في الطرف الآخر من الهاتف.. جاءني صوته معتذرًا:
المعذرة.. لم أتمكن من تلبية الدعوة للمشاركة في حفل التكريم الذي عقد في حيفا. تمنيت لو كنت معكم.. سأزورك في الأسبوع القادم للتهنئة بمناسبة عرس التكريم.. تحياتي إلى الأصحاب والأحباب.. في عروس الكرمل!
قالها ثم غاب واختفى!
وكان هذا مسك الختام!
لا فرح في هذه المدينة!
لا فرح في هذه المدينة!
**
قبل أن يرحل بأيام تعدّ على أصابع اليدين.. فكرت أن نقيم له حفل تكريم في الناصرة.
رفعت الهاتف لصديق الطفولة الكاتب والمحامي وليد الفاهوم، أبي خالد.. واقترحت عليه أن نباشر في الإعداد لإقامة حفل تكريم للرجل الإنسان.. في حياته.. فأبو صائب قامة وطنية شريفة.. أحب أرضه وأحب شعبه وعشق انتماءه لقوميته وإنسانيته..
وأبو صائب شخصية مثقفة.. نذر نفسه لخدمة قضايا شعبنا الساخنة.. ونذر نفسه للدفاع عن الوجه العربي الناصع لقلعة العروبة.. وعاصمة الشعب الذي بقي في وطنه.. متمسكًا بترابه ومقدساته.. منتفضًا نافضًا عن ثيابه رماد النكبة..
وبدأنا في التحضير لحفل التكريم.. إلى أن:
طوى الجزيرةَ حتى جاءني نبأٌ فزِعت فيه بآمالي إلى الكذبِ..
**
لقد قطعت على نفسي عهدًا.. وتواعدنا على إقامة حفل تكريم..
اليوم يلتقي الأحبة.. وكأني بهذا اللقاء يعقد تكريمًا لا تأبينًا!
وكأني به يجلس بيننا.. ويصغي مبتسمًا لكلمات التكريم التي يغمره بها الأحبّة!
إنه بيننا.. في كل واحد فينا.. بقامته الشامخة.. بروحه الشبابية.. بابتسامته المتفائلة.. بدماثة خلقه.. بإيمانه العميق أن دوام الحال من المحال.. وأن الفجر طالع حتمًا..
**
في أمسية عائلية.. جمعت عائلتينا.. كان أبو صائب ذو الرأي الصائب.. شابًا في العشرين.. يتألق شبابًا ومرحًا وصفاء ذهنيُّا.. وكان حديثه ينساب ناعمًا ويضوع شذًا وعذوبة.. وكانت الأمسية.. وليمة ثقافية بامتياز.. شارك فيها جميع أفراد العائلة النبيلة..
وكان لهذه الأمسية ما بعدها..
**
عندما قرر أن يترك رسالة الغياب.. خرجت الناصرة برجالها وشبابها ونسائها وصباياها وجميع أطيافها تحمله على كتفيها.. تزف الرجل الإنسان.. وتغمد السيف اليعربي في خاصرة الوطن..
**
لقد شرعتُ مؤخرًا بخربشات أولية لسيرة ذاتية.. آثرت أن أعطيها عنوان "بين مدينتين".. وكلما هربت مني ومن شبابيك الذاكرة معلومة عن الأيام الناصرية (ناصرةً وناصرًا)..أطارد الغزالة الهاربة.. وأحاول اقتناصها.. فيطوش سهمي.. فتفلت مني الغزالة.. وسرعان ما أجد ضالتي المنشودة.. مختبئة عند ذلك الرجل!
فهل رأيتم موسوعة للذاكرة.. تمشي على قدمين؟!
**
في الأرشيف الأدبي الخاص.. يعثر شريف على ملف خاص يحوي أضمومة من المقالات.. ويكشف لي السر: إن أبا صائب كان يحتفظ بجميع ما كتبتُه.. فكيف لا أشعر بالرضى؟!
ففي أمسيات الجمعة.. اعتدت أن يأتيني صوته عبر الهاتف: أسعدت مساء "يا دجلة الخير"!
ويستحضر أبا الفرات.. محمد مهدي الجواهري.. مترنمًا طربًا ومنشدًا:
يا دجلةَ الخير يا نبْعًا أفارقُهُ على الكراهةِ، بين الحين والحينِ
إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً نبْعًا فنبْعًا، فما كانت لترويني
ثم ينتقل إلى عبارة طالما ترددت على لسانه "لقد قرأت المقال مرتين.. وقرأته كل العائلة".
وتكون ملاحظات ثقافية راقية ومهذبة.. تدل على ذائقة أدبية رفيعة..
أشعر بالرضى.. وأنام ملء جفوني!
ويواصل "دجلة الخير" انسيابه عطاء ومحبّة!
**
تكون الناصرة غافية وتغطّ في سبات عميق.. يستيقظ الشاب خالد.. أبو صائب.. فيرتدي ملابس الرياضة ويمشي مشواره اليومي هو والفجر.. صديقه الحميم.. يُمضي ساعة أو بعض ساعة.. ويقفل عائدًا إلى بيته.. فيشرب قهوة الصباح.. ويقرأ الصحيفة اليومية.. التي تعرّف عليها طفلة.. فمات فيها عشقًا.. لعبا سوية في ملاعب الصبا.. وأدمن اللقاء بها منذ أكثرَ من ستين عامًا.. وما زال عاشقًا!
**
وقبل أن تطل غزالة الضحى.. بطلعتها البهيّة..
يمر الرجل بأعمدة الكهرباء التي تضيء شوارع الصباح. ما حاجتنا إلى الإضاءة والصباح صباح.. أليس هذا تبذيرًا نحن في غنى عنه؟ أليس المبذّرون إخوان الشياطين؟
ويتصل بالمجلس المحلي مثنى وثلاث ورباع لافتًا ومنبهًا إلى هذا الترف الذي يدفع ثمنه المواطن البسيط. وأمام تحدي الرجل وإصراره.. يتراجع العداد ساعة.. ويبكر انطفاء الأضواء.. ساعة قبل الموعد المعتاد.. وتوفّر الملايين كل شهر.. لتجد طريقها إلى صروح العلم والمعرفة.. وبناء الإنسان..
ألا يؤشر هذا السلوك على الأبجدية الأولى في الاقتصاد؟ أليس فيه ما يشي بالمسؤولية الأخلاقية النبيلة التي يتحلى بها هذا الرجل النبيل؟
**
نومة الفجر تورث الفقر، أيقونة حفرها على جدران القلب.. في طريق عودته.. يهزّ الصباح من كتفيه ليوقظه.. فيتثاءب الصباح ويفرك جفنيه.. ويفتح عينيه.. أسعد الله صباحك.. أيها الصباح!
**
القرية ينبوعه الأول الذي نهل منه.. والقرية حبه الأول.. وحبيبته الأولى.. فقد اعتز بانتمائه القروي الفلاحي.. والجذور الأولى تضرب عميقًا عميقًا في رحم الأرض..
ورغم حبه للمدينة وناسها.. فلم يتخلّ يومًا عن الاتصال بالأحبّة في القرية الطيبة.. التي كانت شاهدًا على ميلاده وعلى طفولته وعلى صباه..
وعلى جدران القلب نقش عبارته الأثيرة:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه ابدًا لأول منزل
لقد أحب الأرض وأحب حياة القرية، وأحب ترابها.. وأحب ناسها الفلاحين البسطاء.. وأحب خبز الطابون والتين والزيتون والرمان والزعتر والزوفا والميرمية والحبق والزنبق والنرجس والورد الجوري والياسمين وحوض النعناع.. وجميع الحدائق في أرض الوطن..
هنا ينابيع الطفولة الأولى!
**
ثلثا الرجل لخاله! هكذا قالت العرب في موروثها الشعبي.. وكان أبو صائب مُخْولا!
فمن كان الخال؟
إسألوا تراب الوطن عن خاله نايف دياب.. أحد الرجال الرجال في الثلاثينات من القرن الماضي..
واسألوا أبناء جيله: من كان الصبي الرجل ابنُ السنوات السبع.. الذي كان "يهرّب" الماء والغذاء إلى رجال المقاومة المرابطين في الأغوار والأدغال والجبال!
واسألوا عن دوره، صبيًّا، مع الرجال الذين انخرطوا في صفوف المقاومة ليدافعوا عن طهارة وطنهم..أمام سنابك المغول الذين احترفوا فن السطو أرضًا وتاريخًا!
**
في أحلك الظروف.. ومن بين خرائب النكبة.. أبى الحكم العسكري إلا أن يطل علينا بوجهه القبيح.. فلا أهلا ولا سهلا ولا مرحبًا.. وكان النضال مهمة خارقة تلامس حدود المستحيل..
إسألوا أرشيف الذاكرة: من قلب البراميل وطيّر المناشير في وجه تنابل السلطان؟
إسألوا: من انتزع دونمين من أرض الوطن.. من بين مخالب الوحوش الضارية؟
إسألوا: من ذلك المعلم الأول الذي أقام التنظيم الأول لشبيبة القرية؟
إسألوا.. واسألوا.. فالفضاء يغصّ بأسئلة لا تنتهي..
في هذه البيئة الوطنية نشأ فيها هذا الرجل.. وعلى هَـدْي مبادئها علم أبناءه.. وسلمهم راية النضال والإباء والكرامة القومية.
**
أبو صائب.. كان يحترم المؤمنين الصادقين الصادقين في إيمانهم..قولا وفعلا..فكرًا وممارسة..
وأنشد مع نوح إبراهيم: الدين لله والوطن للجميع!
إنسانًا إنسانًا كان..كره التزمت والتطرف والعصبية القبلية الحديثة..مهما كان لونها ومهما كان انتماؤها..
رافق الفاروقَ عمرَ بنَ الخطاب في حله وترحاله..وكانا صديقين صدوقين..يأكلان من صحن واحد..وبينهما عيش وملح..
عشق اللغة العربية الجميلة..وعيونها الكحيلة..وطرب على موسيقى السمفونية الكلاسيكية التي تنساب في عروقها..فصادق المتنبي..وأبا فراس الحمداني..والجواهري..وأبا سلمى..وإبراهيم طوقان..وكان يجلس معهم كل ليلة..ويحلو السهر والسمر حتى ساعات الفجر الأولى..
عشق القمم الشاهقة..فأحب تلك النخلة السمراء التي أطلعتها أرض الكنانة..لقد أحب جمال عبد الناصر..وآمن بالحلم القومي الذي حمله هذا العملاق الأسمر..
**
في كل سنة..وفي مسيرة الأعياد لدى الطوائف العربية المسيحية..يتآخى الأصدقاء صليبًا وهلالا..ويتعانق الإخوة كنيسةً ومسجدًا..ويجلس الرسول العربي (ص) مع أخيه عيسى ابن مريم عليهما السلام..حول مائدة واحدة..وتتعانق الرموز الدينية المختلفة لجميع أبناء الطوائف من أبناء شعبنا الواحد.
فمن هذا الرجل الذي يسير في مقدمة الموكب الاحتفالي..مع رجال الدين الأفاضل..يدًا بيد وقلبًا بقلب..مع أهله وإخوته وأحبته من أبناء الطوائف العربية في المدينة؟
- صوروا أيها الصحافيون! هذا نحن..إخوة وأبناء شعب واحد..ونحن هنا..ولا مكان لنا غير هنا!
كان يقولها لمصوري الصحافة العبرية..
ويا جبل ما يهزك ريح!
هكذا يكون الرجال الرجال!
وهكذا تكون الخيول العربية الأصيلة!
وإلا..فلا!
**
من كانت عائلة هذا الرجل؟
آلاف الخريجين..كانوا عائلته الحقيقية..بهم يعتزّ وإليهم ينتمي ومنهم يستمد فخره وكبرياءه..وهم خير النسب..ونعم النسب..هكذا كان يقول..
وأما عائلته الكبرى..فشعبه الذي أحبّه وأحلّه هذا المحلّ النبيل من القلب..
هؤلاء هم ثروتُه الحقيقية!
أية ثروة قومية حضارية هذه الثروة الخيالية!
**
وفتحت أرشيف الذاكرة..فوجدت كنزًا..لقد عثرت على رسالة حميمة بعث بها د. بطرس دلة إلى الحبيب أبي صائب...يذكّره فيها بكلمات من ذهب نقشها على الراية التي حملها سائرًا في طليعة المسيرة التعليمية الصاعدة نحو الآفاق المشتهاة:
"أتذكر تلك الحكمة التي سمعتُها منك لأول مرة؟
إذا أردت موسمًا واحدًا من حقلك الذي تزرعه..فازرع قمحًا أو شعيرًا!
وإذا أردت مواسمَ لعدة سنوات..فازرع شجرًا مثمرًا!
أما إذا أردت مواسمَ لا عدد لها..فازرع رجالا!".
وكانت ثروة أبي صائب عامرة بآلاف الرجال!
**
وداعًا أيها الأحبّة..قالها ثم غاب واختفى..وعثرت على الرسالة..أعتذرُ عما فعلت..
ويقول لي بلهجة طافحة بالأمل: الأيام حبلى بالمفاجآت..والأرض حبلى بالزلازل..إن غدًا لناظره قريب..ولا بد من طلوع الفجر الطالع حتمًا!
ويلتحم صوته بصوت الجواهري:
شعب دعائمه الجماجم والدمُ تتحطم الدنيا ولا يتحطّمُ
**
أيها الحبيب، لقد تعجلت قليلا، فقد حملت حقيبة السفر..ودون إذن، يمّمت شطر عالم الغيب..وغبت عن النظر..
أمس ليلا..رأيت فيما يرى النائم..أنني أجوب حواري المدينة..وشوارعها الحزينة..وأطرق الأبواب..
تفتح القلوب..وتفتح الأبواب..وتزغرد الشرفات..ويُطل الحبيب من كل قلب..ومن كل باب..وجهًا وضاحًا وثغرًا باسمًا..وقامة شاهقة..
يشدّ على يديّ..ويقول لي: يا هلا..صباح الخير يا أخا العرب.
**
فحيثما خطوتُ..أراه أمامي! وحيثما التفتُّ..أراه أمامي!
إن أبا صائب عصيّ على الغياب!
لا حزن في هذه المدينة!
لا حزن في هذه المدينة!
**
فإلى جِنان الخلد يا حبيبنا خالد..
نعاهدك ونعاهد أنفسنا بأن نلتقي دائمًا..وندردش دائمًا..ونحكي حكايات الحنين عن أيام زمان..وعن الحاضر الرمادي العبثي..وعن درب الآلام التي نسيرها لتحقيق الحلم الذي نصبو لتحقيقه..
فأنت حاضر في الوجدان..ولسوف تبقى حاضرًا في ذاكرة الأجيال..التي تغذّ الخطى لاجتراح المستقبل المشتهى!
نم يا حبيبنا قرير العين..نم آمنًا مطمئنًا..فشعبنا بخير..وسيظل واقفًا مرفوع الرأس حتى ينتصر الحق..وسيظل يكافح حتى يبزغ فجر الحرية!
وإلى الأخت الفاضلة أم صائب والأخت النبيلة عُريب والإخوة الأعزاء صائب وشريف ووائل وإلى جميع الأهل والأقارب والأحبة والأصدقاء في جميع أنحاء هذا الوطن وفي الشتات..أُلهمتم الصبرَ والسلوانَ..وحسنَ العزاء..
سلام الله عليك يا حبيبنا أبا صائب..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* (نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ فتحي فوراني في حفل التأبين الذي تولى عرافته والذي أقيم في فندق بلازا في نتسيرت عيليت لذكرى الراحل المربي خالد على الزعبي بتاريخ 31-5-2008. وتكلم في الحفل الإخوة: رامز جرايسي رئيس بلدية الناصرة والأستاذ فيصل طه مدير مدرسة "الجليل" الثانوية البلدية والقس زاهي ناصر والشيخ صلاح العفيفي والشيخ سليم منصور (ابو يوسف) والأستاذ سعيد أبو ليل والمحامي وليد الفاهوم ونجلة المرحوم الأخت عُريب خالد الزعبي).
فتحي فوراني
السبت 7/6/2008