*"انهم يستطيعون قتل كل الورود ولكنهم لن يستطيعوا منع الربيع من القدوم" المناضل الشيوعي الإيطالي، أنطونيو غرامشي
تمر الحركة الثورية العالمية اليوم، بأزمة عميقة لم تشهد لها مثيلا من قبل، وهي أزمة تعصف بجميع مكوناتها من قوى تنتمي الى حركة الطبقة العاملة أو قوى ديمقراطية ثورية معادية للامبريالية، فهذه الازمة هي أكثر عمقا وشمولا من تلك التي عانت منها الحركة العمالية العالمية في أواخرالقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والتي أفضت الى أنهيار الاممية الثانية وانشطار الحركة العمالية الى تيارين عالميين، فاذا كانت ازمة مطلع القرن العشرين قد ترافقت، وربما كانت حصيلة، تغيرات عاصفة في بنية الرأسمالية العالمية والتي تمثلت بدخولها مرحلة الامبريالية، اما الازمة الراهنة تنبثق من التحولات الناجمة عن تلازم عامليين اساسيين هما: التغير العميق في بنية الرأسمالية المعاصرة والذي يشكل منعطفا جديدا في مسار تطورها التاريخي من جهة، والانهيار الكارثي الذي آلت اليه العديد من النظم التي قدمت نفسها بصفتها "الاشتراكية القائمة فعلا" وأذا اضفنا الى ذلك الازمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث، منذ الستينيات، بفعل التدهور اليميني لبرجوازيتها القائدة وتعاظم سماتها الكومبرادورية واندماجها المتجدد من موقع التبعية في النظام الرأسمالي العالمي، يتبين لنا لماذا تولد الازمة هذه الدرجة من البلبلة والارتباك الفكري، وفقدان البوصلة السياسية، والتفسخ والتشرذم التنظيمي، والشلل النضالي الذي اصيبت به العديد من القوى الثورية، الامر الذي ادى الى تلاشي يعضها أو تفتتها او انتقالها من موقع طبقي الى آخر.
لاشك ان العامل الحاسم، الذي ادى الى تفاقم الازمة كان انهيار "المنظومة الاشتراكية" وتفكك الاتحاد السوفيتي وانتصار الردة الراسمالية في معظم بلدان اوربا الشرقية وبخاصة روسيا. ذلك ان هذا الزلزال الذي غير وجه العالم، ادى الى تحول نوعي في ميزان القوى الدولي ناجم عن نهاية الحرب الباردة بانتصار التحالف الامبريالي وانهيار التوازن الدولي الذي عمر اكثر من نصف قرن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. هذا الخلل في توازن القوى عزز القدرات العدوانية للامبريالية العالمية وبخاصة الامريكية متمثلة بالادراة التي يسيرها المحافظون الجدد ومنهم جورج بوش ورهطه، واطلاق العنان لمحاولاتها الهادفة الى فرض "نظام دولي جديد" واضعف على نحو ملموس مواقع الحركة الثورية العالمية ومنها حركة التحرر العربية، وشكل تهديدا خطيرا للمنجزات التي احرزها عمال العالم وشعوبه على مدى القرن الماضي، ولكن فضلا عن ذلك، فان انهيار الاتحاد السوفييتي، بعد سبعين عاما من البناء الاشتراكي طرح موضع التساؤل المقدمات النظرية التي ارتكز اليها المشروع الاشتراكي المعاصر، والقى ظلالا من الشك حول جدواه وواقعيته وآفاقه، وساهم بالتالي في تعميق البلبلة الفكرية والتدهور المعنوي في صفوف اليسار، مع اشتداد زخم الهجوم الايديولوجي المكثف الذي شنته وتشنه ماكنة الدعاية الامبريالية والرجعية، مستغلة الانهيار فيما كان يسمى "المنظومة الاشتراكية" لتعزيز هيمنتها المادية على الطبقة العاملة والشعوب المقهورة وتدعيمها بهيمنة فكرية. وتركزت محاور هذا الهجوم على الادعاء بأن الانهيار قد اثبت "تفوق الرأسمالية على الاشتراكية". فالواقع انه حقق نجاحات ملموسة في النيل من رصيد الاشتراكية والاساءة الى صورتها في اعين الجماهير. وهذا جرى بفضل المرتد ميخائيل غورباتشوف وغيره.
في مجابهة هذا الهجوم الايديولوجي لا يجدي الاكتفاء بفضح الرياء الليبرالي كما يتجسد في النفاق وازدواجية المعايير في التعامل مع مبادئ الحرية والدمقراطية وحقوق الانسان والشرعية الدولية، بل حتى مبادئ الاقتصاد الحر نفسها، حين تتعارض مع هذه المصالح ومن الضروري فضح هذا النفاق، وهو يلقى استجابة خصوصا لدى الجماهير المسحوقة في بلدان عالمنا الثالث التي تتلمس يوم بعد يوم بتجربتها الخاصة اهوال التوسع الرأسمالي، فان هذا لا يكفي لاستعادة مصداقية الاشتراكية وجاذبيتها كخيار بديل، ينبغي إذًا تكوين رؤية ماركسية متماسكة تعطي اجابات ملموسة على القضايا الكبرى التي تطرح نفسها على جدول اعمال عالمنا اليوم وتثير رياح التغير الجامحة التي تعصف بكل ركن من اركانه.
إنّ انتصار الحلف الامبريالي الرجعي في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ليس نهاية التاريخ، ولكنه قفزة كبيرة الى الوراء في مسار التاريخ. إنّ امكانية حدوث "القفزات الكبيرة الى الوراء" تقع في صلب الديالكتيك الماركسي ومفهومه للتاريخ، ومن الخطأ الفاحش والمنافي للجدلية وللعلم ان ننظر الى مسار التاريخ كما لو كان مسارا منسقا وسائرا دوما الى الامام من دون قفزات كبيرة الى الخلف احيانا. وهنا لا بد من الاشارة الى ما كتبه ماركس وانجلز حيث اختتما البيان الشيوعي بالفكرة القائلة إنّ "الشيوعية سوف تنتصر حتما"، لقد اختتما البيان بالخلاصة التالية: "ان الرأسمالية وضعت البشرية على مفترق طرق، فاما الشيوعية، واما الارتداد الى الهمجية". وكم تبدو هذه الخلاصة صائبة اليوم في ضوء مخاطر الدمار التي تحيق بالبشرية بسبب جنون الهيمنة والتوسع الرأسمالي كما نشاهده في الهجمة الامبريالية الشرسة على الشعوب.
ولكن كما كان الحال في معظم القفزات الكبيرة الى الوراء التي عرفها التاريخ، نلمس اليوم ان (انتصار الحلف الامبريالي) براياته الليبرالية والدمقراطية في الحرب الباردة لم يؤدي بنا الى عالم اكثر امنا واستقرارا ورخاء، بل لقد قاد بالعكس الى انتشار الفوضى والاضطراب في كل مكان: الى انفلات غرائز الهيمنة والنهب الامبريالي من عقالها واطلاق اشرس حرب عدوانية مدمرة منذ الحرب الظالمة على فيتنام و (حرب الخليج) ومن ثم احتلال افغانستان والعراق والذي ادى الى سلسلة من المجاعات التي تلتهم شعوبا بكاملها على نحو لم يشهد له العالم مثيلا منذ اكثر من قرن. ان عالمنا يشهد اليوم اكثر من اي وقت مضى في ظل عالم احادي القطبية ومع سيطرة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الامريكية وخاصة في ظل ادارة بوش الابن، ان ما تقوم هذه الادارة، بفعل من قتل واغتصاب وسرقة للثروات ولتاريخ الشعوب لطمس الحضارة، يندى لها جبين الانسانية ويخجل منها هتلر وموسوليني لو كانا حيّين، فبدءًا من سجن ابي غريب مرورا بسجني بوكا في البصرة وسجن المطار في بغداد الى سجن غوانتنامو وجرائمهم تشاهد يوميا من على شاشات الفضائيات والافلام الموثقة حيث قاموا بقتل الكثير من الصحافيين والاعلامين ووضع البعض منهم في السجن.
يمكن التأكيد ان الماركسية هي نظرية حية، وليست منظومة من الوصفات الجاهزة، المكتملة، النهائية. ولكننا ضد هذا التأكيد، اذا اقترن بانكار المضمون الطبقي للماركسية، فانه ينقلب الى ضده ويحولها الى فلسفة مثالية مبتذلة وجثة هامدة جديرة فقط بمثقفي الفئات الوسطى.
فالماركسية هي ليست مطلق "نظرية للتغير الثوري"، بل انها نظرية الطبقة العاملة للتغير الثوري، واية محاولة لتحويلها الى شيء آخر هي نفي لها.
ان علمية وحيوية الماركسية ليست نتاج عبقرية ذهنية مجردة. انها انعكاس للموقع الذي تحتله الطبقة العاملة في التاريخ، ان علميتها وطبقيتها لا ينفصلان. فالطبقة العاملة هي، من بين طبقات المجتمع الرأسمالية، وحدها التي لا ترتبط مصالحها باستمرار علاقات الملكية الخاصة التي تشكل الاساس التحتي للنظام، ان تحررها بالعكس، يتطلب الغاء هذه العلاقات، ولأن الرأسمالية هي ذروة انظمة الاستغلال الطبقي، فان موقع الطبقة العاملة هذا هو الذي ينتج رؤية علمية ولواقع المجتمع الطبقي على حقيقته، بعيدا عن اية اوهام ايديولوجية. ولا رؤية علمية لحقيقة المجتمع الطبقي من خارج موقع الطبقة العاملة، والماركسية كونها علمية فهي تدرك حدودها التاريخية، تدرك كونها ليست جاهزة ونهائية، بل هي تكتمل بالممارسة، ولكن أيّة ممارسة الطبقة العاملة الثورية في نضالها من اجل الغاء المجتمع الطبقي القائم على الاستغلال، انها صائرة الى الاكتمال فقط بارتباطها بالطبقة وعبر اغتنائها بدروس نضال الطبقة العاملة وواقعها ورؤيتها للعالم واتجاهات تغيره، ولأن العالم يتغير، والطبقة تتغير بتغيره وبفعل نضالها من اجل تغيره، لذلك- وفقط من خلال ذلك فان رؤيتها، نظريتها، تتجدد، وتكتمل وبدون ذلك فإنّ الحديث عن عدم اكتمال الماركسية يصبح غطاء ايديولوجيا لدعوة التنقيحية الى مراجعتها واعادة النظر فيها، اي لتحويلها الى ايدلوجية تعبر، تعبيرا مموها، عن رؤية ومصالح طبقة أخرى.
اكتشفت الماركسية، نظرية الطبقة العاملة، بدقة متناهية، قوانين التطور الرأسمالية وبرهنت ان هذه القوانين تقود الى تفاقم التناقض بين النمو الهائل والمضطرد لقوى الانتاج، التي تتخذ طابعا اجتماعيا متزايدا باضطراد، وبين علاقات الانتاج القائمة على الملكية الخاصة، واوضحت كيف ان هذا التناقض يعبر عن نفسه بتناقض بين العمل المأجور ورأس المال، وبصراع اجتماعي بين البرجوازية والطبقة العاملة، وبرهنت ان هذا التناقض يطرح الاشتراكية على جدول اعمال التاريخ بصفتها ضرورة موضوعية للتطور الاجتماعي، ولكنها اكدت خلافا لنزعات التبسيط الحتموية الشائعة، ان هذه الضرورة تترجم نفسها في المسار الواقعي لحركة التاريخ فقط اذا اقترنت بوعي الطبقة العاملة لها.
فالطبقة العاملة بوعيها لهذه الضرورة، تطيح بالرأسمالية وتتولى سلطة الدولة وتبدأ مسيرة الانتقال الى الاشتراكية، وابرز لينين، باكتشافه لقانون التطور المتفاوت الذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية، ان علاقات الانتاج الرأسمالية اصبحت قيدا يكبح تطور قوى الانتاج ليس فقط في مراكزها المتطورة بل ايضا في اطرافها الاقل تطورًا حيث تتجلى الاشارة المدمرة لتناقضات الرأسمالية بصورة اكثر حدة. واستنتج ان قيادة الطبقة العاملة للثورة الدمقراطية المتأخرة في هذه الاطراف، على اساس تحالف وطيد مع الفلاحين.
ان وعي الطبقة العاملة لهذه الضرورة يجعلها بحاجة الى حزب من طراز جديد، حزب طليعي، ومن هذا المنطلق صاغت الماركسية لنفسها، قبل لينين وبعده، وظيفتها كدليل عمل للطبقة العامل، وظيفة اعداد الطبقة فكريا وتنظيميا وتعبئة قواها للنهوض برسالتها التاريخية، بالدور الذي تلقيه على عاتقها الضرورة الموضوعية لدفع مسيرة التاريخ، وبلورة الاستخلاصات الاستراتيجية والتكتيكية التي تنير السبل امامها للنهوض بهذه الدور انطلاقا من تحليل الشروط التاريخية الملموسة لحركتها النضالية في كل بلد، وفق ما ينسجم مع طبيعة هذا البلد.
ان التناقض الاساسي في نمط الانتاج الرأسمالي (التناقض بين الطابع الاجتماعي المتزايد للقوى المنتجة، وبين علاقات الملكية الخاصة لوسائل الانتاج) يترجم نفسه تناقضا بين العمل المأجور ورأس المال، ويتجلى صراعًا اجتماعيًا بين الطبقتين الرئسيتين في المجتمع الرأسمالي: البرجوازية والطبقة العاملة.
وبتحول الرأسمالية- في مرحلتها الامبريالية المتطورة- الى نمط انتاج سائد عالميا، يتخذ هذا التناقض والصراع بعدا عالميا ايضا، ان هذا التناقض هو الرئيسي (ليس الوحيد بل الرئيسي) في العالم الرأسمالي المعاصر، انه المحور الذي يتكثف فيه الصراع الاجتماعي، والذي تتمحور حوله سائر التناقضات والصراعات الاخرى، وبسبب من ذلك فهو لا يتخذ دائما شكلا طبقيا صافيا، بل هو يتجلى، يتمظهر احيانا على شكل صراعات طائفية ومذهبية وقومية الخ، الى جانب اشكاله الاجتماعية الصريحة التي تتزايد وضوحا وبروزا كلما كان المجتمع الرأسمالي اكثر تطورا.
إنّ تجاوز مرحلة "الوعي الايديولوجي" في تطور الفكر البشري يصبح ممكنا تتوفر شروطه عندما يؤدي نمو قوى الانتاج، وارتقاء المجتمع الطبقي، الى ولادة طبقة تستطيع ان تحرر نفسها من الاستغلال، اي تستطيع ان تتحول الى طبقة سائدة، ولكنها لا تستطيع ان تفعل ذلك الا بإلغاء نظام الاستغلال كله: طبقة ترتبط مصالحها جذريا بزوال المجتمع الطبقي، بانتهاء انقسام المجتمع الى طبقات. ولقد ولدت هذه الطبقة بالفعل عندما ارتقت الرأسمالية بتطور قوى الانتاج الى مستوى اصبح معه الغاء نظام الاستغلال ممكنا من جهة، واصبح ضروريا لنقدم البشرية من جهة اخرى. وبذلك ظهرت الى االوجود تلك الطبقة التي ترتبط مصالحها ارتباطا وثيقا بضرورة احداث هذه النقلة الكبرى في تاريخ البشرية، بضرورة الغاء نظام الاستغلال، والغاء المجتمع الطبقي، وانهاء انقسام المجتمع الى طبقات، الطبقة التي تملك مقومات التحول الى طبقة سائدة، ولكنها عبر هذا الفعل نفسه توفر الشروط لالغاء نفسها كطبقة والغاء المجتمع الطبقي كله.
من بين موضوعات ماركس النقدية لمادية فيورباخ الفلسفية، لعل ابرزها وأكثرها جوهرية في فهم منهج ماركس تلك المقولة القائلة: لقد كان هم الفلاسفة حتى الآن هو تفسير العالم، ولكن المسألة هي تغيره، لا يمكن ادراك منطق الماركسية ومنهجها الا من مدخل هذه الموضوعة، ومن خلال ابقائها دوما حية في الذهن، ذلك ان العلم، في منهج ماركس، لا يمكن عن الممارسة الهادفة الى "تغير العالم". ان هذه النظرة الثورية تحكم وتنظم مجمل تحليل ماركس لنمط الانتاج والمجتمع الرأسمالي.
لم يكن ماركس يهمل قدرة الرأسمالية على استنباط الوسائل للسيطرة على تناقضاتها وايجاد المخارج من ازماتها، وحلل بدقة العديد من هذه الوسائل والمخارج سواء تلك القائمة في عصره او تلك التي تنبأ بامكانيتها في المستقبل، ومن بينها التوسع الرأسمالي في المستعمرات وتشكيل السوق العالمية. كما هو اليوم في عصر ما يسمى بالعولمة تلعب الطبقة العاملة دورا مهما واساسيا في النضال ضد الاستغلال والعولمة المتوحشة وقبل الولوج عند دورها لا بد من الاشارة وبلمحة مختصرة عن تاريخ الطبقة العاملة العربية في منطقتنا العربية الشرق الاوسط.
إنّ ممثلي الفكر البرجوازي التقدمي والثوري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم يقفوا من الحركة العمالية موقفا عدائيا، وعبروا بموقفهم عن رأي البرجوازية العربية التقدمية، والتي كانت تنظر في النظام الاقطاعي العثماني عدوها الاول.
كتب المفكر الثائر ذو التطلعات البرجوازية عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد) حيث قسم المجتمع الى طبقات على اساس ملكية وسائل الانتاج، وقال إنّ رجال البشر اقتسموا مشاق الحياة قيمة ظالمة أيضا، وأن رجال السياسة والاديان وممن يلتحق بهم وعددهم لا يتجاوز الواحد في المائة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة ينفقونه في الرفاه والاسراف ولا يفكرون في ملايين الفقراء. ثم اهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة ويقدرون كذلك بواحد في المائة يعيش احدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الآلاف من الصناع والزراع.
وبعده كان فرح انطوان من اوائل المفكرين العرب المحدثين، الذين ادركوا الوضع الطبقي للمجتمع، إذ رأى أن المجتمع ينقسم الى قسمين: الاسياد والعبيد، الكبار والصغار، الاغنياء والفقراء، الاقوياء و الضعفاء. وبينما يملك الاغنياء كل شيء، لا يجد الضعفاء قطعة خبز يأ كلونها عندما يحل المساء.
وشرح فرح انطون فهمه للقيمة الزائدة في روايته "الدين والعلم والمال"، ودعا الى التأميم والى الملكية الجماعية لوسائل الانتاج، فكتب: ان معامل الامة ومصانعها ومتاجرها واراضيها هي نبت مرافقها ومنافعها كالانهر والابحر والهواء، ولذلك لا يجوز أن تكون ملكا لفرد أيا كان بل هي ملك لجميع الامة، فعلى الامة إذًا ان تتولى ادارتها بما فيها وتوزع ارباحها بين ابنائها، أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع".
في تاريخنا العربي، فإنّ كتابات مفكري التيار الدمقراطي الثوري والدور الذي قام به الجناح اليساري داخل الحركة الوطنية، اخذت تتردد أصداؤها على صفحات الجرائد التقدمية العربية، ولن يطول الوقت كثيرا لانتصار هذا التيار الهادف الى كتابة التاريخ باسلوب جديد وعقلية جديدة عقلية الجماهير المستغلة الطامحة الى بناء غدها المشرق ومن أجل إنهاء الاستغلال واقامة مجتمع الكفاية والعدل، وهذا انعكس على الحركة الوطنية العربية في سني نموها الاولى، وفي الوقت الذي لم تكن قد تكونت فيه الطبقة العاملة، اتضحت أن هذه الحركة عكست منذ أوائل القرن العشرين، في خضم نموها وتطورها وكفاحها، ومن خلال مفاهيمها المختلفة، كما أشارت الى جوهر المعركة المحتدمة ضد الهجوم الامبريالي بوجهه العسكري والثقافي والاقتصادي.
ان الدور التاريخي الهام الذي قام به التيار الدمقراطي الثوري هو انه استطاع ان يلقح الحركة الوطنية والقومية العربية بمفاهيم جديدة واضفى عليها طابعا دمقراطيا عاما، اخذت سماته تظهر بشكل واضح مع الزمن في حين كانت فيه عملية التمايز داخل الحركة الوطنية تأخذ ابعادها المنطقية بين مختلف التيارات البرجوازية الصغيرة والعمالية.
ان عالمنا يعيش اليوم ما يسمى بالعولمة، التي لا وطن لها وتركز على التراجع في الاقتصاد عن المبدأ الانتاجي نحو مبدأ المضاربة وإعادة التوزيع، ومبدأ المراباة، وفي السياسة عن منظومة التوازن الدولي التعددية، المرتكزة على مبدأ السيادة الوطنية، نحو الاملاءات الوقحة من قبل أصحاب "القطبية الأحادية". كتب الكسندر بانارين استاذ الفلسفة في جامعة موسكو: "مهمتنا اليوم هي أن نجرد النوايا الشريرة للهمجية العولمية الجديدة من "ادلة براءتها" الموضوعية والقطعية، والكشف عن هويتها الذاتية والنفعية هناك، حيث يدعونا إلى ان نرى القدرية وحدها. للنظام العولمي، كما لكل شيء في العالم، اشكال وسيناريوهات بديلة، وتفرض هيبتها الانسانية علينا أن ندافع قدر المستطاع عن اكثرها إنسانية واعدلها، وتفرض مواجهة حرص الهمجية الجديدة، الساعية إلى امتلاك زمام العالم تحت شعار: لا قدر آخر".
ان الحروب التي تشنها الولايات المتحدة الامريكية، زعيمة العالم الرأسمالي، كما هو الحال في افغانستان والعراق، تشنها تحت اكاذيب اعترف فيها من اطلقها من على منبر الامم المتحدة، كما صرح الجنرال المستقيل ووزير خارجيتها كولن باول، ففي العراق تقوم الولايات المتحدة بسرقة نفط العراق وكما هو معروف ان العراق يملك ثان اكبر مخزون نفط في المنطقة، وهم اليوم يقومون بدفع عملائهم في حكومة المالكي من اجل الاسراع بالتصديق على قانون النفط والذي يريط العراق بالسماح للشركات الاستعمارية بسرقة النفط وحرمان الشعب العراق لعقود مما حدى بالطبقة العاملة العراقية للاعلان عن النوايا الخبيثة لهذا القانون اضافة لموقفها من الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يعاني منه الشعب العراقي حيث تقوم الشركات الامريكية والصهيونية بضخ كميات كبيرة من المواد الغذائية منتهية الصلاحية وهي لا تصلح للاستخدام الآدمي.
ان الطبقة العاملة العراقية ونقاباتها العمالية تقف اليوم ومع ضعف الحزب الماركسي- اللينيني ووجود انقسامات في صفوف الحركة الشيوعية العراقية بالنسبة للموقف من الاحتلال، حيث اتخذ الحزب الشيوعي العراقي الرسمي بقيادة حميد مجيد موسى موقفًا مع الاحتلال، ودخل الى مجلس الحكم الذي شكله الحاكم بول برمير وهم الان جزء من حكم الاحتلال، في الوقت نفسه هناك قوى شيوعية وقفت الى جانب المقاومة الوطنية للاحتلال وهذا ما اعتاد عليه الشيوعيون في مقاومة القوى الغازية والمحتلة لبلدانهم كما يذكر لنا التاريخ، وتشهد على ذلك المقاومة السوفييتية للاحتلال النازي الهتلري وكذلك المقاومة الاسبانية والايطالية والفرنسية حيث كان الشيوعيون في مقدمة المقاومة، متخذين من المقولة المعروفة "اليسار يقاوم ولا يساوم" بوصلة، وهنا لا بد من الاشارة إلى ان الطبقة العاملة العراقية وقفت وتقف ضد الاحتلال الاجنبي لبلدانها داعية الطليعة لأن توحد جهودها من أجل توحيد كل الفصائل الشيوعية الحريصة على وحدة العراق ارضا وشعبا، وهي التي وقفت ضد قانون النفط والذي سبقت الاشارة اليه، ووقفت ضد قانون الاستثمار الأجنبي: كان بول بريمر الحاكم المدني لسلطة الاحتلال الأمريكي في العراق قد اصدر القانون (40) الخاص بالاستثمار الاجنبي في العراق الذي حرم الدولة العراقية من تحصيل أية عوائد من المستثمر الأجنبي.
*المقاومة الوطنية العراقية*
تعتبر المقاومة الوطنية العراقية الركن الاساسي الذي افشل المخططات الامريكية، وكبد قوات الاحتلال الخسائر الكبيرة في الارواح والمعدات والاموال، وسحب بساط الشرعية والتحرير الزائف من تحت أقدام الادارة الامريكية، وبدلا من زيادة المنتمين إلى معسكر الاحتلال تزايد المنسحبون من المشروع الأمريكي اعترافا منهم بوجود مقوّمات نجاح لدى المقاومة العراقية في طرد المحتل. وعلى الرغم من تعرض المقاومة العراقية إلى التشويه والاتهام منذ اندلاعها في أيام الاحتلال الأولى من قبل سلطة الاحتلال وأتباعها من الاحزاب المتحالفة معها والمتمثلة بأحزاب حكومات الاحتلال المتعاقبة، فإنها ازدادات قوة وفعالية وامتدت وطنيا بشكل مستمر، فالمقاومة الوطنية العراقية الباسلة تثبت من خلال ادبياتها وبياناتها المتلاحقة انها تناضل للقضاء على الاحتلال الامريكي الذي حطم الدولة العراقية التي نشأت منذ عام 1921، وتؤكد ذلك من خلال العمليات النوعية التي تستهدف مباشرة جنود الاحتلال وآلياته، وهكذا تمكنت المقاومة من ايقاف عجلة المشروع الاستراتيجي الامريكي والذي كان بالاساس يستهدف المنطقة من اجل اقامة ما اسماه الشرق الاوسط الكبير او الجديد، على الرغم من قيام الاحتلال باعتقال كل من يشتبه في انتمائه الى صفوف المقاومة وقصفه العشوائي للمدن والقصبات التي تمثل الحاضنة الوطنية لأبطال المقاومة الوطنية العراقية.
وهناك تأكيد من السياسيين مثل هنري كسينجر وهو مجرم حرب ووزير الخارجية الامريكية الاسبق، والذي اسدى النصائح لادارة بوش خلال الحرب على العراق، فقد صرح لتلفزيون بي بي سي في تشرين الثاني من العام 2006 انه لا يعتقد بأن الولايات المتحدة تستطيع تحقيق انتصار عسكري في العراق. وصرح كولن باول وزير الخارجية السابق أن جيش الولايات المتحدة "على وشك الهزيمة". وأعلن تقرير مشترك أعدته 16 وكالة استخبارتية أمريكية أن الولايات المتحدة لم تعد تملك خيار الفوز في الحرب على العراق.
إنّ النفقات التي تنفقها الولايات المتحدة على الحرب في تزايد مستمر، ففي نهاية عام 2007 بلغ مجموع ما أنفقت على حربيها الاجراميتين في العراق وافغانستان 622 مليار دولار تحت بند ما تسمى بـ"الحرب على الارهاب" وتنفق الولايات المتحدة وحدها اكثر من نصف الانفاق العسكري العالمي. لقد ارتفعت النفقات العسكرية الأمريكية على نحو مثير منذ عام 2001 فبعد ان كانت 280 مليار دولار سنويا في عام 2001، ارتفعت الى 574 مليار دولار سنويا في عام 2007، وهناك توقعات ان تصل مع نهاية عام 2008 الى 623 مليار دولار، وهنا يجب ان نتوقف عند هذا الرقم ونتساءل: "لو استخدم هذا الرقم من اجل البشرية في الغذاء والتعليم والصحة، لتم االقضاء على الجوع والمرض والجهل وعاشت البشرية في ظل السلام والتقدم، ولكن الرأسمالية هي التواقة الى اشعال الحروب وبقاء العالم متصارعًا لكي تزداد ثروتها وغناها وتبقى الطبقة العاملة تعاني من صندوق النقد الدولي والذي يفرض على الدول النامية رفع اسعار السلع ذات الدرجة الاولى وهي الضرورية في متابعة العيش ومنها الرز والقمح والسكر والشاي والزيوت، والان ترتفع الاسعار في منطقتنا بنسب عالية ويتم الابقاء على الدخل المحدود للسواد الاعظم من الطبقات المسحوقة وبقاء المرتبات كما هي او رفعها بنسبة قليلة، مما حدا بالطبقة العاملة ان ترفع صوت الاحتجاج ضد موجة الغلاء العارمة في العالم، والتي يعزوها بعض الاقتصاديين الى ارتفاع سعر البترول والطاقة، فالطبقة العاملة مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بزيادة النضال من اجل تحسين سبل العيش وكشف العولمة المتوحشة والرأسمالية التي لا تعرف للانسانية معنى وانما تفكر عمليا كيف تزيد من ارباحها على حساب الطبقة المسحوقة.
ان نضال الطبقة العاملة سوف يستمر ولن يتوقف حتى إقامة مجتمع الاشتراكية وانتهاء استغلال الانسان لأخيه الانسان متذكرين مقولة كارل ماركس ان "الطبقة العاملة بنضالها ضد الراسمالية لن تخسر سوى قيودها".
مصادر البحث:
1- الاقتصاد السياسي نيكتين
2- تاريخ الحركة العمالية في سوريا ولبنان- عبد الله حنا
3- الاغواء بالعولمة – الكسندر بانارين
* قُدّمت هذه الورقة الى السمنار العالمي السابع عشر للشيوعيين الذي عُقد في بروكسل- بلجيكا في الفترة بين 16 حتى 18 أيار 2008، وبحضور 55 حزبا شيوعيا وعماليا من آسيا وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وأمريكا اللاتنية.
د. محمد جواد فارس
السبت 7/6/2008