منذ أن نشرت الحلقة الأولى من البصاق على النفس لم أكتب شيئًا، فقد تفرغت لما هو أهم في حياتي، تفرغت لطقوس زواج ابنتي عرين، ولأول مرة أكتشف جمالية ترتقي إلى درجة الألوهية، سمعت عنها، وقرأت القليل عنها، ولا أعرف إن كان بامكاني أن أصفها الآن، لأنني ما زلت أعايش اللحظات، وأريد أن أبتعد عن الكتابة العاطفية الخاصة جدا، فكرت أنني الوحيد في هذا العالم الذي يشعر بهذا النوع من الفقدان. التقيت صديقا في مطعم أبي نضال، ولم يكن مدعوا للسهرة، بارك لي بزواج عرين. سألته: هل لك بنات؟ ضحك وقال: سألعن أبو أبوه.... وكاد يقول: سأغتاله. عندها اطمأنيت أنني لست الوحيد الأناني في هذا العالم.
عندما أنهيت الحلقة الأولى بـ"للبصاق على النفس بقية" فكرت أن أسترسل فعلا بالبصاق على هذا العالم والتعبير عن إحباطي ويأسي. تعليقات القراء شجعتني حينها. ولكن التعليق المغاير كان من عدي ابني الذي وبخني في مكالمة هاتفية من برشلونة، وكتب إلي بواسطة الميل رسالة قاسية يتهمني فيها أنني أتمسك بمثاليات تافهة، ثم عاد وتأسف لأنه لم يفهمني، وتوصل إلى أنني رفضت أن أبصق على نفسي. وأنا أعرف الآن متى سأبصق على نفسي، وأنا مرتاح لأنني لم أبصق على نفسي.
سأبصق على نفسي إذا عرفت وتوصلت لنتيجة أنني خذلت إنسانا أحبه ويحبني، سأبصق على نفسي إذا أنا تخليت عن الصدق الذي يحافظ على إنسانيتي، سأبصق على نفسي إذا أنا آذيت إنسانا، حتى لو كان يستحق الأذى، سأبصق على نفسي إذا أنا نسيت إنسانا قدم لي يد المعونة في ساعة ضيق، سأبصق على نفسي إذا يوما ما خذلت القضية الكبرى. لهذا السبب احتفظت ببصقتي ليوم البصق الكبير على الشيطان الذي يؤذيني ويؤذي من أحبهم، وسيأتي هذا اليوم، عندما نقف كلنا بالآلاف نرمي إبليس الكبير ببصاقنا، متخلين عن خلافاتنا التافهة.
أعترف الآن أن عرين أحدثت التغيير في حياتي. قالوا لي: هي تذهب لتعود اثنين، وثلاثة وأربعة. قالوا لي هذه هي سنة الحياة، وأنا بأنانيتي وبأنانية قلبي لم أرد أن أعترف بهذه السنة. قالو لي: عرين ستنجب أطفالا تربيهم لكي يبنوا هذا الوطن، مثلما ربيت أنت وربى الآخرون.
استوعبت ما قالوا لي. ولكن لماذا بكيت؟ لماذا نبكي في لحظات السعادة... أقسى الرجال يبكون... قال لي دكتور نبيل: البكاء هو قوة، الأقوياء هم الذين يبكون.
قالت لي عرين: أرجوك يا أبي ألا تبكي عندما أخرج من البيت. وفعلا لم أبك لأنني بكيت طوال الأسبوع في وحدتي، ودعتها بدون بكاء لأنني لم أع ماذا يحصل من حولي.
وها أنا أعد ابنتي أنني لن أبصق على نفسي، لن أبصق على نفسي ما دمت أعرف أن هذا الجيل، جيل ابنتي سيرفع رأسه مثلما قالت لها أم غانم قبل أن تخطو خارج البيت: ارفعي رأسك يا ابنتي عندما تخرجين من بيت أبيك.
لو تعرفون من هي أم غانم؟ امرأة في جيل الثمانين اليوم، أمية، أو شبه أمية، لا أعرف اذا كانت تفك الحرف اليوم، زوجها توفي قبل عدة سنوات، ذلك الشيخ، الشيخ سالم، الذي يعرف ربه ويعرف واجبات الوطن، لم يتاجر يوما في الدين، كان مؤمنا وطنيا، يعشق توفيق زياد ويعشق رفاقه، يحب بيته ويحب أبناءه وبناته، لأنه مؤمن أن هذا الحب هو الحب الذي يريده الله الذي يعبده. كان الشيخ سالم يصلي ويصوم، ويعبد الله، وفي الوقت نفسه كان يعبد القيم الإنسانية التي فرضها الدين عليه، حب أقربائه، وحب كل الناس، كان يكره التطرف ويقول: الله يحاسب الناس، أنا لا أستطيع أن أحاسب أحدا.
كيف لي أن أبصق على نفسي وهؤلاء البشر متشرشون في إحساسي وفي وعيي؟ هل أحتاج أنا في جيلي إلى أم غانم لتقول لي: ارفع رأسك ولا تبصق على نفسك؟
نعم! أنا أحتاج إلى أم غانم والى أبي غانم... أحتاج إلى تلك الجمالية في تفكيرهم وفي إحساسهم، أحتاج إلى العفوية التي بنت عالما جميلا، متفائلا.
أم غانم عندما صاحت بـ"الآييهة" كانت تعبر عن مرحلة جميلة عايشتها وتتمنى لعرين أن تعايش الجمالية الآتية، وكانت تتحدث أيضا إلى أم عرين وأبي عرين في الوقت ذاته أن الخير آت.
لن أبصق على نفسي لأنني شاهدت جمالية السعادة على وجه جيل ابنتي.
لن تكون للبصاق على النفس تتمة.
رياض مصاروة
الخميس 12/6/2008