لا يحاول أمل دنقل قراءة الحاضر بعيون الماضي أو تأويل الواقع الراهن من خلال إضاءة الحاضر بأسطورة الماضي الغاربة؛ بل إنه يغمس الماضي وشخصياته وأسطورته وواقعته التاريخية في الدم السائل للحظة الحاضرة
تمر الذكرى الخامسة والعشرون لوفاة الشاعر المصري أمل دنقل (1940 – 1983) الذي رحل بعد معاناة مع مرض السرطان أنتجت قصائده في «قصائد الغرفة رقم 8»، ناقلة عمله الشعري من محور الكتابة التي تستدعي التاريخ ومادته والإسقاط عليه إلى محور الغنائية الصافية التي تصف مشاعر مريض يقيم في غرفة في مستشفى. ما بين هذين العالمين من الكتابة الشعرية أصبح أمل دنقل، الشاعر الذي لم يعش طويلا في هذا العالم (مثله مثل عدد من الشعراء الرومانسيين العرب وغير العرب، ومثله مثل السياب كذلك)، أيقونة معاصرة في الشعر العربي خلال القرن العشرين.
يصدر أمل دنقل عن رؤى الإحباط والهزيمة ومصارعة الموت الذي يقف منتظرًا خلف باب غرفة المستشفى ليقبض الروح التي ستكف عن الصراع بعد أن وهن من صاحبها اللحم والعظم. لقد فجّر المرض الطاقة الشعرية الكامنة داخله وجعله يكتب أفضل قصائده. وقد التفت النقد العربي بصورة بارزة إلى شعر أمل دنقل في»أوراق الغرفة رقم 8» وعدّه تتويجًا لـ «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» و «مقتل القمر».
لكن دنقل، في معظم شعره، يتخذ من الشخصيات والوقائع التاريخية، التي يستدعيها في شعره، أقنعة يتراءى خلفها الإنسان المعاصر المطحون بالأحداث اليومية. وهو في اعتماده الدائم على تلك الشحنة التاريخية المتقدة، التي ينهل منها شخوصه وثيماته ورؤيته للحاضر المدان، يحول شعره، في مجمله، إلى حكايات رمزية تحكي عن الحاضر من خلال الاستحضار الكثيف للماضي. وهو على مدار تجربته الشعرية، التي لم تتجاوز عقدين من الزمن، استطاع أن يجعل من المادة التراثية (بالمعنى العام لكلمة تراث حيث يضم التراث كل ما ورثته الأمة من معارف وأساطير وموروث ديني مسيحي أو إسلامي أو فرعوني... إلخ) المُولّد الفعلي للمعنى في قصائده. ومن ثمّ، فإن المادة التراثية التي يستحضرها الشاعر في قصائده تمنحنا مفاتيح عالمه الشعري وتقيم بينه وبين قارئه صلات نسب في المعرفة والمشاركة الوجدانية. ولعل هذه القاعدة من المعرفة المشتركة من بين الأسباب التي منحت شعر أمل دنقل جماهيريته وانتشاره وقربه من قلوب قرائه حتى بعد مرور عقدين على وفاته.
يدرك أمل دنقل، بحسه الشعبي العميق، أن المادة التي يستلها من التاريخ، بما فيها من شخصيات ووقائع وإشارات وأساطير وحكايات شعبية، ينبغي أن يُعاد تشكيلها في ضوء الحاضر حتى تمتلك قدرة التأثير في قارئ متلهف للتعرف على الصدع القائم بين الماضي والحاضر، على الفارق بين الماضي الذهبي للعرب وحاضرهم الرمادي المهزوم. لكن بناء المفارقة يتطلب أن يختار الشاعر واقعة تاريخية تتضمن ضعفًا شبيهًا بضعف الحاضر ليصبح في إمكان القارئ أن يعيد مع الشاعر بناء الواقعة التراثية في سياق الحاضر. وهذا ما يفعله دنقل في كل قصائده باستثناء القصائد التي عنونها: «أقوال جديدة عن حرب البسوس» التي لم تكتمل قصائدها، واشتهرت منها قصيدته «لا تصالح» التي ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بمعاهدة «كامب ديفيد» الأولى بين مصر وإسرائيل، حيث أصبحت القصيدة على مدار عقود تعويذة الرافضين للصلح مع إسرائيل والتعبير الرمزي عن روح الأمة المتقدة الرافضة الاستسلام لشروط المحتلين.
في قصائد «أقوال جديدة عن حرب البسوس» تعبير مباشر عن الحاضر، وتوازٍ تاريخي شديد الوضوح بين حكاية مقتل كليب على يد ابن عمه جساس بن مرة وحكاية العرب المعاصرين وهزيمتهم المدوية عام 1967، وتناديهم للصلح في سنوات السبعينات من القرن الماضي. وقد انعكس التوازي التاريخي على القصيدة وصورها واستعاراتها ولغتها الشديدة المباشرة واتكائها على لغة التحريض، ما يجعلها تختلف عن كثير من القصائد التي كتبها أمل دنقل في سنوات الستينات والسبعينات. إن التاريخ في هذه القصائد يُستدعى ليسند البنية التحريضية للقصيدة، لا ليشتغل عليه ويعاد صوغه.
في «بكائية لصقر قريش» يقوم الشاعر بالمزج بين شخصية عبدالرحمن الداخل، الأموي الهارب من أرض إلى أرض، بحورس الصقر المجنح وبرمز المسيح. وعلى رغم أن السطور الأولى من القصيدة تشي بصورة إيجابية ترسمها للصقر...
«عم صباحًا... أيها الصقر المجنح/ عم صباحًا.../ هل ترقبت كثيرًا أن ترى الشمس/ التي تغسل في ماء البحيرات الجراحا/ ثم تلهو بكرات الثلج،/ تستلقي على التربة،/ تستلقي... وتلفح!».
إلا أن ما يلي من سطور شعرية يكرس صورة تراجيدية حزينة ونهاية كاريكاتورية مؤلمة للصقر، بدلالاته التاريخية المختلفة وصوره الفرعونية والمسيحية والعربية المستدعاة. إننا نشهد تقويضًا من الداخل لما تنطوي عليه الشخصية التاريخية لتتطابق دلالتها مع الراهن المهزوم.
«عم صباحًا أيها الصقر المجنح/ عم صباحًا.../ سنة تمضي وأخرى ستأتي./ فمتى يقبل موتي.../ قبل أن أصبح - مثل الصقر -/ صقرًا مستباحًا؟».
لكن هذا النوع من تفريغ الرمز التاريخي من معناه المتداول يبلغ أوجه في قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» حيث يكتفي الشاعر باستخدام الإشارة التاريخية إلى حكاية زرقاء اليمامة التي تشكو إليها الأنا الشعرية هزيمة العرب عام 1967. في هذه القصيدة، التي ولد من رحمها أمل دنقل الشاعر، مزج مدهش بين لغة المجاز واللغة المباشرة، بين التعبير المجرد ولغة الملموس، بين استحضار الماضي والتعبير عن الراهن، بين الحفاظ على صورة الرمز التاريخي وتجريده من رمزيته وجعله تعبيرًا عن الحاضر الأعمى. لكن الرمز التاريخي، الممثل في زرقاء اليمامة، يلحم الانتقالات المتكررة بين تلك المستويات المتقابلة من التعبير، ويُدرج الماضي في الحاضر من خلال الإشارة الضمنية إلى هزيمة قبيلة زرقاء اليمامة لعدم تصديقهم لها وأخذهم بحكمتها. في هذا السياق من التعبير الشعري تُعقد مقارنة ضمنية بين نفاذ بصيرة الشخصية التاريخية ورؤيوية الشاعر في الوقت الراهن. ففي كلتا الحالين حصلت الهزيمة لأن الجماعة لم تلتفت إلى الأخطار المحدقة بها، ولم تستمع إلى قول الحكماء فيها، ما يجعلنا نتساءل مَنْ قناعُ الآخر: زرقاءُ اليمامة أم الشاعر؟
«جئت إليك... مثخنًا بالطعنات والدماء/ أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة/ منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء./ أسأل يا زرقاء.../ عن فمك الياقوت، عن نبوءة العذراء/ عن ساعدي المقطوع... وهو لا يزال ممسكًا بالراية المنكسة/ عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة على الصحراء/ عن جاري الذي يهمّ بارتشاف الماء.../ فيثقب الرصاص رأسه... في لحظة الملامسة!/ عن الفم المحشو بالرمال والدماء!!/ أسأل يا زرقاء.../ عن وقفتي العزلاء بين السيف... والجدار!/ عن صرخة المرأة بين السبي.. والفرار؟/ كيف حملت العار.../ ثم مشيت؟ من دون أن أقتل نفسي؟ من دون أن أنهار؟/ ومن دون أن يسقط لحمي... من غبار التربة المدنسة؟».
إن الشاعر يبني حول رمز زرقاء اليمامة أغلفة من الرموز والوقائع التاريخية التي تنتمي إلى مراحل وحقب مختلفة، وهو في سياق الخطاب الموجه إلى زرقاء اليمامة يشير بصورة مواربة إلى عنترة العبسي وعدم اعتراف قبيلته به فارسًا إلا عندما يتعرض بنو عبس للخطر. لكن مشاركة عنترة في القتال لا تجلب النصر، لأن نفي مواطنته، وإقامة حاجز سميك بينه وبين علية القوم، سيجعلانه بلا حول أو طول. إن عنترة يقابل في القصيدة الشعبَ الذي اغتصبت السلطة صوته وهمشته وجوعته ومنعته من المشاركة في صنع قرار الحرب، لكنها عندما قررت الدخول إلى الحرب طلبت منه القتال فانهزم.
«لا تسكتي... فقد سكت سنة فسنة.../ لكي أنال فضلة الأمان/ قيل لي «اخرس...»/ فخرست... وعميت... وائتممت بالخصيان!/ ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان/ أجتزّ صوفها.../ أرد نوقها.../ أنام في حظائر النسيان/ طعامي: الكسرة... والماء... وبعض التمرات اليابسة./ وها أنا في ساعة الطعان/ ساعة أن تخاذل الكماة... والرماة... والفرسان/ دعيت للميدان!/ أنا الذي ما ذقت لحم الضان.../ أنا الذي لا حول لي أو شان.../ أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،/ أدعى إلى الموت. ولم أدع إلى المجالسة!!».
ثمة في هذا السياق من التعبير الشعري تذويب للرمز التاريخي، ونفي لرمزيته عبر عكس الواقعة التاريخية أو الحكاية الأسطورية وتفريغها من دلالتها المتداولة، لكي تتطابق مع المعنى الذي يقصد الشاعر توليده. ولعل قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» أن تكون من بين أفضل قصائد أمل دنقل التي اعتصرت الرمز التاريخي من خلال عكس وجهته ومطابقة دلالته بدلالة الواقعة الراهنة المتشحة بثوب الهزيمة. كما أن خاتمة القصيدة تصور زرقاء اليمامة وحيدة عمياء البصيرة للدلالة الرمزية لشخصية زرقاء اليمامة التي عُرف عنها قدرتها على الرؤية من بعد.
«ها أنت يا زرقاء/ وحيدة... عمياء!/ وما تزال أغنيات الحب... والأضواء/ والعربات الفارهة... والأزياء!/ فأين أخفي وجهي المشوها/ كي لا أعكر الصفاء... الأبله... المموها/ في أعين الرجال والنساء؟/ وأنت يا زرقاء.../ وحيدة... عمياء!/ وحيدة... عمياء!».
انطلاقًا مما سبق يمكن القول إن لا حضور للماضي، في شعر أمل دنقل، على هيئته التاريخية، بل إن ذلك الحضور يتحقق في ثياب الحاضر وعلى هيئته. إن الحاضر يغزو الماضي بروحه وتفاصيله ودمه السائل وبؤسه وهزيمته المعلنة فوق كل الرؤوس. ولعل في ذلك تجريدًا للأقنعة التي يرتديها الشاعر، من وظائفها، وإدراجًا للماضي في لحم الحاضر. لا يحاول أمل دنقل، من ثمّ، قراءة الحاضر بعيون الماضي، أو تأويل الواقع الراهن، أو بالأحرى التفتيش عن ميكانيزمات الهزيمة الراهنة المدوية، من خلال إضاءة هذا الحاضر بأسطورة الماضي الغاربة؛ بل إنه يغمس الماضي وشخصياته وأسطورته وواقعته التاريخية في الدم السائل للحظة الحاضرة.
تلك استراتيجية أساسية في شعر أمل دنقل تميزه عن شعراء جيله الذين حاول بعضهم رسم صورة إيجابية للماضي لإقامة تضاد حاد بين تلك المرحلة الغاربة من ماضي العرب الحضاري والواقع الراهن الذي يصورونه سالبًا في عملهم الشعري. فعلى النقيض من ذلك، يعمل شعر دنقل على غمس الماضي في شواغل الحاضر. لا رغبة لدى الشاعر في تغريب الحدث اليومي في شعره لأغراض جمالية، أو بدوافع رقابية، أو لدواعي توثين الماضي؛ بل إن الغاية الفعلية للشاعر هي توجيه إصبع الاتهام الى الماضي الذي يقيم في لحم الحاضر ويصوغ وعي سكانه. وشخصيات الماضي المستدعاة مثلها مثل الشخصيات المعاصرة، التي تسعى وإياها في الزمان الراهن، مهزومة ومدانة ومطحونة بوعي الهزيمة. ذلك يصدُق على زرقاء اليمامة وأبي موسى الأشعري والمتنبي وأبي نواس وكليب وصلاح الدين وصقر قريش، لأن تلك الشخصيات التاريخية المستدعاة لا تحضر بوعي ماضيها وشروطه، بل بوعي الحاضر المدان وشروطه.
وفي هذا السياق يكف القناع عن العمل بطاقته الكاشفة عن ضعف الحاضر وبقعه السود، وتتحول الخطوط الأساسية في عمل دنقل الشعري إلى حزم من التوازيات المقامة بين الماضي والحاضر يضيء الواحد منها الآخر في لعبة كشف متبادلة: من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي.
* ناقد أردني ("الحياة" اللندنية)
فخري صالح
الأثنين 16/6/2008