ورق ورحيق



هــذا ورقي ورحيـقي.. فتعالَ متـِّعْ ناظريـكَ وروحـكَ، يا من تنشـُد
سعادتك في غير موضعها من هذا العالم ولا تجدها .. تعالَ خذها، إنّك في ورقي ورحيقي تعثر على فتاتك الحسناء التي قضيتَ كلّ عمرك تبحث عنها، لكنّـك لم تحظ منها بقبلة واحدة لأنك جهلت في أيّ موضع تقيم من هذا العالم..!! فليبتعدْ من هنا كلّ أعمى، لأنّه لا يمكنه أن يبصر جمال الورد الفتـّان في يديّ.. وليغادرِ الموضع كلّ مزكوم لأنّه لا يستطيع أن يتنشّـق عبق الرحيق السلسل في قارورتي...!!!
 ركضتَ وراءها في المال..!! حتّى ملأتَ منه يديك، أمّا روحك فبقيَتْ فارغة إلا ّمن القلق والهواجس .. فألقاكَ المال من قمّة الجبل الشاهق في أعماق الوادي بعد أن كسّرتْ عظامَك المتاعبُ ونثرتْ لحمَك الهموم ..!!
 ركضتَ وراءها في الموائد الشهيّة..!! فقتـلـتـْكَ صِحافها بنـَهـَمِكَ وجوّعـَتـْـكَ بشبَعـِـكَ ،وحملـَتْ إليك الأمراضَ من كلّ ناحية..لتبقى جائعا بروحكَ، وليس في الأرض طعام يشبعها من شدّة السّغـَب..!!
 ركضتَ وراءها في الشراب..!! فمـتَّ بعطشِكَ، وسقاك الشراب من كؤوسه كلّ علـّة ووَصَب..!!!
 ركضتَ وراءها في جسد المرأة..!! فوجدتـَها لـذة عابرة لا تـقيم فيك، ليُـقيم مكانها من قلبك ذلك الندمُ المميت..ولقد سمعتـُها تقول لك بعد أن أطفأتَ ظمأ شبَـقِــك: ويل لك وما أشقاك!! إنّ اللذات الروحانيّة هي الأبقى في هذا العالم..!! إنّ السعادة التي ترجو أن تنالها لا تكون يوما في شهوات الجسد، ولا تكون في امتهان كرامة أنبل ما خلقه الله على الأرض..!!!
 ركضتَ وراءها في الأبنية الشاهقة..!! وصرفتَ سحابة عمرك في رفع أعمدتها، حتّى سقطتْ عليك المتاعبُ سقوطا عظيما بكلّ سقوفها وحيطانها وحجارتها الثقيلة لتبقى تئنّ كلّ حياتك تحت أكوام الركام..!! ولقد سمعتـُها تقول لك ثانية : مسكين أنت !! عـُدْ إلى أهلك !! رأيتكَ من شرفاتي أين كنت تبحث عنها عبثا طوال عمرك .. إنّ ما جئتَ لأجله ليس لديّ.. هذا ما قلتـُه قبلك للملوك والسلاطين الذين أقاموا هنا تحت سقفي دهورا ثمّ ولــّوا، وبقيتُ وحدي دونهم في هذا العالم..!! أيّها الشقيّ !! إنْ جئتَ تطلب مَنيّـَتـك فعـُدْ إلى حيث كنتَ، وإنْ جئتَ تطلب مُنـْيَتـَك فهي ذي السعادة التي تطلبها تقول لك:
 
 إمش ِ وراء الله واتبعه دائما حيث يريد لك أن تمضي في هذه الحياة..!! إنه المُعين الأقوى الذي يَقبلك ويحرسك ويملأك من الروح القدس ويُلبسك بين الناس أبهى الحلل، وتكون لك الغلبة في كل شيء، ثمّ يقودك إلى عرشه حيث يسكن مع أنبيائه ورسله الأطهار والشهداء القدّيسين.!!!
 أطلبِ الكمال في القيم العظيمة.. لأنها خير ما تزيّن بـها نفسك، ووطّن حياتك على جهاد النفس، ومرّنها على الاحتمال في الروح والجسد، ثمّ اعمل كلّ ما هو نافع وضروريّ لبيتك، وتمّم واجباتك نحو وطنك وما له عليك من حقوق، حينئذ تحصل على المقام الأرفع والمجد الأسنى ...!!
 اصفحْ للناس عن ذنوبهم، إنـّّك إن لم تطرح غيظك فإنك لن تنزل العقاب بأحد إلاّ بنفسك، وإنْ لم تسامح يبقَ خصمك قاعدا في قلبك
يبثّ في صدرك كلّ بؤس وألم ..!!
 افرحْ دائما، واستقبلْ صباحك كلّ يوم بالبسمة مبتهجا..وإنْ لم تفعل فأنت الخاسر وحدك، وأصغر فراشة في الأرض لن تسأل عنك، ولن تبالي بما دهاك من أمرك ..إنّ إحسانات الله وإنعاماته كثيرة عندك لو فكّرت، لا تنسَ أنّ الحياة نزهة قصيرة ولذيذة لا تتكرّر، وإن حملتْ إليك بما لا تودّ وتشتهي.. فمتّـِعْ نفسك بها قبل أن يدهمك موعد العودة إلى موطنك الأوّل..!!
 كـُـنْ قلعة راسية في كلّ ظرف.. وإيّاك أن تتزعزع أو تيأس لحظة واحدة .. إنّ حظ القلاع والقمم الشامخة دون الأودية الوطيئة،أنْ تعصف بها الزوابع ولا تنحني.. فلا تعجب يوما أن يكون نجاحك في هذا العالم ذنبا لك لدى الأوغاد ..ولربّما يأتي إلى حقولك أيّام الحصاد شرذمة من اللصوص، وفي أيديهم مناجل ليحصدوا زرعك، ويأكلوا تعبك ،وتكون في نظرهم معتديا حين تمنعهم أن يستبيحوا حقك.. فلا يزيدنـّك ذلك إلا عزما وإباءً .. وتعلـّمْ أنّ الصخرة العظيمة تزداد ثباتا على قدر ما يكون حملها ثقيلا من الصخور فوقها في السفوح العالية..!!
 
 تـبْ عن خطاياك ولا تتوانَ..واعلم أنّه ليس كالخطيئة مِنخس يدمي ضميرك ويُـلقي في روعك الرعب والهلع الدائم.. وإنّ من الخطايا ما له جزاء رهيب هنا على الأرض وهناك في السماء..إنّ التوبة رجوع من الطريق التي تؤدي بك إلى الهلاك.. فانظر إلى خلاصك "ما دام النهار" لئلا يدركك ظلام الموت ولا "تستطيع فيه عملا" وطوبى لك إن كنت نقيّا وسـرت في طريق الحقّ على رجاء الحياة الأبديّة..!!
 أحِبّ الناس جميعهم.. ليس في الدنيا شيء تمنحه للناس أعظم من المحبة.. وليس في الأرض مثل المحبة شفاءً لأمراضك الكثيرة.. المحبة تمحو بيديها حسدك.. وتقتل كبرياءك.. وتنفي يأسك.. وتزيل خوفك.. وتنقـّيك من كل خبث واضطراب وقلق ..وتريحك من كل عداوة.. إنّها تطهّرك من كلّ أوجاعك الروحانيّة، وتعيدك طفلا بريئا ،وتنزع بيديها كلّ آلامك من صدرك وتلقيها من النافذة إلى ركام الأقذار!!
 ارحم ِالناس كلّهم.. فليس واحد من الناس في هذه الدنيا إلا مُصابا وفي قلبه سهم من سهام الدنيا، يئنّ منه ويتوجع..!! فأعـِنـْهم ما استطعت على ما عندهم من ضنك وألم..!!
 سالم الناس، وإن صنع الحسدُ بيديه لـك منهم عدوّا ولم تشفع إحساناتك الكثيرة عنده، فاعلم أنّه أولى الناس منك بالشفقة والدعاء له بالعافية لمرضه العضال، وأوجاعه التي يتلوّى تحتها في النهار ولا تـَدَعـُه ينام آنــاء الليل ..!!
 امنعْ لسانك عن الناس، لأنّ عيوبك أولى بـه من عيوبهم..اقبضْ عليه دائما، واحترس أن يكشف لك عورتك أمام أعين الناس، لأنّه وحده القادر أن يقود عقلك وقلبك عاريين بغير حياء وخجل..!!
 أحسـِنْ إلى الناس من نعمة الله عليك دونما فرق في الدين والعرق والجنس.. لأنّه ليس كالمعروف يردّ إليك أضعافا من محبّتهم ..واعمل كلّ صالح من الأعمال لتبقى في هذا العالم حيّا بأعمالك، وإن حملوك في النعش يوما إلى القبر العميق..!!! و لا تنسَ أن تحسن إلى الفقراء والمحتاجين بينهم، وحذارِ أن تضيّع هذه الفرصة يوما .. واعلم أنّ ما في يديك هو لله عندك وليس لك، وقد أعطاك لكي تعطي منه عطاء حسنا.. وإن أنت لم تعط فإنّه يؤخذ منك..تذكـّرْ أنّ الله موجود في كلّ فقير، وقد بعثه إليك ليكون لك في الاحسان إليه أجر عظيم، وإن أنت أحسنت إليه فقد أحسنت إلى الله في واحد من أولاده من بني البشر..!!
 لا تبال ِ بما يعيش الأشرار من الآثام والخطايا، ولا تـَقِـس نفسك بمثالهم، ولا تردد في ذهنك أنك تسير على غير طريقة سائر الناس، لأنّ هلاكهم لا يخلّصك..وإن قابلوك بالهـزء والسخرية فاعلم أنّ ذلك هزء المجنون من حصافة العاقل ،وسخرية الخنزير النتن من شذا الوردة النديّة..!!
 حذارِ حذارِ أن تظلم أحدا، ولا تنس ساعة واحدة أنّ عين الله في السماء لا تنام أبدا عمّا يفعله الظالمون في الأرض...!!
 إقبلْ حياتك على عـلاّتها كما هي، وكنْ منها حيث أنت راضيا، ولا تكن كـَنُودا جاحدا لانعامات الله عليك وإحساناته الكثيرة، واصبر على مكاره الزمن ولا تتأفــّف، وإن شكوتَ فلا يكون ذلك إلا لخالقك الذي يعينك ولا يشمت بك، فقد تقيم في قصرمنيف فلا تعجبْ أن تكون حياتك حياة من يقيمون في الأكواخ، وقد يحيطك الربيع الزاهر من كلّ ناحية لكنّك من أمرك في خريف حارق، ولـُربّ منزل لك في ربوة فيحاء لكنّ عيشك في بريّة نائية تحرقها الشمس..!! أو أنك تكون في صيف صافٍ ودافئ لكنـّك من العيش في ثلج ورياح ومطر تودّ معه لو انك قرب الموقد تنشد الدفء من لهب الحطب ..!!
 احذرْ أن تكون فريسة لأحد يوما.. كنْ يقظا دائما حتّى في سباتك العميق.. إنّ من الناس في هذه الدنيا من له أنياب، ومنهم من له حُمَـة العقرب..ومنهم من له أرجل الفيلة.. أولئك أيّ صنيع عظيم أجزلته لهم يوما لا يمنع أنيابهم أن تقطّعك.. وحُمَتهم أن تلسعك.. وأرجلهم أن تدوسك ..لأنّهم كهوف يسكنها الشيطان ولا رجاء لهم في هذا العالم...!!
 أيّها الشقيّ !! بعد أنْ عرفتَ أين كنوز السعادة في هذا العالم، قم احمل قيثارتك غنّ وردد ما تقوله الحياة :
 هذا ورقي ورحيقي..
 فزيّنوا جمالي بابتسامتكم ..
ودعـُوا الحب يمرح معي في مضجعي ولا تنزعوه من ذراعيّ..
 قصيرة أنا وقبض ريح بأيديكم، كلّ واحد منكم عابر سبيل وضيف غير مقيم في منازلي..
 عطّروا ليلي بالحب والقبل..
 وانقشوا على نهاري ذكريات المحبّة والصفاء ..
 لكي أقول عنكم :
حملوا الله في قلوبهم فحملهم الله إلى قمم السعادة..
كانوا في الفردوس، وكان الفردوس فيهم إلى أن رحلوا عن هذا العالم...!!! 

(كفـرســميع)

يوسف ناصر
الجمعة 6/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع