حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (22)



*يشارك في مهرجان الشباب الدمقراطي العالمي دائما عدد كبير من الصبايا والشباب من مختلف اقطار العالم تحت شعار واحد اساسي "السلام والصداقة"* وكانت اللغة المفضلة في المهرجان هي لغة الاشارة وكان اكثر النشيطين بهذه اللغة الرفيق فضل نعامنة والمرحوم عطا الله شوفاني* عندما رأينا ان الوفد الصهيوني من "مبام" و"أحدوت عفودا" لم يرتدع عن تصرفاته المشينة، قمنا بالقاء هذه منشورات الصهيونية من شبابيك القطار* سألت نفسي كيف يمكن لشعب قاسى مثل هذه الويلات وهذه المظالم والاساليب العنصرية البشعة بحقه، ان يستعمل هذه الاساليب التي يستعملها ضد شعبنا العربي الفلسطيني*

 

 في اواخر شهر تموز من سنة 1962 حالفني الحظ بأن اكون احد اعضاء وفد الشبيبة الشيوعية الى مهرجان الشباب الدمقراطي العالمي في هلسنكي عاصمة فنلندا، هذا المهرجان الذي كان يعقد كل ثلاث سنوات تقريبا في احدى الدول التي يتقرر ان تستضيف مثل هذا المهرجان، ويشارك فيه دائما عدد كبير من الصبايا والشباب من مختلف اقطار العالم تحت شعار واحد اساسي "السلام والصداقة" وهذا هو الشعار الاساسي لكل هذه المهرجانات الشبابية.
وعندما انطلقنا من مطار اللد كانت محطتنا الاولى في مدينة اسطنبول التركية ووصلنا هناك ليلا ولم نذهب لأي فندق، بل قضينا تلك الليلة في جولة بحرية على شواطئ البحر حتى جاء موعد السفر في القطار من تركيا الى صوفيا عاصمة بلغاريا. وعندما وصلنا الحدود البلغارية بعد سفر دام حوالي ثماني عشرة ساعة جالسين على الكراسي في القطار، انتقلنا الى القطار البلغاري حيث وجدنا وضعا مختلفا جدا حيث حصل كل واحد منا على سرير وليس على كرسي، وكذلك وجدنا امكانية ان نغتسل في القطار في الوقت الذي لم نكن نتمكن من غسل وجوهنا على الاقل في القطار التركي.
وعندما صعدنا الى القطار البلغاري وجدنا في استقبالنا ممثلين عن الشبيبة الشيوعية البلغارية مع وجبة طعام لكل افراد الوفد من اسرائيل، وكذلك صعد معنا الى القطار وفد الشبيبة البلغارية الذي سيمثلها في مهرجان الشباب في هلسنكي، وبعد ان ارتحنا قليلا جرت جلسة تعارف بيننا وبين الشبيبة البلغارية، حيث كان معنا احد الرفاق المسؤولين عضو اللجنة المركزية للشبيبة الشيوعية الرفيق موني من اصل بلغاري حيث قام هو بمهمة الترجمة بين الوفدين البلغاري والاسرائيلي، وكان فعلا لقاءً حميما، وبعد ان انهينا الجلسة الرسمية معهم وخلال جلوسنا توجه الي الرفيق موني الذي كانت تربطني به علاقات رفاقية حميمة وطيبة، وقال لي مازحا: "الان اريد ان اعمل لك دعاية يا رفيق توفيق بين الرفيقات والرفاق البلغار"، واخذ يشرح لهم عن احداث اول ايار سنة 1958 وكيف اعتقلت وسجنت لمدة طويلة وعن اساليب التعذيب التي مورست ضدي خلال اعتقالي وفي السجن، وفعلا تأثر الرفاق البلغار من هذا الحديث واصبحت علاقاتي وثيقة معهم وكانت اللغة المفضلة والرائجة في المهرجان هي لغة الاشارة وكان اكثر النشيطين بهذه اللغة الرفيق فضل نعامنة الذي كان احد اعضاء الوفد وكذلك المرحوم عطا الله شوفاني.
لقد كان الوفد الى المهرجان ليس فقط من اعضاء الشبيبة الشيوعية بل ايضا من شبيبة "مبام" وشبيبة "احدوت عفودا" في ذلك الوقت، وكان المسؤولون عن وفدنا، وفد الشبيبة الشيوعية، سكرتير عام الشبيبة الشيوعية في ذلك الوقت يائير صبان واعضاء اللجنة المركزية للشبيبة الرفيقان نمر مرقس وموني والرفيق طيب الذكر اميل توما، وكنا قد تقسمنا الى فرق وفرقتنا كانت مجموعة من الرفاق بقيادة الرفيق نمر مرقس، واذكر من هؤلاء الرفاق مشيل ابو نوفل وقسطندي جرجورة وإدمون مزيد وياسين ابو اسعد الذي كان يدرس في تشيكوسلوفاكيا في ذلك الوقت وانضم الى وفدنا وكان "مزيح نمرة واحد" وأطلق على الفرقة اسم فرقة "حوالليها" لاننا كنا دائما ملتفين حول الرفيق نمر وكان انسجام كبير بين اعضاء الوفد بشكل عام وانسجام خاص لهذه الفرقة.
على الحدود الرومانية استقبلتنا ايضا الشبيبة الرومانية بالورود، ومن هناك اكملنا طريقنا الى الحدود السوفييتية حيث انتقلنا من القطار البلغاري الى القطار السوفييتي الاكثر تطورا والاكثر راحة ووجدنا هناك ايضا لكل واحد سريره الخاص مغطى بالشراشف البيضاء، وكذلك مطعمًا مريحًا نأكل فيه الوجبات الثلاث يوميا، وكان الكمسمول قد استقبلنا بالورود ايضا عندما دخلنا حدود بلادهم، ورأينا حسن الضيافة وحسن الاستقبال الذي قوبلنا به من قبل الشبيبة السوفييتية لكل الوفود بما فيها وفدي "مبام" و"أحدوت عفوداه" ايضا، وكان من الطبيعي ان نقدر هذا الاستقبال وان نحترم المضيفين وقوانينهم وكان من الطبيعي ان تتصرف الشبيبة الشيوعية على هذا الاساس، وعمليا تصرفنا بما يليق بشعور الامتنان وبما يتلاءم مع الاخلاق الطيبة. ولكن الوفد الصهيوني الطلائعي كان قد شذ عن هذه القاعدة وخرق كل عرف اخلاقي، فمع وصولنا الى "اونجي"، وهي مدينة سوفييتية على الحدود الرومانية، بدأ أعضاء هذا الوفد يوزعون المواد الدعائية على المواطنين السوفييت، وكان من الغريب ان ترى رجال "مبام" و"احدوت عفوداه" مدعي العلمانية يوزعون على من يكتشفون أنّه من يهود الاتحاد السوفييتي، مفكرة دينية تشمل الصلوات والاعياد وتشمل ايضا دعاية صهيونية مقرفة، هذا بالرغم من انهم يعرفون جيدا القوانين السوفييتية، ولفت نظرهم لهذا الامر احد مسؤولي المهرجان وكذلك من الشبيبة الشيوعية اشاروا لهم عن سوء تصرفاتهم غير المقبولة، وعندها قال احدهم بصراحة واضحة: "نحن نعرف ذلك ولكن في بعض الامور علينا ان نخرق القانون، اننا ننفذ مهمة قومية عليا". وهم بالفعل ينفذون مهمة ألقتها عليهم وزارة الخارجية الاسرائيلية، وفي هذا الوفد كان هناك بعض الشباب العرب وكان احد المسؤولين عن وفد "مبام" عبد العزيز الزعبي، وعندما التقيت معه تحدثنا معا وخلال هذا الحديث قال لي انه متأثر جدا من حسن الاستقبال والضيافة السوفييتية، فقلت له لكن مقابل حسن الاستقبال والضيافة هذه رأيت ماذا فعل اعضاء الوفد الذي انت أحد المسؤولين عنه، فقال لي انه ضد هذا العمل ومن الواجب احترام القوانين السوفييتية وحسن الضيافة التي استقبلنا بها من قبلهم، عندها قلت له ان هذا الكلام يجب ان تقوله في البلاد عندما تعود، قال سوف ترى، وبالفعل كتب انطباعاته بشكل ايجابي جدا بعد عودته الى البلاد.
قمنا نحن اعضاء وفد الشبيبة الشيوعية، عندما رأينا ان هذا الوفد الصهيوني لم يرتدع عن تصرفاته المشينة، بالقاء هذه المنشورات من شبابيك القطار، وعندها "ضبوا حالهم"، وكان مع الوفد بعض الصحافيين الذين تحفظوا أيضًا من هذا التصرف المشين للوفد الصهيوني. وسار بنا القطار الى مدينة لينينغراد ومن هناك الى هلسنكي عاصمة فنلندا التي هي مركز المهرجان العالمي للشباب، وبعد وصولنا بيوم واحد افتتح المهرجان الرسمي الذي جرى فيه استعراض لكل الوفود المشاركة في المهرجان، وكان كل وفد يظهر ببرنامجه الخاص به، وكان وفدنا، وفد الشبيبة الشيوعية قد شارك في استعراضه خلال حفل الافتتاح بفرقة دبكة عربية، وفرقة رقص شعبي مؤلفة من الرفيقات والرفاق عربا ويهود، وكان من نجوم المهرجان الاساسيين في ذلك الوقت رائد الفضاء السوفياتي الاول يوري غاغارين حيث استقبلته الوفود بحفاوة خاصة وبالغة جدا، وكان كذلك الاستقبال الخاص ايضا لوفدي كوبا والجزائر لان وضعهما في تلك الفترة كان متميزا خاصة وانهما جاءا الى المهرجان بعد ان خاضت كوبا معارك شرسة مع الاستعمار الامريكي، والجزائر كانت خارجة من حرب التحرير التي خاضتها ضد الاستعمار الفرنسي.
بالنسبة لي، كانت مشاركتي في المهرجان هام جدا خاصة وانها اول سفرة لي الى خارج البلاد، ولا شك انني شعرت بفرحة كبيرة لمثل هذه الرحلة الهامة والتي جرت فيها لقاءات تعارف مع شباب من مختلف الشعوب المشاركة في هذا المهرجان، وكذلك لاول مرة التقي مع شباب عرب من مختلف الدول العربية، طبعا هناك البعض الذي اعتذر عن مقابلتنا من الوفود الرسمية من الدول العربية، ولكن الوفود التي كانت تمثل الشيوعيين فقابلتنا بحفاوة من العراق ولبنان والاردن بشكل خاص لان الوفد الاردني اغلبه من الشيوعيين الفلسطينيين حيث قابلونا بمودة وحفاوة كبيرة. وفي الحقيقة شعرت بفرح كبير وحسرة وحزن في الوقت نفسه، اولا فرحت باللقاء والتعرف على شباب عرب من الوطن العربي، وكذلك اللقاء والتعرف على شباب من مختلف الشعوب الاخرى حيث جمعتنا معهم في هذا المهرجان شعار "السلام والصداقة" هذا هو الشيء المميز والمفرح، ولكن مقابل هذا هو اعتذار بعض الوفود العربية عن مقابلتنا لانهم حتى ذلك الوقت كانوا ينظرون الى هذا القسم من شعبنا الفلسطيني الذي تشبث بأرضه ووطنه نظرة شك، لانهم عمليا حتى ذلك الوقت لم يفهموا اهمية مثل هذا البقاء في الوطن والتشبث بالارض واننا نحن الذين حافظنا على بقائنا في ارض الوطن كنا وما زلنا الصخرة الاساسية التي ستتحطم عليها كل المؤامرات على شعبنا وقضيته العادلة ان عاجلا او اجلا.
استمر المهرجان لعشرة ايام في هلسنكي ومضى الوقت بسرعة وكأنه يوم واحد وذلك لروعته وروعة برامجه المميزة، حيث كانت لنا خلال هذه الفترة عدة لقاءات مع وفود مختلفة من هذه الوفود المشاركة في هذا المهرجان الكبير والعالمي، وبعد انتهاء المهرجان في فنلندا قُسمنا الى عدة فرق وكل فرقة كانت مدعوة الى دولة من احدى الدول الاشتراكية وكان حظنا نحن فرقة "حوالليه" أن ندعى الى وارسو عاصمة بولندا، وهناك ايضا قضينا اسبوعا تقريبا حيث تعرفنا على معالم وارسو وكذلك زرنا مدينة كراكوف التاريخية وبعض المواقع الاثرية في هاتين المدينتين، وكذلك اخذنا المضيفون لزيارة معسكر الابادة المعروف باسم "اوشفيتس"، هذا المعسكر المرعب الذي ضم في داخله نزلاء اكثر من عشرين دولة وليس فقط من اليهود كما يدعي البعض، وخلال تجوالنا في هذا المعسكر رأينا هناك الصورة عن الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق اكثرية هؤلاء الأسرى قبل ان يحرر بأيدي الجيش الأحمر السوفييتي، فرأينا الافران التي كانوا يحرقون بها البشر، وصور النساء والشيوخ والاطفال الذين أبيدوا هناك ورأينا ملابس هؤلاء الذين قضوا نحبهم هناك والسجاد المصنوع من شعر النساء اللواتي كن نزلاء هذا المكان، شاهدنا كل الاساليب الاجرامية التي ارتكبت بحق البشرية من قبل النازية. عندما رأيت كل هذا لم استطع ان اكمل التجوال في هذا المعسكر المرعب لأن اعصابي لم تكن تتحمل رؤية مثل هذه المناظر الاجرامية البشعة، فعلا انها اساليب اجرامية وحشية لا يمكن ان يستوعبها العقل البشري الطبيعي ولا شك انه كان من بين هؤلاء في هذا المعسكر الكثير من اليهود. ومنذ ذلك الوقت سألت نفسي كيف يمكن لشعب قاسى مثل هذه الويلات وهذه المظالم والاساليب العنصرية البشعة بحقه، ان يستعمل هذه الاساليب التي يستعملها ضد شعبنا العربي الفلسطيني، اساليب القمع والقتل اليومي وهدم البيوت وقصف الاحياء السكنية بالطيران واستعمال السلاح المحرم دوليا واساليب التعذيب في داخل السجون الاسرائيلية، ان هذه الاساليب لا تقل بشاعة واجراما عن تلك. وكانت لنا زيارة اخرى ل "غيتو وارسو" الذي هو ايضا مكانا زج في داخله الكثيرين من اليهود وكانت هذه الاماكن قد خلقتها النازية ضد تلك الشعوب التي كانت تقاوم الوحش النازي الالماني.
بعد مضي هذه المدة التي عشناها خلال هذا المهرجان عدنا الى ارض الوطن ونحن نحمل معنا اجمل الانطباعات والذكريات الى جمهور الشباب في بلادنا والى فروع الشبيبة الشيوعية، وكان الوفد بعد عودته قد وضع برنامجا واسعا له من اجل نقل هذه الانطباعات الى جمهور الشباب وفعلا جرت عدة لقاءات واجتماعات في مختلف قرانا ومدننا لنقل هذه الانطباعات الجميلة.

(يتبع)

توفيق كناعنة
الجمعة 6/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع