الخلفية الحقيقية للمآسي الانسانية في ظل العولمة الرأسمالية



عندما انهار وتفكك الاتحاد السوفييتي وانظمة النمط السوفييتي الاشتراكي في بلدان اوروبا الشرقية ادعى منظر النيولبرالية الجديدة فوكوياما ان ما حدث يثبت نهاية العالم، بمعنى ان الرأسمالية هي الخيار الوحيد للبشرية، التي تستطيع ان تتكيّف مع ازماتها لضمان الامن والاستقرار والسلم العالمي!! لقد مضى حوالي عقدين على الزلزال المدمر في اوروبا الشرقية، وقد عكس مسار التطور خلال هذه الفترة ثلاث حقائق ساطعة كالشمس ومترابطة فيما بينها جدليا. الحقيقة الاولى، ان غياب "موازنة الرعب" مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه قد شحذ اكثر الانياب الوحشية المفترسة للعولمة الرأسمالية واستغلت الامبريالية الامريكية بشكل انتهازي وضعها المؤقت كقطب اوحد لممارسة البلطجة العدوانية كونيا ولاقامة نظام عالمي جديد بزعامتها ويخدم مصالحها ومصالح احتكاراتها عابرة القارات ومتعددة الجنسيات! والحقيقة الثانية، انه في ظل هيمنة العولمة الرأسمالية اضحى عالمنا اقل استقرارا وامنا وسلاما ويعاني ضحايا العولمة، شعوبا وبلدانا وقارات بأكملها مآسي انسانية، يعانون من الفقر والمجاعة والتخلف الاقتصادي والثقافي. والحقيقة الثالثة، ان معطيات التطور تعكس حقيقة انه لا يمكن ان تكون الرأسمالية الخيار النهائي للبشرية، فغياب العدالة الاجتماعية وانتشار ظواهر التمييز القومي والعنصري والتمييز ضد المرأة وانتشار ظواهر الفساد الاجتماعي مثل مختلف فروع الاجرام المنظم وغير المنظم، انتشار المخدرات واعمال الاغتصاب والسرقات والرشى وعلاقة الفساد والرذيلة بين السلطة والرأسمال وغير ذلك، تعكس حقيقة ان الرأسمالية ليست النظام الذي يوفر السعادة والمساواة والتطور الخلاق لجميع افراد المجتمع، اضافة الى حقيقة ان الرأسمالية اعجز من القضاء على ازماتها التي تنشأ في رحم جوهرها وطابعها. فما دام هنالك تمييز طبقي وقومي على النطاق "المحلي الوطني" او العالمي فان مقولة وقانون كارل ماركس حول الصراع الطبقي كدينامو التطور يثبت اليوم، واكثر من أي وقت مضى مصداقيته في المعركة ضد جرائم العولمة الرأسمالية، وخاصة العولمة الامبريالية الامريكية التي تمارس عولمة ارهاب الدولة الامريكية المنظم.
من المآسي الكثيرة، التي لا تعد ولا تحصى، في ظل الطابع الهمجي للعولمة الرأسمالية سأقتصر الحديث في سياق معالجة اليوم على ظاهرتين مأساويتين يعكس مدلولها مدى رذالة الجرائم التي ترتكبها ديناصورات الدول والمحاور والتكتلات الامبريالية بحق الشعوب في البلدان النامية ضعيفة التطور الاقتصادي، سأقتصر الحديث على الارتفاع الجنوني في اسعار النفط والاغذية. فقبل ست سنوات كان سعر برميل النفط الواحد في السوق العالمية يتراوح بين ستة عشر دولارا الى ستة وعشرين دولارا. في الاسبوع الماضي وصل سعر برميل النفط الواحد الى اعلى مستوى له على مر العصور، وصل الى مئة وخمسة وثلاثين دولارا، ثمن البرميل الواحد، أي ان السعر ارتفع خلال الفترة الزمنية القصيرة نسبيا بحوالي اثنتي عشرة مرة. وهنالك عوامل عدة لهذا الارتفاع الكبير ومنفلت العقال في سعر النفط. وبرأينا ان الاستراتيجية الامبريالية بسياستها الخارجية الممارسة في عهد حكم اليمين المحافظ برئاسة جورج دبليو بوش وغيره من ممثلي الطغمة المالية الامريكية الناشطة في مجال النفط والسلاح تتحمل القسط الاكبر من المسؤولية في ارتفاع السعر التسويقي للنفط بمعدلات عالية جدا. فمن البديهيات المعروفة ان المخزون الاحتياطي العالمي من النفط كميته محدودة، وسيأتي يوم، بعد عشرين – ثلاثين سنة او ربما اكثر قليلا سينفد هذا المخزون وتجف مصادره، ففي العقد الاخير شحت مصادر النفط في "بحر الشمال" وفي الولايات المتحدة الامريكية، وايجاد طاقة بديلة للنفط لا تزال محدودة وغالية التكاليف: فالنفط لا يزال الشريان الاساسي للتطور الاقتصادي المدني والعسكري والعلمي.
وعمليا فان "الجوع" الى النفط والهيمنة على مصادره لا يزال بندا اساسيا على اجندة الصراع بين المحاور الامبريالية وحيتان الدول الرأسمالية. وعندما بدأ اليمين المحافظ في "البيت الابيض" برئاسة بوش الابن بممارسة "الاستراتيجية الجديدة" بعد التفجيرات الارهابية في ايلول الفين وواحد في نيويورك واشنطن تحت ستار "الحرب الكونية ضد الارهاب" فان السيطرة المباشرة على مصادر النفط كانت القضية المركزية في اطار استراتيجية عولمة ارهاب الدولة الامريكية المنظم، وكانت الدافع الاساسي للحروب العدوانية واحتلال افغانستان لوضع قدم امريكية على شاطئ بحر قزوين الغني بالنفط واحتلال العراق الذي تختزن اراضيه ثاني اكبر احتياطي للبترول بعد العربية السعودية في الشرق الاوسط. فهذه الاحتلالات الامبريالية ادت الى تخفيض انتاج النفط العراقي بنسبة 45% (السنة الماضية)، كما ان لجوء الدوائر الامبريالية الى تفجير الحروب القبلية والاثنية والسياسية في نيجيريا والسودان في منطقة دارفور الغنية بالنفط وغيرها قد ادى الى تخفيض العرض الطلب مما ادى الى زيادة اسعار النفط (حسب قانون العرض والطلب). والحقيقة الاخرى ان اكثر من سبعين في المئة من كمية النفط المتداولة في السوق يجري التعامل معها بالدولار كعملة ونقد عالمي. وانخفاض سعر صرف الدولار (السعر التبادلي بالنسبة للعملة الاجنبية الاخرى) بسبب مظاهر الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة وتعمق ازمة البنوك التسليفية العقارية، ادى الى ارتفاع سعر برميل النفط، وكلما انخفض سعر صرف الدولار بشكل طردي مواز له يرتفع سعر برميل النفط. وصحيح القول ان الدول المصدّرة للنفط تربح اكثر من عائدات ارتفاع سعر برميل النفط، ولكن الحقيقة ان الرابح الاكبر هي شركات النفط الاحتكارية وبنوك التوظيف الامريكية والاوروبية، فأنظمة الخليج بدلا من استثمار وتوظيف هذه العائدات في مجال التنمية الاقتصادية وبناء اقتصاد عصري متعدد الجوانب ومربوط بانجازات الثورة العلمية التقنية الحديثة فانها توظف هذه الرساميل في البنوك التسليفية الاجنبية التي تساعد امريكا وغيرها على مواجهة الانكماش الاقتصادي. كما ان تخفيض سعر صرف الدولار يساعد على جذب استثمارات اوروبية ويابانية للتوظيف في الولايات المتحدة الامريكية وانعاش حالة الميزان التجاري الامريكي. ولكن في نهاية المطاف فان تدهور سعر الدولار يفقده تدريجيا دوره كنقد عالمي ونائب الذهب في التخزين الاحتياطي في البنوك المركزية وفي التداول والمعاملات التجارية. ولهذا، فان عددا من الدول المصدرة للنفط مثل فنزويلا وايران وغيرها تعمل من اجل ان يكون "اليورو" بديلا للدولار في معاملاتها التجارية النفطية.
وفي نهاية المطاف فان المتضرر الاساسي من ارتفاع اسعار النفط هي البلدان النامية التي لا تملك هذه الطاقة وكذلك الفئات الشعبية محدودة الدخل الذي يعني رفع اسعار النفط، يؤدي الى رفع اسعار استهلاكها للكهرباء وللمواصلات ويحد من امكانيات التنمية الاقتصادية في هذه البلدان التي تعاني من الجوع النفطي.
ان بعض المعطيات الرسمية التي تنشرها الامم المتحدة تشير الى ان اكثر من ثلث سكان الكوكب الارضي يعيشون على حافة الفقر وان اكثر من ستمئة وخمسين مليون انسان، خاصة في القارة الافريقية يعانون من المجاعة، وفي اثيوبيا مئة وستة وسبعين الف طفل يعانون من سوء التغذية ويواجهون خطر الموت واكثر من سبعون في المئة من اهالي قطاع غزة يعانون من مآسي حياة تحت خط الفقر بسبب الحصار الاقتصادي التجويعي الذي يفرضه المحتل الاسرائيلي، فانتشار الفقر والمجاعة والتخلف الاقتصادي والثقافي ليست ضربات من السماء، بل نتيجة لعدم العدالة على الارض ومن صنع الانسان الذي تحول الى ذئب مفترس. فمن الظواهر البارزة في السنوات الاخيرة، ان اسعار السلع الغذائية الضرورية – الخبز والزيت والسكر والملح.. ارتفعت في السنتين الاخيرتين بمعدل اكثر من ثلاثمئة في المئة، وفي وقت لم ترتفع فيه الاجور الرسمية بأكثر من خمسة في المئة، اضافة الى غول البطالة. وتعاني الدول النامية ضعيفة التطور الاقتصادي والملايين من سكانها من ذوي المداخيل الهزيلة اكثر من غيرهم من مآسي ارتفاع اسعار الاغذية. وهنالك عدة عوامل لبروز هذه الظاهرة، ومن اهمها، التمييز الصارخ في اسعار المواد الزراعية، فالدول الرأسمالية الصناعية المتطورة اما انها تنتهج سياسة الاسواق المغلقة وتمتنع عن استيراد السلع الزراعية من الدول النامية، او انها تستوردها باسعار بخسة وهزيلة. ومنظمة التجارة العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وحيتان الدول الرأسمالية تعمل على الحد من التنمية الاقتصادية في البلدان النامية، وذلك بالعمل على ابقائها متخلفة اقتصاديا وبمثابة سوق استهلاكية للبضائع المصنعة من الدول المتطورة صناعيا وتطوير بعض الصناعات الاستخراجية والاستهلاكية.
ان تدخل الدول الامبريالية، الامريكية والفرنسية وغيرها، في تأجيج الفتن السياسية والقبلية والاثنية والطائفية، في البلدان الافريقية والآسيوية وغيرها بالاسلحة لتغذية الحروب الاجرامية، في الصومال والسودان والعراق وتشاد والجزائر واثيوبيا والعراق وافغانستان والباكستان وغيرها، قد ارهق وضع هذه البلدان اقتصاديا ومعيشيا ويهدد مستقبل وحدتها الوطنية والاقليمية.
يجب ان لا يغيب عن بالنا ولو للحظة جرائم اللصوص الاستعماريين وخدامهم في تلويث البيئة في كثير من البلدان الافريقية والآسيوية والامريكية اللاتينية، في قطع الغابات والقضاء على الثروة الحيوانية، اضافة الى ظاهرة التصحر والجفاف الذي يضاعف من المآسي الكارثية لمعيشة العديد من الشعوب والبلدان.
رغم هذه الصورة السوداوية المأساوية التي تتحمل العولمة الرأسمالية، بطابعها التمييزي الوحشي، المسؤولية عن وجودها وبروزها فإننا على ثقة تامة ومن منطلق تفاؤلنا الواعي نؤكد ان بقاء الحال من المحال، ولا مفر من تصعيد الكفاح وعلى مختلف المستويات لتهشيم انياب العولمة المفترسة واعادة الجمال للحياة على كوكبنا الارضي الجميل.

د. احمد سعد
السبت 31/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع