قصة
على أرض بئر السبع



أنزل من القطار الآتي من نهاريا الى بئر السبع، يلامس وجهي هواء ساخن، سمج، وجفاف ثقيل يرنُّ فوق رأسي كقطع معدنية. الوقت بعد الظهر بقليل، والأشياء بدأت تأخذ بالإسترخاء في استراحتها، أسير وسط ازدحام يسير باتجاه واحد، كما أنه يقصد هدفا معينا كل يريد الوصول إليه أوَّلاً. أقطع رصيف القطار، أسير على رصيف شارع رئيسيٍّ مليءٍ بحركة، وأضواء، ومحلاّت وأشياء ملوَّنة.
عند طرف الشارع في زاوية، يلفت انتباهي محلٌّ صغير، ثبَّت على واجهته لوحة كتِبَ عليها "مُصَفِّفة شعر رجال"، وعلى بابه رُسِمَ رأس كبير، مقطوع لرجل.
أقترب، أمدُّ بصري عبر زجاج الباب، لأتأكد مما قرأت، وفعلا أرى امرأةً تقف وراء كرسيٍّ قابضة على رأس رجل تحلق له.
أتابع سيري، وأنا أفكر لماذا لا أخوض هذه التجربة؟ تبدو لي الفكرة جميلة، خاصة وأنا اليوم فاضي أشغال، لا ورائي ولا أمامي، ولا شيء يعيقني عن أيِّ شيء.
أول عمل أقوم به، أذهب إلى بنك، فأنا أحبُّ أن تكون جيوبي مليئة بالشواقل، (اليوم كل شيء يتم بالنقود) أقف أمام جهاز، أدُسُّ في شقه كرتا صغيرا صلبا، يلتقطه ويبتلعه بخطفة واحدة، تقول شاشته:
اضرب رقمك السري.
أضرِبُ.
بعد قليل تقول:
أشِر إلى المبلغ.
أشير،
ثم يعطيني الكرت، يخرجه كلسان ويقول لي:
انتظر، طلبك قيد العلاج.
يأخذ الجهاز يتكتك بحركة ثقيلة، ثمَّ يخرج من شقٍّ آخرَ بتوجس وعلى استحياء الخمس مائة شاقل وورقة صغيرة تظهر أحوالي المالية في البنك.
أدسُّ النقود في جيبي، أتجوَّل قليلا، أتغذى، أشرب البارد وأرجع إلى محل الحلاقة يملأني الفضول. أدفع الباب الزجاجي، وأدخل بكل ثقة، ألقي التحية، أسند عكازي بين زاوية حائطين، أضع كتاب (ضجيج الغابة- لكورولنكو) على كرسي بجانبي، وأجلس متمتعا ببرودة، ورائحة عطر وتكتكات مقص.
تنظر إليَّ نظرة شاملة، سريعة، ثمَّ مُتفحِّصة. وما ان تقع عيني على وجهها، دهشة مُفاجئة تأتيني، أسأل حالي:
معقول، تكون هي؟
في محلِّها أرى نافذة مغلقة بستائر، وثمَّةَ صورتان لمنظر طبيعي، ورسمة لرأس مقطوع مصفف الشعر جيدا كما أنه دهن بمادة دبقة، وقي الزاوية المقابلة أصص لنبات عريض نظيف، وريان متنعم بأجواء المحل مثلي، يلمع تحت نور منهمر، كما انه يغتسل به، وقربي صندوق زجاجي مستطيل، استحلى نغمة غرغرة الماء كما أنه يضحك، داخله حركة أسماك صغيرة ملوَّنة تشيع في المكان نبض الحياة وفرحها. وواضح أنها وضعت لمساتها ليظهر المحل أنيقا.
أتناول مجلة كثيرة الصور، موضوعة على طاولة واطئة، أنظر إلى الصور دون أن أقرأ، فقد كنت مشغولا بواقع التجربة التي سوف أمُرُّ بها. وبين الحين والآخر أنظر إليها، إلى تلك التي سوف أضع رأسي بين يديها؟ وأتساءل:
معقول تكون هي؟
يجلس على كرسي الحلاقة رأس كبير ذو شعر مالس، وأذنان واسعتان، لا ينفك ينظر إلى نفسه، كأنَّهُ يراها للمرة الأولى ورقبته تظهر من الخلف كما أنها رُكبتْ على طبقات.
في وقت ما تأخذ تحلق له ذقنه، يصبح وجهها في مواجهتي، وبين الحين والآخر أرفع رأسي أنظر إليها وأتساءل مرة أخرى:
معقول؟
تنتهي، تقول لي بإشارة من رأسها، تفضل.
 أصعد، أجلس على كرسيٍّ دوّارة مسنود الظهر منتصبا، كمن يجلس على عرش، أو خازوق، وتكون مرآة أمامي وأخرى ورائي، لأرى من أمامي ما ورائي.
أرى حضرة كياني منعكسا أمامي في المرآة. أبتسم في داخلي، وأنا أرى نفسي داخل المرآة مبتهجا أكاد اقول لنفسي الأخرى داخل ألمرآة، مرحبا.
أنتبه إلى رف زجاجي مثبت على حائط قبالتي، وقبالتها، مليء بزجاجات صغيرة، وكبيرة، داخلها سوائل من عطر، كأحجار كريمة، شبهت لي دنان صغيرة، تعلوها صهباء ملونة، والزجاجات تأخذ أشكالا أنثويَّة رفيعة النحور، استدقت في بعض نواحيها، وراحت تصغي إلى صمت داخلها، وتنظر من خدرها المكشوف إلى جمال نفسها وفحواها.
أرى أوانِيَ أخرى على أشكال الطير، ودوارق لها مماسك، وأخرى لها أعناق مُعوَجّة، تعطي للرائي متعة جمالية، ومقصاتٍ، وأمشاطا، وأشياءَ أخرى ممدودة، ونظاراتي في طرف الرف ترنو إليَّ.
بعد أن أستوي في جلستي، أعطيها رأسي، فتتلقف رأسا أحلط، أملس من الأمام، مع احمرارٍ خفيف، واندفاع قليل في الجبين، ينتهي بفتحة مغلقة أسفل الذقن (كم غلبتني وقت الحلاقة) محمول على عنق صغيرة، وفي الخلف، عند الوسط، عملت الشعرات لها جزيرة.
تضع المنشفة على صدري، أحِسُّ بأصابعِها الطريَّةِ على عنقي، وهي تدُسُّ أطراف المنشفة تحت ياقة القميص، تضع كامل يدها المفتوحة على أعلى رأسي، وتنزل بها بحركة زائدة، كمن تملسه وهو بطبيعته مالس.
تقول:
كيف تريده؟
أقول:
بالنسبة لي ليس هناك شكلٌ مُحَدَّدٌ أرغب به، وعمره لا يسمع لي بكثرة الطلبات، حسب رأيك ماذا يُلائِم!
تقول:
أنا أحبه طويلا، فالطول يُعْطي للرأس سِمَةَ الاستقرار، والسُمُوَِّ والنفاذ!
(أرجو أن أكون قد ترجمت ُاقوالها جيدا)
وتضيف، وهي تنظر من ورائي إلى أمامي:
- الربُّ بارك في الطول.
أقول:
وهو كذلك،كيفما تريدين.
وأنا أنظر إليها، أتفحصها، أقلب وأراجع، ومرة أخرى أتساءل:
معقول هي؟
تتناول المشط من على رف زجاجي أمامي، تتلاقى نظراتنا خارج المرايا.
بدا وجهها ذاويا قليلا، رغم ذلك كانت عيناها باسمتين، مليئتين بفرح.
تمرِّرُ،المشط على شعري، ويدها الأخرى وراء المشط لاحقة،متتبعة خطاه، والشعرات تتلوى، تستقيم، ترتمي على بعض في وهن، متطاولة، ممدودة، كأوتار مشدودة، والمشط يمر بقوسه عليهن، يهدهدهن بلحن لا يُسمع.
كانت حركتها، ووضعي يسمحان لي بمراقبتها. وبعد تأكديٍ من معرفتي لها، أقول بصورة مفاجئة، وأنا أستدرج حضوري :
- أظن أنك معروفة لي من مكان ما.
تقول:
يجوز، من أين؟
أقول، وكأنني أكشف لها الأوراق مرة واحدة.
- أنت روت، مزبوط؟
تتوقف عن الحركة، وتتسع عيناها وتقول:
- من أين تعرفني باسمي؟
أقول، كأنني أعطيها مفاتيح الحل:
- أنا من كفر ياسيف، وأنت كنت فاتحة صالونا للنساء في نهريا.
تنظر إليَّ بإمعانٍ، ويرتسم على وجهها الكثيرُ من العلامات، تقترب من وجهي، وتقول، بين التخمين واليقين، وهي تشير بيدها التي بها المشط:
- أنت علي، صحيح؟
أقول:
- برأسه (بخفودو وبعتصمو).
فجأة ًنضحك الإثنان معا، ونبقى للحظة ٍصامِتيْن مع دهشة المفاجأة.
تقول:
- لم أتصور لنفسي أن أراك هنا.
وتضيف بعد قليل:
- أيْ، كانت أيام.. تذكر أيام كنت تأتي بسيارتك "الكونتيسا" وقميصك الكحلي، وتبيعنا العطور، والمعجنات، والكريمات، ومستلزمات التجميل، وكل ما يلزم الصالون، تلك الأيام كانت جميلة، نهريا جميلة، وكل شيء جميل، ونحن كنا أجمل، الزمن غيّرنا، غيّر كلَّ شيء.
أقول لها:
- لماذا انتقلت، وغيّرت عملك من النساء الى الرجال؟
- النساء يغلبن، الواحدة تريد أن تخرج من عندي ملكة جمال،انتم الرجال تك- تك –تك وانتهينا.
تنظر إلى كاملي نظرة متباطئة، وهي تنقل نظراتها بين عكازتي وبيني، وتقول:
- ماذا حدث لك يا علي؟
- شوفت عينيك، الزمن، الزمن يا روت.
- الزمن له أحكامه، الزمن يعمل عمله.
كانت تتكلم بصوت لطيف، ليّن كأصوات الزنوج، وتعمل شعرها ذيل حصان، تربطه بزيق، كأنه حلقة جمر، ورغم تقدم العمر بها، إلاّ أن جسدها لم يفقد مظهره الشهواني.
تتناول مقصا من أمامي، وتدخله بإصبعيها، يلمع المقص، ويعطي وميضه المتعجّل البرّاق عند تصادم نوره مع نورٍ آتٍ من السقف .
تعطي أوامرها بلمسة خفيفة من إصبعها أنْ أخفِضَ رأسي، فأطيع، وتلامس ذقني صدري، لم أعد أستطيع الحديث معها، ولم أعد أراني في المرآة، ولا أراها، تشرع تتكتك في المقص على شعري فوق المشط، في الحال تأخذ الشعرات تتجندل مقصوفة، وتتدحرج من علٍ على الجوانب، كثمرات رمادية أضناها النضوج.
كانت يداها تعملان بلباقة، ونشاط،، والنمش القليل عليهما كحبات سمسم على فطيرة، وأحيانا تضرب المقص بالمشط كأنما توقظه، وتواصل، وشعراتي تفارقني،وتتركني وتحط على أرض بئر السبع كعابيل من فضة،والمقص يشدو بين المراتع، يدور، يتنقل، يفتح، يلتهم، ويخطو لا أحسُّ به، أعرف موقع الخطوات من سماعها.
أحياناً تسود بيننا فترة سكون، أهرب من وجهي، وأنظر إلى أيَّة جهة، وعندما لا تنظرإليَّ، أنظر إليها.
تقول:
- معقول أراك بعد هذه السنين. كيف حال نهريا؟
- بعدها في مكانها على حطّة يدك.
(لم أجد أفضل من هذ الكلام لترجمة أقوالي)
في وقت ما، وشعراتي ترتمي من حولي، كما أنه لحقني خريف ما، أتساءل مع نفسي، ترى شعراتي في أيَّة مزبلة سوف تستقر، وإلى أيَّة جهات ستنثر؟ أتصور كل شعرة ذاهبة في سبيلها، سابحة في الهواء، تتقلب، وتلمع كبلورة صغيرة، وتتوزع خفيفة كرماد محروق أفلت من جاذبيته.
وهي لا تدري فوق أية أرض تمر، ولا تدري كل شعرة بأية أرض تحط.
ترفع رأسي بلمسة خفيفة من يدها، أرى نفسي داخل المرآة، وفيما أنا أمامي، وهي ورائي أقول لنفسي:
إذا كان للإنسان بعد الموت من طلبات يرجو تحقيقها، فلي طلب واحد، أن تحرق جثتي، وينتشر رمادها كشعراتي، فما يضرني من إيلام الحريق بعد جرح الموت، وتبقى الذرات تسبح في الفضاء،تنتقل خفيفة،وتتوزع،وتنتشر،،تطير ولا تحط،تتوالى في حركتها حرة، لا حد يحدها، ولا افق يحاصرها، ترتفع في الهواء، فوق البحار، والأشياء الملونة، والبحيرات البعيدة، رمادا، أو هباء، أو شعاعا أو أثيرا.
ليأخذ غبار جثتي مجراه، وينطلق إلى ما بعد الأفق العالي، ويرى ما لا يرى.هذا أفضل من أن تصبح جثتي طعاما للديدان في مكان مظلم بارد، ومحصور بين جدران التراب، وفي مقدور الإله يوم الدين جمع الذرات، وإعادتي بشرا سويا، فإذا كانت طريقي النار فقد جربتها، وإذا كانت طريقي الجنة فقد جربت الطريقتين.
أنتبه إلى نفسي وأقبض عليها، وأنا أفكر بهذه الأمور، وأستغرب كيف أن هذه الأفكار تتصاعد مني وحولي العطر والأنوثة!
أقول أستأنف الحديث معها:
- طبعا تزوجت؟
- تزوجتُ، وسكنتُ في حيفا، بعدها تركتُ الزوجَ وحيفا، وسكنتُ في بئر السبع في الجنوب، بعيدا عن الشمال، الشمال كثير المشاكل. عندما سكنت في حيفا حسبت أنني في أمان وقت حرب لبنان الأولى، وفي حرب لبنان الثانية المشاكل طالت حيفا أيضا، ذهبت بعيدا بعيدا إلى هنا.
- ألم تتزوجي غيره؟
- لا، لم أتزوَّج.
- أنتِ الآن فاضية للحمولة (بنويا)
- أنا أكتفي الآن بلمس رؤوس الرجال.
تبتسمُ هي، أضحك أنا.
أقول لها مداعبا نرجسيتي :
-الآن يا روت تتلذذين على رأسي... ها،
نضحك معا.
أقول هذا وأنا مطمئن تماما إلى حدسها الأنثوي.
تقول:
- وأنت يا علي تزوجتَ؟
- تزوجتُ وقاصصني الرب، وأشرتُ ألى رجلي.
يتقلب رأسي بين يديها حسب طلبها، وتظهر لغة الجسد كما أنها توقفت في أطرافه، وبقيت منتصبة، نشطة في الرأس.
تعطيني قفاها، وهي تغيِِّر شفرة الموس، تفتل، وتقول، بينما أستسلم تماما لها، وأنا تحت موسها:
 - تعبت أنا يا علي كثيرا من العمل، أقضي وقتي في المحل، رأس داخل، ورأس خارج. تصور يا علي يدخل عندي رؤوس بكل الأشكال، والأحجام والأعمار، رؤوس مُربَّعة، رؤوس غائصة بين الكتفين، رؤوس كأنها ركبت عليها طاقية من ثلج (أفطن إلى حالي).
كانت تتكلم وأنا ساكت، مرة أخرى ذقني فوق صدري، واستسلمت تماما لها ورقبتي تحت موساها وأنا أسمع جرّت موستها على عنقي وهي تقشط الشعر.
وتضيف:
- كم قلّبت هذه الأيادي من رؤوس، أصبح لي تجربة، من رأس الواحد أعرف ما بداخله من أفكار! أكبر رأس وأتخن رقبة أحنيهما تحت موسي، كل يوم رؤوس رؤوس، يأتي يوم الانسان يمل.
أرفعُ رأسي مُتمِّما حديثها، كأني أعطيها فلسفتي (في باب الرؤوس) أقول:
- كل شيء، ورأسه، لا رأس يشبه رأس. نقول رأس شارع. رأس شجرة، رأس جبل،رأس قلم، كل شيء يأخذ القيمة، والقمة من نفس رأسه. خذي رأس الدبوس،هل للدبوس قيمة بدون راس؟ كل شيء موجود له رأس موجود،لا شيء بدون رأس يلازمه.
أتابع وأنا متحمس للحديث بمثل هذه المواضيع:
- صحيح أن الرؤوس تختلف، هناك رؤوس جميلة، شعرها جميل، وأخرى تشعرين من النظرة الأولى أنها عدوانية كأنها ركبت على رأس نووي، ورؤوس كثقل سار عليها فاستدقت من الجانبين، ورؤوس مائلة كأنها من دلال، وهناك رؤوس مزنبطة، مشرئبة ذاهبة في بلاهة. (أخذ مني الكثير من الكلمات، والإشارات حتى أفهمتها ما معنى مزنبطة، وأنا أفرك أنفي أخفي ابتسامة وراء يدي).
وأضيف:
- لكن الرؤوس تلتقي في نقطة واحدة هي، الجوهر، والأساس والفعل.
تقول:
- البارحة دخل عندي رأس مزنبط، كما تقول أنت (هي تقول مزبَّط) أخذ معي مزيدا من الوقت، وعندما انتهيت منه، لا يريد الخروج، كل مرة يقول ساوي هذه الجهة، نظمي هذا السالف، هندسي هذه الشوارب، طلَّع روحي حتى خرج.
أقول:
- أنت يا روت تتعاملين مع أهم قسم في الإنسان، عليك التسامح والصبر. قولي يا روت أي الرؤوس تفضلين وترتاحين لها؟
- كلما كان الرأس قليل الشعر، قليل الطلبات، كلما أعطاني الكثير من الراحة والوقت. (أنتبه إلى حالي) لا فرق عندي بين رأس عربي، أجنبي، أشقر، أسود، فقير، غني، المهم عندي أن يبقى المحل يشتغل، يمكن تسميتي بهذه النقطة أنني أمميّة. أقول: يعني شيوعية.
تقول:
- بهذه الأمور، أنا شيوعية.
- وفي غيرها؟
- لا...لا
- لا أريد أن أتجادل معك، وأختلف فرقبتي تحت سلاحك الأبيض (نضحك معا).
بعد قليل تقول:
- نسيت أسألك، ماذا جئت تعمل هنا؟
- لا شيء، كل مرة أسافر بالقطار من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب،من نهريا إلى بئر السبع، أصطحبُ معي كتابا أقرأ به في طول مسافة الطريق، أغير جوّ القراءة، أصل، أتجول كعصفور طيارّ، أتغذى، وأعود، يبدو عملي هذا غريبا، لكن كم يروق لي.
تقاطعني وتقول:
- على ذكر الكتب (تنظر إلى الكتاب على الكرسي)أحيانا أقرأ، لم أجد ولا كتابا واحدا يتكلم عن امرأة تحلق للرجال.
- أقول:
- أنا سأكتب، وأخبرك؟
ومتمِّما حديثي السابق:
- أحيانا أسافر بالقطار من نهريا إلى القدس.
- تحِبّها؟
- هي عاصمة القلوب.
- أنتم العرب تريدونها؟
- نحن نريد قسمنا، المشكلة عندكم تريدون قسمكم، وأقساما من قسمنا، وتقولون، تنازلوا.. تنازلوا.
- أنتم العرب تطالبون بالشيء، ويضيع منكم، ينقصكم التخطيط،، العناد والمُثابرة.
تقول هذا، وحرف "الراء" إثر لفظها له ينقلب إلى "غين"، فتقول بدل "عرفيم" "عغفيم"، أستحلي منها حرف الراء، وهو يتقلب، ويتدحرج في حلقها كقطعة حلوى، فينقلب الى "غين"، وقد امتلأ صوتها بدلع الطفولة.
تواصل قولها:
- القدس لا يمكن ارجاعها كيف أنتم تريدونها، إقبلوا ما نقدمه لكم!
- لا أريد مرة أخرى أن أختلف معك، فرقبتي تحت موستك.
- إذا استمر الوضع كما هو ستبقى الدماء تسيل من شعبك، وشعبي.
- يا روت، يا روت لا يفيد إلاّ السلام. والسلام يأتي بعد أن تبرد الرؤوس، رؤوس الزعماء، وينزلوا عن أطماعهم العالية.
بعد قليل، أقول:
- من يرد أن يبرد رأسه يأتِ إليك!
(نضحك معا)
تمسك شحمة أذني باصبعيها وتلويها، وبيدها الأخرى التي بها الموسى، تأخذ تنظم الشعر، وتنتهي من الجهتين.
في هذه الأثناء يدخل رأسٌ، شعره جعدة يلقي التحية بصوت كسول، يسألها عن أحوالها ذاكرا اسمها، ويجلس.
تفتل الكرسي إلى الخلف، تلوي رأسي، وتضعه فوق مغسلة، تحت دش صغير، تلوي الأذنين إلى أسفل، كل مرة أخاف أن يدخل الماء إليهما، وأنا أسمعه وهو يخر فيهما في الصميم.
تعيد الكرسي، وتنثني هي، أنظر أنا في المرآة أراني كطائر مبلول، تأخذ تجفف الشعر بفرد الهواء، وتملسه، وتمشطه، وتسلكه، وتصففه وأنا ساكت.
أنظر،إليَّ، فتسر نفسي.
تقول،كأنها تلخص الأمر:
- ماذا أقول لك يا علي، تمر على الواحد أحداث كثيرة،بعضها يعلق في الذاكرة، وبعضها يذهب، كمياه الأنهر، تحمل الكثير من الأشياء، بعضها يعلق على جوانب الضفاف، أو ينزل الى القاع، أو يذهب إلى بحر النسيان.
 أستغرب أنا كيف تتكلم هي بهذا المستوى أقول:
- تعرفين يا روت، ما يبقى ذكراه في القاع هو المهم.
- صحيح.
ولأمر ما تقوم بعمل إضافي،تسكب على يدها عطراً ،وتمسح بيديها العطر على وجهي، وتقول:
- هذا من أجلك!
كانت يداها دافئتين، ووجهي دافئا فذاب عطر تحت سخونة الملمس، وسال، أتتني رائحة عطر داهمة، متكبرة، ترفعني وتدخلني للحظة غابة صنوبر مخملية الظلال، توقظ ثيران تحن شهيتها الى مراع.
تنتهي مني بضربة خفيفة على الكتف، وتقول:
- هذا هو.
أنزِلُ عن "العرش"، ينهض الرأس الجالس، يهيئ نفسه للصعود،أبدأ أرتب نفسي أمام مرآة كبيرة، جانبية، وأزيل ما علق بي من شعراتي التي تتشبث بي، ولا تريد أن تفارقني.
تقول، وأنا أناولها الذي به النصيب من الشواقل،وبصعوبة تقبلها:
- متى نراك المرة القادمة؟
- عندما يطول شعري!
وأنا أفتح الباب تقول:
- سلّم على نهريا،
لم أجبها، اكتفي بابتسامتي،والنظر الى غمزتها.
خرجت،وتركتُ شعري المقصوص خلفي على أرض بئر السبع.

(كفر ياسيف)

خالد علي
الجمعة 6/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع