لا يختلف اثنان على أنّ مشاكل السير في مدينة الناصرة باتت تخنق المدينة واقتصادها، وأنّ أي مشوار عادي في الشارع الرئيسي بات مهمة شبه مستحيلة منوطة بإهدار بضعة لترات من الأعصاب والوقود سدًى.
وأسباب هذا ليست ذاتية وحسب طبعًا، والقائمة طويلة. يكفي أن نذكر أنّ الناصرة اضطرت لاستيعاب ما يفوق طاقتها من اللاجئين-المهجّرين عام 1948 (فضلا عن الهجرة الداخلية فيما بعد)، وأنّ السلطات لا تدّخر جهدًا في سبيل خنق هذه المدينة-العاصمة السياسية والكفاحية.
لكن، وإلى جانب هذا، ثمة العامل الذاتي. وأقصد هنا تحديدًا ما يسمى بثقافة السياقة، والتي يعتبرها البعض، وبحق، مرآة لمستوى البلد الحضاري. إذ يبدو أحيانًا أن للناصرة أنظمة سير خاصة بها، تختلف عن تلك المتبعة في البلاد والعالم. ويضطر السائق منا إلى الخضوع إلى هذه الأنظمة، القريبة إلى حد كبير من شريعة الغاب، كي لا يعلق دقائق طويلة على أحد المفارق في انتظار "تكرّم" أحد السائقين باحترام حق الأولوية. لا بل أن سائقي الناصرة اجترحوا طريقة جديدة للتعايش مع هذا الوضع: يدحشون سيارتهم أمام سيارتك، وبعد أن يفرضوا عليك الأمر الواقع، يرفعون يدهم شاكرين ممتنين، في لفتة كريمة. وكأنهم يقولون: "غضبًا عنك.. بس برضو شكرًا". أهلين يابا!
وكم من مرة تبيّن أن اختناقًا مروريًا طويلا عريضًا، سببه سائق فظ يعتقد أن الشارع "شارع أبوه"، وأنه يحق له تعطيل حركة السير لمجرّد أنه لا يريد إيقاف سيارته إلا على باب المحل الذي يقصده؟
لماذا يستعد نفس الشخص، نصروايًا كان أو غيره، للمشي بضعة عشرات الأمتار من الموقف إلى المكان المقصود، في نتسيرت عليت أو حيفا أو كرميئيل مثلا؟ أليست هذه نفس الذهنية المشوّهة التي تحلل لصاحبها أن يلقي القمامة في الشارع في وادي النسناس لكن ليس في مركز الكرمل؟!
المسألة إذًا ليست مسألة بنى تحتية وموارد وتمييز عنصري فقط. إنها مسألة ثقافة أيضًا. مسألة وعي وفهم لطبيعة الحد الأدنى من اللياقة المطلوبة في الحيّز العام. والشوارع، والحمد لله، هي الحيز العام الجغرافي الوحيد تقريبًا الموجود في معظم قرانا ومدننا العربية.
فكي تسلك الناصرة، ثمة حاجة أيضًا لـ"تجليس" سلوكنا على الشارع.
رجا زعاترة
الأحد 15/6/2008