بين كلمة الإيمان والإيمان بالكلمة كانت رحلتي مع كتاب من "وحي الساعة" لسيادة المطران بطرس المعلم، ومعرفتي به في اللقاء الوحيد في الناصرة في ندوة لمجمع اللغة العربية كخطيب، حيث دخلت قلبي كلماته وطريقته الخاصة في الكلام بحرارة تشحن الكلمة بطاقة المعنى النابعة من القلب والروح المؤمنة، ذكرتني بكبار اللغوين والأدباء الذين أعادوا إلى اللغة والأدب جلالهما ورونقهما بعد ركود، هذه الروح الحميمة قلّ ما نجدها عند أي خطيب في أيامنا، بل يتمناها كل من وقف على منبر...
خلال قراءة كتاب "من وحي الساعة" لمست ذلك السر وراء "الخيط الرفيع" الذي يحبك روح تلك المقالات المبعثرة زمنيا في الكتاب. إنه الإيمان بقوة الكلمة وكلمة الإيمان الحق... الكلمة حبكة حروف لو فككناها فلا معنى لها، نصوغها كرمز يعبر عمّا في نفوسنا بأبعادها ودلالاتها، فصرخة الناصري على الصليب "أنا عطشان" تتخطى في نفوسنا عطش الجسد، فكم من عطاش وجياع ومتألمين فوق صليب حياتهم، أنا عطشان، كلمة قالها من صلب جسد يتألم ويعطش من أجلنا، من أجل الحق، من محبته لنا، والمحب يتفانى في حبه لمن يحب... وحواره مع السامرية يكشف ينبوع ماء الحياة الذي من يشرب منه لا يعطش أبدا... العطش هو عطش الروح الذي هو أعظم من عطش الجسد... والكلمة هي الذات، الأنا والجماعة، وهي الإنسان أينما كان، وهي تجسّد الذات الإلهية، "في البدء كان الكلمة"، وتجسد روح الله في خلقه، الإنسان الذي هو أجمل وأروع ما في الوجود، الإنسان الذي صاغه على صورته ومثاله...
عرف سيادة المطران ما للكلمة من قوة فقال كلمته واضحة جلية دون مواربة، قوية جريئة، ثائرا على شعائر الزيف عند المرائين، يرفع سوط الكلمة معنفا حينا وواعظا مترفقا في آخر، هاديا بمصباح نور الحق الإلهي يسوع المسيح الذي هو لكل الناس ولكل الشعوب... يطلب التقارب والتعاضد بين جميع الديانات نابذا العصبية العمياء والتفرقة القاتلة. عرف سيادة المطران جيدا كلمة الإيمان الذي يملأ قلبه مستوحاة من الإله الحق. بقوة الإيمان قال وكتب. لم يكتب عن تخيلات وغيبيات وفلسفات في طاحون الكلمات! إنما جاءت كتابته عن الإنسان، الكلمة السامية في هذا الوجود، بكل تفاصيل الحياة صغيرة أو كبيرة كما استوحاها في ساعات مقالاته على مدار سنة، خلالها كانت البشرية تذكر الله، كل طائفة أو فئة أو شعب، وكل فرد، كل حسب عقيدته، يطلبون الحق، يطلبون السلام يطلبون السعادة وغير ذلك من التمنيات لحياة هانئة، لكن الواقع يقول غير ذلك وتجري الرياح على عكس ما تمنت السفن... الحق هو كلمة الله الحق ومحبته، المحبة هي الصدق في المحبة والعمل بها... فمن كان صادقا فكرا وعملا عرف المحبة الحق في الحضرة الإلهية...
لست ممن يلخصون الكتب بصفحات قليلة، فإني أرى في مثل هذا العمل مسخا للأصل بل قتلا لجسد كتاب وبترا لأعضائه... فالنص هو النص في أصله، وعلى القارئ أن يتمتع وينهل من ماء النبع، إنما ما أكتبه هو الانطباع المؤثر مما قرأت، فرحلتي في عباب هذا البحر كانت رحلة واسعة عالمية في شؤون الحياة، من الطفولة وسعادة أطفالنا وتعليمهم، إلى العولمة وجه الاستعمار الجديد وكابوسها الراسخ على قلوب الشعوب المستضعفة. نحن الشرقيون وما نحن عليه من مفاهيم بالية قديمة وركود، وهم في الغرب وما أنجزوه بفضل ما تخطوا تلك القيود... وهنا يبرز جليا حرارة الطلب عند الكاتب للعلم والمعرفة وانتفاضة عقلانية روحية من الداخل عند الفرد قبل أن يتهم الآخر بما سبب له من جور وظلم... فإذا عرفنا ما نريد وعملنا من أجله وصلنا مبتغانا، ولا نقف متقاعسين ونقول من "يدحرج لنا الحجر"؟... "المهم أن نبادر نتحرك نعمل ونسير في هذا الاتجاه واثقين بأن الحجر سيتدحرج!".. والجنّة على الأرض وهي لنا وحقنا في الحياة نصنعها بأيدينا... علينا أن "نطلق العقل من عقاله، فالعقل أشرف هبات الله للإنسان"... ما أروع هذا الكلام يا سيادة المطران!.. "العالم يعج بفقراء المادة والروح، أسرى السجون والكبت، بعميان البصر والبصيرة، وبمهشمي القلوب والعقول"، بمثل هذا القول المكثف الرائع يختصر سيادته ما يريد قوله ثم يعود ويشرحه مفصلا فيما بعد. ويرفع صوت الكلمة الحق صوت الإيمان يتصدى لكل عات جبار "لا يحلّ لك"!.. قبل أن يرفع السوط في وجه تجار الدين والظالمين..
الزهو والكبرياء آفة الأفراد ومنها آفة الفئات والشعوب إلى التزمت والاستعلاء العرقي حتى النازية وامتدادها في عصرنا... هذه "الأنا" التي يلهث صاحبها راكضا وراءها، وإن حصل على بعض مبتغاه يدخل في متاهات زهوّه بخيلاء فهو الأفضل وفوق الجميع... لم يقف سيادته عند الفرد وزهوه واعظا بل تخطاه إلى التعميم إلى العالمية مشيرا إلى مآسي العصر المؤلمة من مجازر وحروب ارتكبتها النازية باسم مبدأ الزهو هذا وما له من إسقاطات ما تزال... فهل هذا وغيره مما شابهه مقال اجتماعي أو سياسي؟ نعم ولا. فيه كثير من المفهوم المألوف اجتماعيا وسياسيا، لكنه مقال كلمة الإيمان الحق بكلمة "نور العالم"، كلمة التواضع والمحبة ونبذ الكراهية والكبرياء...
كتاب زاخر يعالج هموم الحياة الشخصية الفردية والجماعية شعوبا وديانات، فهو لكل فرد لكل جيل، للبشر جميعا، للإنسان أينما وجد، يتحقق فيه الإيمان بالكلمة الصادقة البناءة المثمرة، الداخلة على القلوب، وذلك بقوة وحي الإيمان الذي يملأ قلب صاحب الكتاب، الإيمان بطريق مخلص العالم القائل: "الله روح وبالروح الحق يجب أن يعبد"... فيه فكر يتطلب منا وقفة تأملية جدية لشؤون الحياة، مقاطع تطلب كتبا لاستيعابها في أبعادها...
يميز الكتاب لغته السلسة الواضحة، فكل مقال يشد القارئ منذ البداية للاستمرار في القراءة حتى النهاية وذلك بطرح أسئلة تستفز القارئ أو إظهار التناقض في هذا الوجود والتصدي لما هو مألوف من مظاهر أو شعائر بالية يريد تخطيها إلى ما هو أفضل... لسيادة المطران ثقافة واسعة وخبرة حياتية كبيرة بالإضافة إلى الهداية بنور الإيمان الحق والانفتاح العقلاني مما أضفى ألوانا زاهية جذابة وهامة في صفحات الكتاب.
كل التقدير والشكر لسيادة المطران بطرس المعلم، سميّ صخرة الكنيسة، المعلم في هذا الكتاب، حبذا لو يسير في طريقه الكثيرون من العلمانيين ورجال الدين، لكان عالمنا بخير...
دمت سالما معطاء يا سيادة المطران وأمدّ الله في عمرك.
د. سليم مخولي *
الأثنين 2/6/2008