دَيا-مونو-لوغ:
طيف ماركس على ممرّ مشاة



كل ما في الأمر أنه وقف على طرف الشارع أمام ممرّ المشاة وراح ينتظر تبدُّل لون الشارة. الصيف يثبت بقوّة أنه سيّد المكان. لا تكفيه شمسه اللاهبة المعلقة في السماء بل يروح يمتدّ الى الجسد ليعتصر منه عرق الاعتراف بسيادته. الجسد مطواع طبعًا، فما الذي يمكنه فعله أمام سطوة الطبيعة. هناك أشخاص يرونك واقفًا عند ممرّ مشاة لا تضبط الحركة عليه شارة ضوئية، لكنهم، سيّان لو كان المطر والبرد هما ما يريانه من خلف الزجاج، أو شخص يتصبّب عرقًا، لا يكلفون أنفسهم السماح للمنتظرين بقطع الشارع.  أما تلك القلة القليلة التي تتمهّل وتتوقف فتستحق تحيّة في كلّ مرة على سعة الصدر ونبل النفس منها. هذا مع أن سلوكها هو ما يُفترض أنه العاديّ. ولكن نظرًا لاشتداد ندرة هؤلاء الأخيرين، تجدر تحية هؤلاء بحركة سريعة ممتنّة باليد، أو بهزة خفيفة للرأس خلال قطع الشارع. هذه الايماءات الصغيرة بين غرباء تصبّ نقطة من رهافة في غابة البشر، وقد تحفظ هذا الصنف الطيّب من الإنقراض.
خسارة أن الحيوانات تنقرض، وأن الغابات تغيب. هناك أجناس كاملة تموت بسرعة رهيبة. نمور وذئاب نادرة لم يعد منها سوى بضعة أفراد في حديقة حيوان، طيور تُسحق أشجار موطن أعشاشها بنهم "إنسانيّ" منفّر، وأحياء بحريّة تلاحقها بإتقان مؤثّر بقع بشعة من التلويث السّام على مدار الساعة. بالمقابل، تتسع غابة البشر؛ تلك التي لا يوجد فيها شيء من أخلاقيات الغابة الطبيعية. في هذه الأخيرة هناك أخلاقيات بالفطرة، دون استعراض ودون تبجّح. فيها صراع بقاء، هذا صحيح، نعم، لكن لا يوجد داخلها قتل مجاني، ولا استغلال دون مبرّر. أما في غابة البشر فالصراع ليس على البقاء فقط، بل على الفتك بالآخرين أيضًا. إن تبعات خوف الحيوان الغريزي أقلّ خطورة بمليون مرة منها في قلق البشريّ المحسوب بذكاء تخطيطي بارع. من حيث عدد ضحايا الخوف والقلق على الأقل.
لا يطيق الماركسي هذا الكلام التعميمي طبعًا، فيُقاطع قائلا: مهلا مهلا، ماذا جرى لك، الغالبية مسكينة، والمستغلون قلة.
صحيح ما تقول. ولكنك أنت من يؤمن بأن الاستغلال ينتج وعيًا زائفًا، وينتج آليّاته، أيضًا، عبر انتاج الوعي الزائف. الوعي الزائف زائف من حيث مضمونه، كلانا متّفقان، لكنه قائم فعلا بل يتفشى باستمرار كظاهرة صارت تشكل بنفسها مضمونًا: فظاهرة الوعي الزائف المتفشّي، وليس فكرة الوعي الزائف فقط، باتت مشكلة بذاتها. تذكّر أنك تسير على خطى أحد آباء علم الاجتماع، وتنبّه الى أن الإصرار على الإفحام الايديولوجي لا ينتج حتى كسرة خبز جافة واحدة.
نعم، هناك ضحايا وهناك مسؤولون عن هذا، لكن في النتيجة، في مستوى الموجود، الجميع متشابهون. حسنًا، الغالبية فقط.. هناك جشعون متعطّشون لالتهام دول وشعوب، وهناك جشعون متعطشون للفتك بشخص أو اثنين. هناك من يخدع ملايين الناس ومن ينهش وعي حشود عظيمة، وهناك من يخدع بضعة أشخاص حوله، هم من يقاربهم في العادة. هناك فرق في مدى البشاعة، نعم. للنسبيّة مقامها واحترامها. لكن الدافع الاستغلالي كامن. بل بات عنصرًا مكوّنًا ليس لدى قروش الاستغلال فقط. ربما أن بعض أولئك الذين لا يهمهم المنتظرون قرب ممر المشاة، قد يرون شخصًا ممددًا قرب الشارع فيواصلون طريقهم دونما اكتراث. وربما أن هناك مشاة مثلهم أيضًا.
هناك أثرياء وأقوياء يعرفون جيدًا عدد الأطفال الذين يموتون يوميًا من الجوع والمرض، لكنهم يواصلون طريق الفتك دونما اكتراث. فيا حضرة الماركسي، مع كامل الاحترام لإصرارك على حفظ الفروق في معادلتها الجدلية التي مات ملايين منذها ولم تتضح، بل انغلقت كآخر معادلات الرياضيات المستعصية، أليس من الممكن أنك أنت أيضًا في حياتك الشخصية لا تكترث بشخص ممدّد قرب الشارع؟ يؤسفني القول لك إنني أعرف عددًا من هؤلاء الماركسيين وما يماثلهم بل يفوقهم من ليبراليين ووطنيين وقوميين وانصار بيئة ورفق بالحيوان وكل ما شئت من ألقاب. هل أسرفتُ في التطاول الوقح؟ ربما.. ولكن ما رأيك لو تتعامل بنقديّة بنّاءة مع الوقاحة أيضًا، خصوصًا أنها غير شخصية، بل بوصفها ناجمة عن سببٍ بلا شك، ولا تعُد للقول لي "ولكن هناك فرق يا رفيق".. أعرف أن هناك فرقًا في التشخيص لكن النتيجة في النهاية متعادلة في الحالتين، يا رفيق. ثم إنه سيكون من السّخف مواصلة الكذب على الذات. ألم تكن أنت من قال لنا إن الوعي الزائف هو أحد العراقيل في وجه التقدم الى الغد؟ (تذكرُ ذلك الغد الحلميّ بالتأكيد..)، فكيف تُبقي على الوعي الزائف يعشّش فيك؟ أخرُج من النص، أغلق كتابك قليلا، ضع المقال جانبًا، إطو الصحيفة الحزبية الآن، مُدّ نظرك للخارج وتمعّن، ثم عُد للنصّ وقِسْ.
يؤسفني أن من يحضرني الآن هو ذلك المقيت عليك وعليّ، توماس هوبس. أليس من المعقول أن هناك حاجة في مستبدّ عاقل كما زعم؟ هل نجلس ونبتهل معًا لقدوم "الحوت" يا رفيق؟!
دعكَ، لنتّفق أنني أسخر، ليس أكثر. فليس فقط أنه لا يمكن للمستبدّ أن يكون عاقلا، بل إن العاقل (وتعال ننصاع للحظة لسطوة المنطق العقليّ) هو ذلك الذي لا يمكن أن يتحوّل، مهما صار، الى مستبدّ. لأن ثنائية "مستبدّ- عاقل"، هي تناقض غير قابل للتحقق، هي استحالة.
حسنًا حسنًا، ستقول إنه يجب تغيير علاقات الانتاج، ولكن كيف سنبدأ؟ تفضّل واقنعْ من ينهشه الاستغلال غير المرئيّ بأن لا يستغلّ زميله، ومرؤوسيه القلائل على الأقلّ، والانضمام للثورة (أتذكرها)! أين سنغيّر علاقات الإنتاج، فوق أم تحت؟ هل لديك مخطط لثورة في هذا الشأن؟ ومن أين ستبدأ، أفي برلمان أم في حيّ أم من جبهات المقاومات؟ ثم أنه هل سيتحتّم علينا تغيير الواقع حتى نغيّر الأخلاقيات، أم العكس؟ أنت محقّ، الواقع يصوغنا، يرسم مصائرنا، ولكن كيف ستغيّر واقعًا تراكم كالكارسْت المتشابك نزولا وصعودًا على امتداد وقت هائل في طوله وكثافة ما يتفاعل فيه، طالما أنك لا تسيطر عليه؟ وحين تسيطر، ألن تتصرّف ربما مثل السيد ستالين؟ ما الذي يضمن لنا ذلك؟
مهلا، سأتراجع.. لربما أن ستالين أراد الخير فعلا، بل كل ما حاول فعله هو تطبيق الوسائل المطلوبة للوصول الى غاية الغد المنير إيّاه. ولكن ماذا لو افترضنا أنه أخطأ مثلا.. أهذا مستحيل أيضًا؟ ألا يحق لي التخوّف من أنك أنت أيضًا قد تفشل لو نلت الفرصة. من المؤسف أنه لا يمكنني الاعتماد على صحة الفكرة لأتيقّن من أن تحريكها في الواقع لن يوصلني الى شاطئ مليء بأسماك القرش الجائعة. ولا أقصد هنا الاشارة بشيء الى أن القرش شرير، لكنه هو بالضبط ما يلائم استعاريّة فكرتك عن الواقع الموضوعي. فالقرش واقع موضوعي حسب تعريفك أنت للموضوعي. إنه لن يتقبّل أي منشور منك، بل سيفترسك دون أيّ شعور بالذنب. وبالمناسبة، هل فكرت مرة بتلك المعضلة المتمثّلة في أنك أنت من يقرّر ما هو الموضوعي؟
تمهّل، الموضوعي منطقيًا هو ما لا يتعلّق بذوات البشر، فكيف لذوات أن تحكم على شيء وتقرّر أنه موضوعي؟ ألا تقوم عمليا هنا بإطلاق حكم من قلب ذاتك لا يمتّ للموضوعية بصلة؟
أتريد سماع هذا الاقتراح: لا يوجد موضوعي. لأن الموضوعي هو ما لا تسري عليه أحكام الذات. ولكن كل ما نعرفه جرى مسبقًا حكم الذات عليه بالضرورة، بالفعل أو بالفكر (وهما واحد إذا فاتك هذا – راجع ماركس). أما ما لم يسرِ عليه حكم الذات فهو فعليًا ما لم نعرفه بعد. وما لا نعرفه ليس موجودًا في النهاية، لا ذاتيًا ولا موضوعيًا. الموضوعي هو ما لا نعرفه. فدعكَ من الموضوعي إذن.
بحذر شديد أريد قول شيء آخر لك: أنت ماركسي، أي أنك تعلن ملكية فكرية على ما قاله ماركس. ولكن أليس هناك احتمال، مهما بلغت ضآلته، في أنك لم تفهم ماركس حقًا أو أنك أخطأت في تفسيره. هل كل ما قررته في اجتماع الخلية والفرع والمنطقة واللجنة المركزية وحتى المكتب السياسي كان ماركسيًا حقًا؟ ثم من هو الماركسي، أنت أم من عارضك في اجتماع الخلية أو الفرع أو المنطقة أو اللجنة المركزية أو المكتب السياسي؟ أنا متأكد أنك ستقول: أنا هو الماركسي. فهل رفيقك غير ماركسيّ إذًا؟ ما هذا الرفيق، يا رفيق! أتعلم، لربما أنه من غير المنطق القول إن هناك ماركسيين أصلا، وكأنهم أتباع متشابهون لأفكار هدفها أبعد ما يكون عن خلق متشابهين عديمي الملامح. أليس في الماركسية متسع للاختلاف؟ تخيّل العكس! يا للإهانة التي سنُلحقها حينذاك بهذا الفكر..
هناك ماركس، وهو نفسه غير ماركسي. لا يعني هذا أن غيرَك فهمه أكثر منك، لا، أبدًا، ولكن كيف تبقي على التمسّك بنصّ كُتب منذ أكثر من قرن، مرّت بعده أحداث وتفاعلت تطوّرات هائلة غيّرت وجه العالم مرارًا، وتظلّ تدعي أن هذا هو طريقك لتغيير العالم. فأنت تريد، استنادًا الى ما فكّر فيه شخص جليل، تغيير عالم تغيّر بما لم يعد من الممكن مقارنته به منذ كتبَ ما كتب، من دون أن تقاربه بأيّ من أدوات التأويل واعادة النظر والقراءة والنقد، وحتى الرفض لو اقتضى الحال (إقرأ: الواقع). لا أخفي عليك، أظن أن ماركس سينزعج لو عرف أن هذا هو ما أخذته عنه وبهذا الشكل. وقد يلوي شفتيه قائلا عنك: ما لهذا الغيبيّ ولي؟
هل بالغت قليلا؟ ربما. ربما لأنني فقدت المعنى، كي أعود لأعثر عليه متخففًا من الكثير من العوالق.
أتخيّل جوابك لي، ستقول: أنت عدميّ، فوضويّ، غير ثوريّ وعبثيّ. لا بأس، معك حق في أنني متشكّكٌ بعض الشيء. هذا لأن الشكّ ليس غرضًا يمكن إخفاؤه في الخزانة ومن ثمّ متابعة شؤونك اليومية. لكني آمل أن تتروّى قليلا، فلا تسارع للاعتقاد أنك محقّ في كل شيء، وأنني بالتالي مخطئ في كل شيء، لمجرّد أني اعترف أمامك باهتزاز بعض المسلّمات. ولاحظْ أنني أتفق معك في شيء واحد على الأقلّ، ولهذا لن يكون من المنطقيّ نعتي بالخطأ فيما أنا أتفق معك عليه.
هل بالغنا حين وضعنا كل هذا العبء على الماركسي لمجرّد وجود بشر لا يهمهم شخصًا واقفًا عند ممر مشاة، أو آخر ممددًا على طرف الشارع بلا حراك؟ ربما أن هناك بعض التجنّي حقًا. ولكن من الذي يمكن لومه غير الماركسيّ؟ هل ذلك الذي يقول لك منذ البداية: كن لنفسك وافتكْ ما استطعت واربحْ ما تطاله يدك لأن السوق يجب أن تكون حرّة؟ لا يمكن. فسيكون من السّخف أصلا مطالبة شخص بالمسؤولية عما يقرّ لك به منذ البداية على أنه يجسّد دينه وديدنه. أم نلوم التديّن مثلا؟ هذا هراء. لأن مالكيه يقولون لك مسبقًا وبخشوع شديد إنه لا حلّ لدينا، بل هناك مصائر بيد السماء. فكيف تلوم من يخبرك بتنصّله مسبقًا؟ أم تريد أن نلوم المثقفين؟ ها! مع كل ما تيسّر من احترام، ما الذي يمكن انتظاره من بعض كبير بين هؤلاء الأنانيين الوضيعين، ممّن لا تغادر المرآة عينيّ أحدهم بغية التأكّد دومًا من أن صورة نركيسيوس المتراقصة كقمر في ماء الوهم، هي صورته الخاصة حصريًا ويحق له حتى تثبيتها على جواز سفره الشخصي؟
عذرًا أيها الماركسي، لومك هو الامكانية الوحيدة. وهذا مديح. فأنت من اختار عبء الادّعاء بحَمل حِملٍ هائل مفاده تغيير العالم. بالمناسبة لا يزال يتردّد كلام عن "النظرية العلمية"، فهل تعلم كم من العلماء عاكفٌ الآن على تطوير قاذفة وقنبلة يحلم لو أنها تكون الأقدر على تحقيق أعظم دمار ممكن؟ هل انتبهت الى مدى قصورات العلم؟ لذا، دعكَ من هذه القداسة العلميّة أيضًا. هناك مدارك وأفكار حكيمة كامنة في آخر ما تتوقعه، وحتى في ما جرت العادة على اعتباره جزءًا من "العقل الزائف".
لا تفهم أنني أختتم النقاش هنا. لنقل إن هذا مجرّد قلب مشاغب لطاولة مغبّرة بما عليها. ليس حبًا في التخريب، طبعًا، ولا استقدامًا للعدَسات والقنوات، كما بات يفعل بعض أحفاد ابتكار ديمتروف، بل مللا من مواصلة ذلك التثاؤب اليقيني قرب غبار الطاولة فيما كل شيء يترهّل عليها ويتثاقل ويفقد معناه ويتساقط عنها.
..أخيرًا تغيّر لون الشارة، ولكن تُبًا.. هناك سائق غَرٌّ وقح لا ينصاع حتى للون الأحمر لدرجة أنه كاد يدهسني.
هل تريد أن نتحدّث عن هذا الصنف من البشر أيضًا يا رفيق؟ لنؤجل هذا، الآن على الأقلّ.

هشام نفاع
السبت 31/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع