يقولون إن الوقت كفيل بأن يعوُّدنا على غياب صديق أو قريب. ولكن في حالة فؤاد يصعب تصديق هذا، فكيف يمكن للوقت أن يمحو كل ما تركه لنا فؤاد من ذكريات؟
ذهبت إلى وداعه الأخير واهمة بأن رؤية وجهه النائم ستساعدني على استيعاب رحيله. لكن على العكس، فرؤية تلك الابتسامة الأبدية صعّبت عليّ المهمة.. كيف يمكنه أن ينام مبتسمًا للحياة وهي قد خذلته؟ لا بد أن هنالك خطأً.
زاملتُ فؤاد عازر في مركز مساواة لثلاث سنوات، عملنا معًا في مشروع مكافحة العنصرية وعالجنا قضايا عدّة كل في مجال اختصاصه. ولم ينس فؤاد مدينتيه الرملة واللد وأهاليها، فأولاهما قسطا من اهتمامه وعمله. فرافع مثلاً من اجل وضع لافتات باللغة العربية في الرملة، وتابع قضايا اعتداء الشرطة على شباب من اللد.
لا ننسى عمل فؤاد على إعداد تقرير العنصرية الأول عام 2004، نذكر جميعًا كيف وصلنا إلى المكتب ذات صباح ووجدنا فؤاد حافي القدمين وبالفانيلا، وشبابيك المكتب مفتوحة جميعها، عمل حينها 48 ساعة متواصلة لكي ينهي إعداد التقرير بموعده المحدد. ضحكنا وضحك هو أكثر.
ومن شدّة ولعه بكرة القدم، بادر الى إعداد ملف حول العنصرية في ملاعب كرة القدم، وايصال القضية الى أعلى المستويات (بضمنها الاتحاد العالمي لكرة القدم، "الفيفا") حتى أصبح خبيرًا في هذا المجال.
***
كل من عرف فؤاد، يعرف أنه من المستحيل ان يكون زميلاً فقط، لقد كان صديقًا معطاءً، مصغيًا وداعمًا لكل من قصده. والاهم كان طيبًا إلى أقصى حد. لم نكن نتمتع في أي مجلس إذا كان غائبًا، فلحضوره وقعه الخاص. كان عوده برفقته كلما اجتمعنا، بذوقه الموسيقي الراقي، وكان مخزون النكات عنده لا يفرغ.. حتى انه من شدة الألم من الضحك كنا نتوسل إليه بالتوقف.
ولا ننسى الفترة التي مارس فيها الرياضة واتبع الحمية ليخفف من وزنه، كان يسألنا كل يوم إذا خف وزنه أم لا. كان دائمًا يقول: "انا مش ناصح... بس ملان شوي".
ونهفات فؤاد كثيرة، اصبحت تتردد منذ وفاته في كل مجلس بين زملائه واصدقائه. فنضحك.. ثم نصمت.. ثم نتساءل بصمت باكٍ "لماذا؟"
لقد رحل فؤاد دون ان يجيبنا عن سؤال: كيف يستطيع حامل كل هذه الأوجاع والآلام أن يُضحك الناس حتى البكاء؟ كيف يمكنه أن يسعد ويفرح كل من يعرفه؟ كيف كان يعود كل مرة من علاج في المستشفى، حاملاً كمًا جديدًا من النكات؟ وكيف بعد كل وعكة كان يزداد إصرارًا على الحياة؟ والسؤال الأهم: كيف يمكنه أن ينام مبتسمًا وهو أكثر من يحقّ له الغضب؟
***
في آخر محادثة لي معه، أسبوعين قبل وفاته، سألته إن كان بحاجة الى شيء فطلب أن أكتب مقالاً لتشجيع التبرع بالأعضاء، قال لي: "أريدك ان تكتبيه بعد ان أعمل عملية الزرع، نتحدث عن التفاصيل عندما تأتين لزيارتي". كيف لم أفهم حينها أنه كان يودعني، ويترك لي وصية؟
لا أعرف إن كنا سنعتاد غيابك، ولا اعرف إن كان الوقت قادرًا، كما يقولون، على شيء. ولكني أعرف أنه لو أتيحت لك الفرصة بأن توصي باكثر من كتابة مقال، لكنت أوصيت بان نحافظ على مخزون التفاؤل الذي تركته لنا.
***
في الفترة الأخيرة، وسط معاناته المتواصلة جراء علاج "الدياليزا" اليومي، وهو بانتظار متبرّع، شغلت هذه القضية جل اهتمامه. وكان يفكر بإقامة مشروع لتشجيع التبرع بالأعضاء. لقد قضى فؤاد أعوامه الأخيرة في انتظار متبرع، وربما لو وُجد هذا المتبرع قبل عام أو أكثر لما حصل ما حصل، ولما وصل الى غرفة العمليات منهك الجسد.
وها أنت ترحل يا فؤاد قبل انجاز المهمة..
عبير قبطي
السبت 14/6/2008