حيفا ورام الله .. حكاية حب



من الصعب أن تجد حيفاوياً أو حيفاويةً لا يحلـمان بالعيش في رام الله، من السهل أن تقنع أهل رام الله بأن حيفا أجمل بقاع الأرض. ما الذي بين رام الله وحيفا؟ ليكون بينهما هذا الحب الغريب، وهذا التوحّد في الأماني والجنون والقلق؟ حلـمت مرةً أن حيفا ورام الله كانتا في الأصل مدينةً واحدةً تسطع بالـمحبة والذكاء والسلام والقرب من الله، فجاءت طاقة سلبية وشطرتها إلى نصفين، طوّحت بأحدهما بعيداً؛ فكانت رام الله شطر مدينة ناعماً وشاهقاً وزاخراً بالشقاوات ينتظر العودة إلى نفسه، تماماً كما شطر الكائن البشري في تصوّر أفلاطون.
كلـما رأيت شخصاً من حيفا يتجوّل في رام الله متسوقاً أو زائراً أو مثقفاً أو عابراً أحرص على متابعة خطواته الـمبتهجة في شارع ركب والـمضاءة بأمان شخص يمشي في إحدى غرف بيته الكبير القديم، واستراق السمع إلى كلـمة "إسّا" الـممتعة التي أحاول أن أقلّدها فأفشل. يا إلهي، ماذا تفعل بي هذه الكلـمة؟ إسّا إسّا إسّا، ما الذي تحفره داخلي؟ أي مدى تفتحه أمامي لنصوص ومتاهات تحرّض على الإبداع، وبلاد، أية مساحات لذاكرة وجسد وشغف غامض؛ يجب أن أكون من حيفا حتى أتقن لهجتها !! تماماً كما يجب أن أكون شجرة حتى أفهم لغة الريح، أيجب أن أعشق امرأة حيفاوية حتى أتقن لفظ كلـمة "إسّا"؟ رام الله وحيفا أختان مجنونتان لوالد رائع هو الحب، وأم طيبة هي السلام، تبحثان عن نفسيهما في الـمسرح والسينما والـمعارض التشكيلية والأمسيات الشعرية، والحب أيضاً، في مسرح وسينما القصبة تلتقي الأختان الهاربتان من البيت دون عودة، الـمتنكرتان بهيئتي قطتين مشمشيتي اللون والطموح، في مقهى (فتوش) بحيفا، أيضاً، تلتقيان عبر معارض الفن التشكيلي والصور والأفلام، عجزت الطاقة السلبية عن منع التواصل الثقافي بين الأختين. الطاقة السلبية منزعجة وحائرة، فرغم كل هذه السنين التي مرّت على شطر الـمدينة الواحدة وهذا التدمير الـمنهجي للحياة والإنسان والـمؤسسات إلاّ أن الحلـم بالعودة إلى الأصل ما زال متأججاً في روح الأختين الـمشمشيتين.
قبل أيام تحدثت عبر الخلوي مع الكاتب سلـمان ناطور، قال لي في آخر الحديث: "أنا الآن أجلس في مقهى بمدينة حيفا أحاول أن أكتب عن حيفا"، شعرت بسعادة حزينة بتأثير من جملته الأخيرة، انتبهت إلى أن حيفا في جملته الأخيرة ذكرت مرتين، كم هو مثير للفرح أن يكون هناك عرب في حيفا يجلسون في مقاهٍ ويكتبون، سألته: "هل تعني أنك تجلس في مقهى شعبي"؟ فأجابني بـ "لا" مستغربة أو هاربة، ولـم يشرح لي ماهية الـمقهى بالضبط، كنت أريده أن يقول لي (نعم، أنا في مقهى شعبي بكل ما في الكلـمة من لهجات متنوعة وأصوات عالية وضجيج حلو لقطار قريب، حولي فلاحون يعتمرون الحطة والعقال يستريحون في حيفا في طريقهم إلى يافا، بعد أن باعوا محصولهم من البرتقال والفول والباذنجان، ومدنيون يرتدون البِذل أغلبهم من أغنياء الـمدينة ومعلـمي الـمدارس والطلاب، يلعبون الزهر، ورائحة الأرجيلة تدوّخ الـمكان تلك الدوخات اللذيذة"، لـماذا لـم تقل لي يا سلـمان (إنك تجلس في مبنى قديم بحيطان سمينة وسقف مقوس وإنك غاطس في محيط هائل من رائحة القهوة العربية)؟ الجلوس في حيفا والكتابة عنها هو الرد على كل محاولات قتل حيفا أو إلغائها، لتتواصل النشاطات الثقافية بين شطري الـمدينة الواحدة، الطاقة السلبية تخاف من الثقافة فهي أهم وأنصع وأنظف الـمرايا وفيها تنعكس روح وإرادة الرغبة اللاهبة في التوحّد والرجوع إلى البدايات. معظم سكان رام الله ممنوعون من زيارة الجانب الآخر من أرواحهم (حيفا)، لكن حيفا الأخت الجميلة تستطيع أن تزور القسم الآخر من روحها، تعالي يا حيفا، أيتها الشقية الحزينة اللامعة والعنيدة، تعالي إلى نصف روحك الآخر، إلى رام الله، اسكنيها، هزّي شجرة جنونها، نامي إلى جوارها، هدّئي من مخاوفها، تعلّـمي منها أصول استدراج الـمتاهات وتدجين الغرابة، واللعب الخطر مع الحب. دعيها تتعلـم منك فن استضافة البحار في البيوت. والجلوس مع الحيتان الذاهلة وجهاً لوجه على أرائك الشرفات الـمخملية، وانتزاع اعترافاتها ودموعها.

 


Zkhadash1@gmail.com

زياد خداش
الأربعاء 11/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع