لا يمكن أن يحقق شعب التقدم السياسي-الإجتماعي بدون تحقيق الوعي الذاتي، الوعي بالذات. والذات هي النفس المتصفة بصفات تحدد هويتها وتميزها عن غيرها. والوعي بالذات يعني وعي الذات الفردية والجماعية. وتشمل الذات الجماعية الذات القومية والإنسانية. ولا يمكن تحقيق الوعي التام بالذات لأنها تتكون من عناصر موضوعية وعناصر غير موضوعية. والعناصر غير الموضوعية يصعب أن تخضع للمقاييس الكمية. وعلى الرغم من ذلك يمكن الوعي بقسط كبير من الذات: طبيعتها وأبعادها وحالتها على الساحة المحلية والإقليمية والدولية ودورها ومدى أدائها لهذا الدور، والوعي بهدف ومغزى الذات في الوجود والوعي بالضغوط التي تتعرض الذات لها، والوعي بالعوامل التي تحول دون تحقيق الذات ودون تجليها وتكشفها وتأكيدها لنفسها والوعي بالعلاقة بين الذات الفردية والجماعية.
ومن شأن تحقيق الوعي بالذات أن يفضي الى تحقيق الذات لأهدافها أو لقسم من أهدافها، إذا كانت الظروف الواقعة خارج الذات تحول دون تحقيق الأهداف كلها، وأن يفضي إلى معرفة الذات لمصلحتها وإلى معرفة الذات للتعامل مع ذات أخرى أو كيان آخر، سواء كان ذلك الكيان فردا أو جماعة أو دولة. ومن شأن هذا التحقيق أيضا أن يمكن الذات من تحديد المسافات، بالمعنى الجغرافي والنفسي والاقتصادي، بينها وبين ذوات أو كيانات أخرى.
ومن شأن هذا التحقيق أن يكون للذات منطلق، نقطة انطلاق تنطلق منه في شتى المجالات. من هذا المنطلق تستطيع الذات أن تضع برنامج عملها وأن تحدد أولوياتها وأن تحدد سياسات التنفيذ، وأن تقرر ما هو ضار وما هو نافع لها حسب تصورها ومنظورها، وأن نضع التصور لمستقبلنا ولدورنا السياسي والحضاري. وعند تحقيق الوعي بالذات يتضح وجوب إدخال التغييرات اللازمة في حياتنا بما يتفق مع مقتضيات مصالحنا التي تتضح معالمها عند تحقيق الوعي بالذات.
وعند تحقيق الوعي بالذات لا بد من أن يتضح أن المصلحة الأهم للذات الفردية أو الجماعية هي المحافظة على بقاء الذات، وبقاء الذات على قطعة الأرض التي ولدت فيها والتي نسميها الوطن، والمحافظة على قطعة الأرض هذه والذود عن هذه الذات وأرضها بما أوتي الإنسان من الوعي. ويستلزم تحقيق هاتين المصلحتين تأكيد الذات لنفسها ومنع طمسها، وهو الطمس الذي من شأنه أن يحدث عن طريق التعرض للغزو الثقافي والتبعية الثقافية والتبعية الإقتصادية وجعل الذات والأرض التي تقيم عليها مرهونتين لإرادات ذوات أخرى لها مطامعها ومصالحها التي تتناقض مع مصلحة ذاتنا.
إن قطعة الأرض هذه مكان لأجدادنا طيلة سنين لا حصر لها، وقد تجلت عبقريتهم في فكرهم وآدابهم وفنونهم المدونة الباقية. وحق الأجداد على أبنائهم ألا يفرطوا في ذواتهم وألا يفرطوا في هذه الأرض. وبالتالي لا بد من أن تقوم دائما علاقة بين ذواتنا وأرضنا، وأيضا بين ذواتنا وأرضنا وماضينا الضارب في أعماق أعماق التاريخ. لتحقيق الوعي بالذات لا يمكن إلغاء هذه العلاقة أو نسيان أن روح الأجداد تكمن في كل حجر وكل ذرة رمل وتراب من أرضنا الطاهرة.
ومعنى عدم تحقيق الوعي بالذات هو عدم تحقيق الذات وعدم تأكيد الذات لوجودها لأن الذات التي لا تعي نفسها لا يمكنها أن تحقق نفسها وأن تؤكد وجودها. وعدم تأكيد الذات لوجودها معناه عدم تجلي الذات وطمسها وتمزيقها وبعثرتها، لأن الذات غير المحققة وغير المؤكدة في المحيط البشري الإجتماعي والطبيعي الذي نعيش فيه لا بد من أن تتكالب عليها ذوات أخرى فتطمسها أو تنهشها أو تمزقها أو تبعثرها، ويصبح الناس الذين ذواتهم مطموسة وممزقة ومبعثرة لا وزن لهم على الساحة الإقليمية والدولية ويكون دور هؤلاء الناس التاريخي والمعاصر دورا سلبيا، يكونون المتلقين الذين يتعرضون للتوجيه ويكونون موضوعا لسياسات الآخرين الذين وعوا بذواتهم وحققوها وأكدوها، ويصبح هؤلاء الناس عرضة للاستبعاد والاستغلال والاستعباد، ويصبحون كبش الفداء المادي والمعنوي، ويصيرون الأداة التي عن طرقها وعلى حسابها يحل أصحاب الذوات المحققة المؤكدة مشاكلهم ويحققون مصالحهم وينهضون بغلبتهم وسيطرتهم.
ولا تستقيم المواربة والخوف من قول الحقيقة مع الوعي الذاتي. المواربة والخوف، إن وجدا، يدلان على عدم تحقيق الوعي بالذات. الوعي بالذات لا مفر من أن يؤدي إلى قسط أكبر من النزاهة والصراحة والاستقامة والجرأة على الإعراب عن الحقيقة وعن الرأي والجرأة على دراسة شتى المواضيع وعلى النقد للذات وللحالات وللسياسات وللسلوك وللماضي وللحاضر وعلى النقد لطريقة تناول القضايا الإجتماعية والقومية والاقتصادية والمحلية والإقليمية والدولية ولطريقة معالجتها وعلى النقد لطريقة التوصل الى الإستنتاجات ولطريقة تناول هذه الإستنتاجات ولطريقة متابعتها.
وكلما كان الوعي بالذات أكثر تقريبا للذات من أن تحقق نفسها ومن أن تؤكد وجودها وكيانها ازداد الإقتناع قوة بأن الوعي بالذات حاصل حقا وبأن العقل ازداد تخلصا من القيود الفتاكة وبأن اليقظة أو الصحوة العقلية والنفسية حاصلة وبأن الذات الفردية أو الجماعية في طريقها الصحيح نحو أداء دورها ونحو تحقيق وجودها وتجليها القوي العازم.
وحتى يقربنا الوعي بالذات من تأكيد الذات لكيانها تجب إتاحة الظروف المفضية إلى ذلك التقريب، والظروف الأهم هي التنشئة على قيم وممارسات الحرية والديمقراطية وعلى احترام الكرامة الفردية والجماعية، وتحقيق قدر أكبر من التحرر من الخوف من السلطة الحكومية وغير الحكومية ومن التحرر الإجتماعي ومن التخلص من الحاجة المالية والإقتصادية، اي أن يتحول المجتمع من مجتمع يخيم عليه الظلم إلى مجتمع يتمتع بقدر أكبر من الحرية وتحترم فيه فردية الإنسان وإنسانيته.
وبالنظر إلى أن السلطة الحكومية هي العامل الأهم – ولكن ليست العامل الوحيد – في تحقيق أغراض من قبيل التحرير من الخوف وإزالة القيود والتخلص من الحاجة فإن تحقيق الوعي بالذات واقترابنا عن طريق هذا الوعي من تأكيد الذات لكيانها سيُعرقلان ما دامت السلطة الحكومية تناوئ تحقيق تلك الأغراض.
وليس في الإمكان تحديد سلامة الأفكار بالنسبة الى الذات العربية الفردية والجماعية دون وعينا بذاتنا. وبالتالي لا يجوز تحديد سلامة الأفكار بالنسبة إلى ذاتنا دون الوعي بهذه الذات. ومن الخطأ احتضان أفكار أو تيارات فكرية دون الوعي بذاتنا، إذ قد يكون هذا الاحتضان مضرا بها وبمصالحها. وإذا تم احتضان هذه الأفكار فإنه من قبيل فرض الأفكار على الذات، وهو الفرض الذي تأبى الذات الواعية أن تكون ضحية له لأنه يتنافى مع تأكيدها لوجودها. وليس من الصحيح تحديد الواقع الذي نريده والواقع الذي لا نريده دون الوعي بذاتنا. إن تحقيق الوعي بالذات يجب أن يسبق تحديد الواقع الذي تحدده الذات. وذلك يفسر أن كثيرا من التيارات والمذاهب الفكرية والفلسفات التي حاول مفكرون وسياسيون أن يطبقوها في المجتمع العربي فشل تطبيقها لأن الاختيار ومحاولة التطبيق حدثا قبل تحقيق الوعي بالذات. وقد فشل تطبيقه رغم محاولات فرضها على المجتمع.
وعلى الرغم من التأثر المتبادل بين الذات والواقع الذي حولها فإن الذات هي التي يجب أن تقرر مدى مناسبة الواقع لخصائص الذات ومستلزمات تأكيد كيانها وبقائها. وينطبق هذا الكلام على نحو خاص على الوطن العربي وعلى سائر مناطق العالم التي اصطلح على تسميتها بالعالم الثالث، حيث أسهم الحكم الأجنبي والمصالح الأجنبية إسهاما كبيرا في تشكيل الواقع الذي يحيط بالذات قبل أن تستطيع الذات أن تعي وتكتشف نفسها. ولذلك فعند تحقيق الوعي بالذات فإن هذه الذات لا بد من أن تكون منتِقدة أشد الإنتقاد لهذا الواقع ولا بد من أن تسعى إلى تغييره.
وتبذل الآن على الساحة العربية، وقبل تحقيق الوعي بالذات، محاولات لتغيير الواقع العربي في شتى المجالات. والفرق الأهم بين محاولات تغيير الواقع قبل تحقيق الوعي بالذات وبعد ذلك التحقيق هو أننا في الحالة الثانية من شأننا أن ننطلق بهذه المحاولات ونحن واعون على نوع أشد دقة بجوانب الواقع التي نريد تغييرها وأن ننطلق بهذه المحاولات على أساس وعينا بأنفسنا ووعينا بجوانب الواقع التي تتفق أو لا تتفق مع خصائص ذاتنا.
(شفاعمرو)
روان يوسفين*
الخميس 19/6/2008