صادفت يوم أمس السبت 14 حزيران، الذكرى الثمانون لميلاد تشي غيفارا. انتهى نضاله بيننا لدى بلوغه سن التاسعة والثلاثين.
غير ان الاعداء لم يفوزوا بقتله. فهو اليوم اكثر حياة مما كان خلال اربعة عقود من وجوده المادي. ناهيك عن انه من النادر ان يعمّر الثوريون كما حصل مع ماو تسي تونغ وكما يحصل مع فيديل كاسترو. كثيرون منهم جادوا بدمائهم باكرا في سبيل الاسهام في بناء مشروع عالم تسوده الحرية والعدالة والسلام: يسوع المسيح (33 عاما)؛ خوسيه مارتي[2] (42 عاما)؛ سيسر ساندينو[3] (38 عاما)؛ ايميليانو ساباتا[4] (39 عاما)؛ فارابوندو مارتي[5] (38 عاما). استشهد بهؤلاء فقط على سبيل المثال.
ان العدو "ينتف شعر رأسه" اليوم، عندما يوقن ان تشي اكثر حضورا الآن من الفترة التي كان يعتقد فيها انه قادر على اغتيال الافكار. لم يأل جهدا في محاولته الزّجّ بغيفارا في غياهب النسيان؛ مثّل بجثمانه واخفى اطرافه في اماكن مختلفة[6]؛ تجنّى عليه بكل انواع الاكاذيب؛ حرّم تداول أدبه في بلدان كثيرة.
كالعنقاء العنيدة، ينبعث تشي في الصور والموسيقى والعروض المسرحية والافلام وقصائد الشعر والروايات والمنحوتات والنصوص الاكاديمية. حتى انه تم تعميد علامة بيرة باسمه، الـUnique Garden، صورة وجهه الشهيرة التي التقطها كوردا[7]، تتصدر قاعات البيوت السكنية.
عندما ايقن الاعداء ان السلاسل لا تحبس الرموز، وان الرصاص لا يقتل الامثلة، اختلقوا له سيرات ذاتية باطلة في محاولة للتشهير به. هراء. حتى في مباريات كرة القدم يرفع الهواة يافطات تحمل محيّاه. وللعلم لا يدفع احد فلسا واحدا في نشر صورته. فهي بمفردها تكتنف الاهمية، لانها تعكس الافكار التي جعلت منه انسانا ثوريا. لا شيء من هذا جاء نتيجة للـMarketing (فن التسويق). انها التفاتات تلقائية من اولئك الذين يريدون التأكيد على ان الطوباوية[8] لا زالت حيّة.
اليوم، اذ نقدم هذا الموجز عن ارث تشي ونحيي ذكراه الثمانين، فانه يلحّ علينا ان نركز قلوبنا وعيوننا على الوضع المقلق الذي يعيشه كوكبنا، حيث تسود هيمنة الليبرالية الجديدة. جموع غفيرة، وخاصة من الشباب، يتم استهواؤهم الى النزعة الفردية وليس الى الروح الجماعية؛ الى المنافسة وليس الى التضامن؛ الى الطموح الجامح وليس الى الكفاح في سبيل اجتثاث البؤس.
يتحدثون كثيرا عن فشل الاشتراكية في اوروبا الشرقية ولا يتحدثون بالكاد مطلقا عن الفشل الحتمي للرأسمالية بالنسبة لثلثي البشرية، ولأربعة مليارات انسان يعيشون تحت خط الفقر.
التدهور البيئي ينكّد حياتنا ايضا. لو ان قادة العالم سمعوا التنبيه الذي اطلقه فيديل كاسترو في قمة ريو دي جانيرو[9] عام 1992، لربما لم يصل الدمار (البيئي) الى حدّ التسبب في تكرار ظاهرة التسونامي والعواصف والاعاصير التي لم يسبق لها مثيل، ناهيك عن الاحتباس الحراري وذوبان جليد سطحي القطبين (الشمالي والجنوبي) وتصحر الغابات. ان دمار الامازون يدق صفارة الانذار.
برميل النفط الذي يكلف عشرة دولار عند "فم البئر"[10] بلغ سعره اكثر من 130 دولار في السوق. من المحزن جدا ان يتم حجز مساحات زراعية كبيرة تنتج الغذاء، من اجل انتاج الايثانول المخصص لتغذية 800 مليون سيارة بمحرك، تجول في كل الارض، وليس لتغذية الـ824 مليون انسان جائع، المهددين بالموت المبكر. ازاء هذا العالم الذي حلت فيه المضاربات المالية محل انتاج الخيرات والخدمات، وحيث تكون بورصة المقتنيات هي ميزان قياس سعادة الانسان المزعومة، ما العمل؟
بوليفار[11] يجب ان يكون سعيدا بهذا الربيع الدمقراطي في امريكا اللاتينية. في اعقاب دورات الدكتاتوريات العسكرية والحكومات الليبرالية الجديدة، ينتخب الشعب الآن حكومات ترفض آلكا[12]، وتصادق على آلبا[13]، وتعزز ميركوسور[14] وتندد بغزو العراق وبمحاصرة كوبا على يد الحكومة الامريكية.
ما هي افضل الاشكال لاحياء الذكرى الثمانين لميلاد تشي؟
اعتقد ان افضل هدية هي ان نرى الاجيال الجديدة تؤمن وتناضل في سبيل عالم آخر ممكن، يكون التضامن فيه عادة وليس فضيلة؛ وممارسة العدالة استحقاقا ادبيا، والاشتراكية تكون الاسم السياسي للمحبة[15].
فلنبن عالما خاليا من التدهور البيئي والجوع والتفاوت الاجتماعي!
عشية الذكرى الخمسين للثورة الكوبية، يجب علينا جميعا ان نضطلع بها باضطراد، ليس بصفتها حدثا من الماضي، بل كمشروع لمستقبل.
*المصدر: صحيفة غرانما الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي http://www.granma.cubaweb.cu/2008/06/10/nacional/artic01.html
* ترجمه عن الاسبانية: نور الدين عواد.
هوامش:
[1] احد اقطاب نظرية اللاهوت التحريرية في امريكا اللاتينية، فصله الفاتيكان من الكنيسة بسبب التزامه بكنيسة الفقراء والطبقات الشعبية حسب تفسيره لرسالة المسيح.
[2] البطل القومي الكوبي. قتل عام 1895على ارض المعركة ضد الاستعمار الاسباني.
[3] البطل القومي النيكاراغوي، اول من هزم القوات الامريكية الغازية لبلاده عام 1933، تم اغتياله عام 1934على يد آل سوموزا، مأجوري الامبريالية الامريكية.
[4] احد قادة الثورة الزراعية المكسيكية وأعلامها، و"جيش ساباتا للتحرير الوطني" في المكسيك منذ عام 1994، نسبة اليه.
[5] البطل القومي للسلفادور، قائد قومي امريكي لاتيني قاتل في نيكاراغوا وناضل في المكسيك واسس الحزب الشيوعي السلفادوري عام 1932، واعدمه جيش الدكتاتورية المأمور امريكيا. وتنسب الى اسمه "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني" التي قادها الفلسطيني شفيق حنظل الى لحظة وفاته.
[6] تم العثور على بقايا جثمانه وجثامين رفاقه المقربين واعيدت جميعا الى كوبا عام 1997، وترقد في ضريح كبير على ثرى المدينة التي حررها يوم 30 كانون الأول 1958: سانتا كلارا.
[7] كوردا هو المصور الكوبي الذي التقط اشهر صورة لغيفارا تجوب ارجاء العالم اجمع.
[8] المقصود الحلم وليس المذهب الطوباوي.
[9] قمة الارض التي عقدتها الامم المتحدة هناك.
[10] تكلفة الاستخراج.
[11] سيمون بوليفار محرر امريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني
[12] مختصر "منطقة التجارة الحرية للامريكيتين" صناعة امريكية.
[13] مختصر "البديل البوليفاري للامريكتين" صناعة تشافيز ردا على المشروع الامريكي سابق الذكر.
[14] سوق الجنوب، احد أشكال تكامل بلدان أمريكا الجنوبية اقتصاديا (دون مشاركة الولايات المتحدة).
[15] هذا هو التعريف اللاهوتي للاشتراكية حسب تفسيرات وكتابات فري بيتو.
فري بيتو[1]
الأحد 15/6/2008