام على مثل هذه الخطوة السياسية مع اسرائيل، ولكن كما يقال "كلمة يا ريت عمرها ما كانت تعمر بيت"، وما دامت الشعوب العربية مزرودة رقابها بقشطان واحزمة انظمة التخاذل العربي المدجنة غالبيتها في حظيرة خدمة المصالح الامبريالية وخيانة مصالح شعوبها، وبعيدا عن اتخاذ موقف عربي موحد يدافع عن المصالح الوطنية والقومية العربية، فان اسرائيل ستواصل مع سندها الامبريالي البلطجة العدوانية واغتصاب حقوق الفلسطينيين والعرب، ولكن رسالة الشعوب المناضلة دائما انها تمهل ولا تهمل وبقاء الحال من المحال.
د. احمد سعد
السبت 21/6/2008