صدرت عن دار المدى للثقافة والنشر مسرحية الكاتب والمؤرخ الامريكي هوارد زين (ماركس في سوهو) ونقلها الى العربية الحارث النبهان وقد صدرت هذه المسرحية التي هي من نوع المونودراما عام 1999 عن مؤسسة ساوث اند للطباعة وهي بالتالي تعد آخر اعمال زين المطبوعة.
وكان هوارد زين قد اصدر قبل ذلك كتابا مسرحيا مشتركا مع سارجنت ولكين بعنوان (ايما) عام 1986 عن التحرّرية النسائية الامريكية ايما غولدمان، كما أصدر هوارد زين قبل ذلك كتابا في النقد السياسي عام 1964 بعنوان (دعاة الغاء الرق الجدد) وبحثا في (سياسات التاريخ) عام 1990 و(اعلانات الاستقلال) في نفس العام وعددا من الكتب السياسية والتحريضية الاخرى لاقامة نظام شعبي جديد في الولايات المتحدة.
اشتهر هوارد زين قبل ذلك بكتابة تعليقاته على (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الامريكية) وتوسيع ملاحظاته الى مراجعة كاملة وشاملة تميزت بالنقد والتصحيح وقد صدر هذا العمل عام 1995، ثم اصدر بعد ذلك كتابا بعنوان "قارئ زين" وهو مجموعة كتابات عن الديمقراطية والعصيان، ثم اصدر عام 1999 كتابه المثير (مستقبل التاريخ) الذي تكون عبر مقابلات متعددة مع المؤرخ ديفيد بارساميان.
ولد هوارد زين في ثلاثينيات القرن الماضي زمن الركود الاقتصادي ووالده مهاجر من النمسا كان يعمل بكد يومي هو وزوجته لتأمين معيشة اسرته الكبيرة.
كتب زين في مقدمة عمله المسرحي انه قرأ البيان الشيوعي وهو صبي فتأثر بأفكاره وآمن بان النظام الرأسمالي سيغادر المسرح ذات يوم ليحل محله نظام اشتراكي وقد سعى- مثلما اراد البيان- الى تحقيق العدل عن طريق التظاهر ضد الرأسمالية فنالته ضربة هراوة على رأسه من رجل من الشرطة السرية خلال التظاهرة افقدته الوعي وتأكد من ان الدولة عبارة عن لجنة لادارة الشؤون العامة للبرجوازية.
تثقف زين وهو عامل في سفن على عرض انجلز للفلسفة الماركسية في كتابه (ضد دوهرينغ) ففهم عملية الاستغلال والصراع الطبقي.
ويستمر زين في تحليل فهمه لموقف الرأسمالية كقوة تقدمية في مرحلة من التاريخ ثم تحولها الى قوة قمعية للمجتمع بعد ذلك.
خدم زين في الجيش كقاذف قنابل خلال الحرب الثانية ثم ذهب الى الكلية والمدارس العليا بعد تسريحه ليدرس التاريخ ثم ليحاضر فيه على طلبة كلية سبيلمان ثم جامعة بوسطن وهو يهتم بالدراسات عن التحرّرية بحيث نظم حلقة بحث في جامعة بوسطن عن الماركسية والتحرّرية ودرس زين شخصية ماركس من خلال قراءاته عددا من السير التي كتبها قريبون منه وقرأ كتاب الانكليزية ايفون كاب عن حياة ابنته اليانور وبدأ يخطط للكتابة عن ماركس كرب أسرة وأب لبنات ثلاث وأعاد تخطيط الحركة اليومية لشخصية ماركس الشاب والأب والزوج والسياسي ليصنع منها مادة مسرحية تصور حياة ماركس- على لسانه وبلسانه- في فترة نهاية الاتحاد السوفييتي وهو يعيش تجارب الغورباتشوفية وسقوط التجربة السوفييتية كدولة.
في النص المسرحي المونودرامي يبدو ماركس لأول وهلة كما نعرفه من خلال صورته التقليدية ولكن مع بعض التطوير حيث يبدو اقل شيخوخة وأكثر نضارة ويحمل كيس تسوق يخرج منه كتبا وزجاجة بيرة وكأسا ويبدأ الحديث مباشرة للجمهور معبرا عن افكاره وتحولاتها مؤكدا انه دعا الى دكتاتورية البروليتاريا ولم يتحدث عن دكتاتورية اللجنة المركزية ولا دكتاتورية الفرد مهاجما باكونين وافكاره وطريقة حياته، ولا تبدو المسرحية مادة ذكريات تاريخية او دفاعا عن افكار ماركس بل عن ماركس الجديد الذي تخيله زين بعد مائة وخمسين عاما حيث يمسك ماركس بالصحيفة ويقرأ:
"الذكرى السنوية لحرب الخليج نصر سريع حاسم وجميل، نعم اعرف تلك الحروب السريعة والجميلة التي تخلف الاف الجثث في الحقول وتخلف اطفالا يموتون بسبب قلة الطعام والدواء" ثم يلوح بالجريدة ويتحدث عن الحدود في اوروبا وافريقيا وفلسطين داعيا الى محو تلك الحدود وترك الانسان يتجول حرا في هذا العالم مؤكدا انه لم يدرك قدرة الرأسمالية على الاستمرار حتى يومنا هذا بحيث ان الحروب التي صنعتها جعلت الصناعة تستمر وجعلت الناس يجنون وطنية بحيث ينسون بؤسهم ويجنون تطرفا دينيا يعد الناس بعودة المسيح.
ويستمر ماركس بتحليلاته على المسرح المفترض الذي انبثق في سوهو- حي الضياع والتشرد والعنف والجنس في لندن- مؤكدا على الناس ان يتحركوا وان يستخدموا ثروة الارض من اجل خير البشر ليختم العرض بقوله "اعطوا الناس ما هم بحاجة اليه: الطعام والدواء والهواء النظيف والماء النقي، اعطوهم اشجارا وعشبا، اعطوهم بيوتا تسر نفوسهم بالعيش فيها، اعطوهم بضع ساعات للعمل وساعات اكثر للفراغ، لا تسألوا عمن يستحق ذلك. كل كائن بشري يستحق هذا الأمر". ويجمع ماركس اغراضه ويستدير قائلا وهو يودع الحاضرين: "هل كرهتم عودتي وازعاجي لكم؟ انظروا للامر بهذه الطريقة: انه العود الثاني لم يستطع المسيح فعله لذلك عاد ماركس".
والسؤال هنا: هل عاد ماركس حقا ام انها عودة مفترضة في ذهن هوارد زين الذي كرس حياته لخدمة التجديد في البنية الماركسية بطرق عدة منها المسرحية وكتابة المادة التاريخية ليبدو اكثر حرية من كثيرين من الذين اسهموا كجدانوفيين في ضياع الكثير من افكار ماركس عن طريق التطبيق الانتقائي لها وضياع تجربتها الفريدة بعد ذلك على يد المدعو غورباتشوف بارون الرأسمالية الجديد الضائع.
زياد عبد الله
الثلاثاء 17/6/2008