* أزمات * تصاعد أزمات إسرائيل الداخلية: الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، سيحفز الهجرة العكسية مقابل تدني الهجرة الداخلة، مما سيؤدي إلى تعقيدات أكبر في داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل * من أبرز هذه التعقيدات ارتفاع نسبة الحريديم بين اليهود إلى أكثر 24% خلال عشرين عاما * السعي لمواجهة الأزمات سيوجه السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني والمنطقة *
يتوقع الخبير الإسرائيلي العنصري في الشؤون الديمغرافية ورئيس معهد في جامعة حيفا، البروفيسور أرنون سوفير، أن إسرائيل ككيان سينتهي أو يتغير جذريا بعد 15 عاما، وهذا تصريح لم يأت من منطلق التقييم الموضوعي للأوضاع التي تعايشها إسرائيل، وخاصة الأزمات المستقبلية، التي قد نرى في هذه المرحلة ملامحها الأولية، بل من منطلق تحفيز إسرائيل على الإسراع في خطواتها ضد فلسطينيي 48، الذين حسب سوفير، سيصبحون أغلبية في العام 2050 في إسرائيل، وهو استنتاج لا تدعمه المعطيات والإحصائيات الملموسة.
ولكن من جهة التقييم المستقبلي لإسرائيل كدولة، نجدها حبلى بأزمات داخلية كبيرة وجدية، على مختلف الأصعد، ما يشكل عقبة أمام استمرار وجودها بالشكل الذي هي عليه الآن، وبشكل خاص من حيث طبيعة المجتمع اليهودي الإسرائيلي.
وفي هذه المعالجة نستعرض أزمات مركزية ستواجهها إسرائيل بحدة في السنوات العشرين القادمة، وذلك اعتمادا على سلسلة تقارير صادرة عن دائرة الإحصاء المركزية، وتقارير أخرى أصدرتها جمعية مختصة بالقضايا الاجتماعية، وتقارير وتقييمات دولية للاقتصاد الإسرائيلي.
فمعطيات السنوات الأخيرة المتعلقة بالهجرة اليهودية إلى إسرائيل، والهجرة العكسية من إسرائيل التي عادت لتتنامى، إضافة إلى تقارير الوكالة اليهودية ذات صلة، حددت توجها مستقبليا معينا في المجال الديمغرافي، ليضاف إلى هذا، التقارير المتعلقة بتطور الاقتصاد الإسرائيلي، والتناقضات والصراعات في داخل المجتمع الإسرائيلي.
القضية الأساسية التي تحتل حيزا كبيرا في أجندة الوكالة اليهودية، التسمية الرسمية للمؤسسة الصهيونية التي تعنى بشؤون اليهود في العالم، وكافة المعاهد المنبثقة عنها وذات الارتباط، هي مسألة الحفاظ على الغالبية اليهودية في داخل إسرائيل، وأن لا تقل نسبة اليهود في إسرائيل عن 80%، عدا عن ان تكون الكيان الذي فيه أكبر عدد لليهود، وليس بالضرورة أن تكون مأوى غالبيتهم.
أبعاد التكاثر السكاني
وخلافا لباقي المجتمعات التي تكاثرها الطبيعي هو الرافد الوحيد لزيادة عدد السكان، فإن المؤسستين الإسرائيلية والصهيونية تسعيان إلى أن تكون الهجرة اليهودية إلى إسرائيل رافدا مركزيا لزيادة عدد اليهود، وعدم السماح بتراجع نسبتهم أمام ارتفاع نسبة الولادات لدى فلسطينيي 48 بشكل خاص، إلا أن رافد الهجرة يتراجع من عام إلى آخر، ولم يعد يفي بحاجته، وهي سد الفجوة الحاصلة، من حيث النسب المئوية، بين الولادات اليهودية والعربية.
وتجري معالجة مسألة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل بشكل دوري في "الغد"، وكان آخرها في ملحق "النكبة"، ومن باب الاختصار نوجز هنا بعض المعطيات الهامة المتعلقة بقضية الهجرة.
وأبرز هذه المعطيات، أن عدد اليهود في العالم يتراجع بالمجمل، ويزداد فقط في إسرائيل، وذلك بسبب التزاوج المختلط والاندماج بأديان أخرى، فمنذ العام 1970 وحتى نهاية العام 2006 ازداد عدد اليهود في العالم بنسبة أقل من 4%، ليصبح عددهم 13,150 مليون، وفي العام 2007 ازداد عدد اليهود في إسرائيل وحدها بمائة ألف شخص، ولكن عددهم في دول العالم بالمجمل تراجع بعشرين ألفا، وبهذا يكون عدد اليهود في العالم ككل، قد ازداد في2007 بثمانين ألفا.
وكان معدل الهجرة إلى إسرائيل في سنوات التسعين من القرن الماضي، بفعل الهجرة الكبيرة من دول الاتحاد السوفييتي السابق وإثيوبيا، حوالي 100 ألف مهاجر سنويا، أما في العام 2007 فقد هبط إلى 18 ألفا، استمرارا لهبوط متواصل بوتائر عالية منذ العام 2001.
وهذا بتزامن مع اتساع ظاهرة الهجرة العكسية، بمعنى من إسرائيل، وقد سجلت أرقاما قياسية، مقارنة مع تراجع الهجرة إلى إسرائيل، فحسب تقديرات إسرائيلية يجري الحديث عن حوالي 12 ألف شخص غادروا إسرائيل في العام 2007، ليصبح ميزان الهجرة في نفس العام 6 آلاف شخص، وسنأتي هنا على مسببات الهجرة العكسية وانعكاساتها المختلفة.
يضاف إلى هذا، أن تقديرات الوكالة اليهودية تشير إلى أن مصادر الهجرة اليهودية إلى إسرائيل لم تعد قائمة عمليا، باعتبار أن 90% من اليهود في العالم، يعيشون في دول فيها مستوى معيشي أعلى من إسرائيل، وأدى الأمر إلى حد أن الوكالة اليهودية أغلقت قبل أشهر قليلة دائرة تحفيز الهجرة إلى إسرائيل.
أما في ما يتعلق بالتكاثر الطبيعي، فقد ازداد عدد السكان في إسرائيل في العام الماضي 2007، بنسبة 1,8% مقارنة عما كان عليه في العام 2006، ومساهمة الهجرة هنا كانت ضئيلة.
ولكن الأرقام الأهم بالنسبة لإسرائيل هي احصائيات الولادات، وحسب دائرة الإحصاء المركزية، فإن نسبة ولادات الفلسطينيين في إسرائيل تصل إلى 27% من مجمل الولادات، ولكن في هذا يدخل عدد ولادات الفلسطينيين في القدس المحتلة وهضبة الجولان السورية المحتلة، ومن دون هاتين المنطقتين، فإن نسبة ولادات فلسطينيي 48 هي في حدود 24% من مجمل الولادات في إسرائيل، رغم ان نسبتهم من بين مجمل سكان إسرائيل 17%.
وحسب احصائيات نفس الدائرة، فإن معدل الولادات للأم الفلسطينية في إسرائيل 3,4 ولادة، بينما للأم اليهودية ارتفع في العام الماضي 2007 إلى معدل 2,6 ولادة، بعد أن كان 2,4 ولادة في السنوات الأخيرة.
أزمة تزايد الحريديم
وإذا كنا نرى معدل الولادة لدى الأم اليهودية ككل، فإن هذه النظرة مختلفة في داخل المؤسسة الإسرائيلية، فهي تقرأ معطيات أكثر دقة، وبشكل خاص مصدر هذه الولادات بين الشرائح المختلفة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وهناك اختلافات واضحة وكبيرة.
وتشير دراسات إلى أن معدل الولادة للأم اليهودية من أصل أوروبي، ومن شرائح اقتصادية اجتماعية قوية، تتراوح ما بين 1,5 ولادة وحتى أقل من ولادتين، ولكن الزيادة لدى اليهود تتحقق حين نعلم أن معدل الولادة لدى النساء المتدينات الأصوليات (الحريديم) تصل إلى ثماني ولادات، لنجد نسبة جدية من هذه العائلات مع أكثر من 10 أبناء.
وفي المرتبة الثانية يأتي جمهور المتدينين المنتمين للحركة الصهيونية، وهم بغالبيتهم الساحقة جدا من جمهور اليميني العنصري المتشدد حيث تجد معدل الولادات لدى نسائهم من 5 إلى 6 ولادات، وغالبيتهم الساحقة تعيش في مستوطنات الضفة والقدس.
وهذه معطيات تشكل مصدر قلق بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، لأنها ترسم طبيعة المجتمع اليهودي الإسرائيلي في السنوات القادمة، فإذا كان يجري الحديث اليوم عن نسبة الحريديم من مجمل اليهود في إسرائيل حوالي 10% وربما أكثر بقليل (هناك دراسة تتحدث عن نسبة 15%)، فمعطيات الولادة التي أمامنا تؤكد ارتفاع نسبتهم بوتيرة عالية جدا في السنوات القادمة ليصبح وزنهم السياسي والاجتماعي أكبر مما هو عليه اليوم، وهناك تقديرات بأن تصبح نسبتهم بعد 20 عاما أكثر من 24%، وتزايدهم يعتمد على التكاثر الطبيعي بالأساس.
وهنا يجدر التوقف لتوضيح مسألة مهمة تتعلق بالحريديم، فهؤلاء يعيشون ضمن مجتمعات مغلقة ومنغلقة عن المجتمع العلماني، وحتى الديني الليبرالي، والأهم أنهم لا يعتبرون أنفسهم جزءا من الحركة الصهيونية التي يهاجمونها، لأنهم من حيث المبدأ يرفضون فكرة قيام "مملكة إسرائيل" قبل مجيء المسيح لأول مرة إلى العالم.
ولكن بعد قيام إسرائيل انقسموا إلى مجموعات واتجاهات، فبقيت مجموعات كبيرة جدا، غالبيتها تعيش في الولايات المتحدة، ترفض فكرة الكيان الإسرائيلي الحالي، ومن بينهم تخرج حركة "ناطوري كارتا" التي ينتشر اسمها في وسائل الإعلام العربية.
وفي المقابل هناك مجموعات كبيرة جدا في إسرائيل، (غالبية الحريديم) قبلت بإسرائيل ككيان مؤقت، وتشارك في المؤسسة وانتخاباتها بدرجات متفاوتة.
أما اليهود المتدينون المتشددون (شرائعهم الدينية أكثر ليبرالية من الحريديم) فقد انضموا للحركة الصهيونية، وهم متمسكون بشعار: "ارض إسرائيل الكاملة".
إن مصدر القلق في إسرائيل من ازدياد نسبة الحريديم، لا يكمن فقط في مسألة تراجع علمانية المجتمع اليهودي في إسرائيل، الذي منذ بدايات وجوده، تحكمه قوانين تعتمد الشرائع اليهودية المتزمتة وتتحكم بحركته وطبيعة حياته اليومية، مثل قوانين الحلال والزواج، ومنع المواصلات العامة أيام السبت وغيرها الكثير.
وإنما لأن مجتمع "الحريديم" هو أيضا مجتمع غير منتج وغير متنوع في استهلاكه، وفيه نسبة المشاركة في سوق العمل تقل عن 40%، في حين أن هذا المعدل يرتفع لدى اليهود العلمانيين إلى أكثر من 60%، بينما المعدل العام للمشاركة في سوق العمل في إسرائيل يهبط إلى 56%، وهذا المعدل الذي يحذر منه صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ليس فقط بسبب الحريديم، وإنما أيضا بسبب ان فلسطينيات 48 محرومات عمليا من فرص العمل، بفعل حرمان البلدات العربية من أماكن عمل ومناطق صناعية.
وهذا إلى جانب أن مجتمع الحريديم في معظمه محسوب على الشرائح الفقيرة، كونه لا يعمل ويتعمد على المخصصات الاجتماعية، وتلك التي توزعها الطوائف المختلفة من بين الحريديم، وهذا نمط حياة منتشر.
وغالبا ما نقرأ في إسرائيل عن أن تزايد عدد الشبان الحريديم، الذين لا يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي، بموجب قانون الخدمة الإجبارية، كونهم معفيين لأنهم متدينون أصوليون، يزيد العبء العسكري على جمهور العلمانيين الذي نسبته في تراجع دائم.
ضيق البقعة الجغرافية وقلة المصادر الحياتية
إحدى الأزمات الكبيرة التي تسعى إسرائيل للتغلب عليها هي مسألة انتشار السكان في داخل مناطق 1948، إلى جانب المناطق التي تنوي الاستيلاء عليها من الضفة الغربية المحتلة، فالمشكلة القائمة في إسرائيل هي أن حوالي 65% من السكان، أي في حدود 4,6 مليون نسمة يعيشون من منطقة شمال تل أبيب الكبرى وحتى القدس المحتلة.
بالإمكان الجزم بأن جميع محاولات إسرائيل الدائمة لإعادة توزيع السكان في كافة أنحاء مناطق 1948، قد فشلت، وفي"أحسن الأحوال" فإن نجاحها جزئي ومحدود ومؤقت، ولهذا فإنها لم تنجح في تخفيف الضغط السكاني في منطقة الوسط، عدا عن أن الغالبية الساحقة جدا من الشرائح الميسورة وكبار أصحاب رؤوس الأموال تعيش في هذه المنطقة، وهنا لا نتحدث عن تشجيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان، حيث بلغ عدد المستوطنين هناك أكثر من نصف مليون مستوطن.
وقد استأنفت إسرائيل الرسمية محاولاتها هذه قبل أربع سنوات، حين أعلن الوزير السابق، الرئيس الحالي، شمعون بيرس مشروعه الكبير القاضي عمليا بتهويد منطقتي الجليل شمالا، حيث نسبة فلسطينيي 48 حوالي 52%، ومنطقة النقب جنوبا، حيث نسبة الفلسطينيين حوالي 40%.
وحتى الآن لم ينجح هذا المشروع، الذي يستهدف فلسطينيي 48، في جذب اليهود إلى هاتين المنطقتين، وتشير تقارير دورية صادرة عن دائرة الإحصاء المركزية، إلى أنه في بعض البلدات اليهودية في الشمال يتراجع عدد اليهود، مثل مدينة نتسيرت عيليت، وهي المستوطنة الجاثمة على أراضي الناصرة، كبرى مدن فلسطينيي 48، والقرى المجاورة.
ولكن المؤشر الأكثر غرابة هو أن مدينة حيفا، الثالثة من حيث الحجم في إسرائيل، تشهد منذ سنوات طوال هجرة الجيل الشاب (اليهود)، أسوة باقي مناطق الشمال والجنوب، إلى منطقة تل أبيب، ويتحدث مختصون وخبراء عن أزمة حقيقية بدأت تواجه المدينة، على الرغم من أنها مدينة عصرية ومتطورة، وتجاورها واحدة من أكبر المناطق الصناعية في إسرائيل.
وهذا الأمر يزيد من حالة الاكتظاظ وحتى الاختناق السكاني في منطقة تل أبيب، التي تشهد أزمة سكن في مركز المدينة ومحيطها، وما يتبعها على مدار الساعة من أزمة سير واختناقات مرورية، وهي مؤشرات واضحة جدا لحالة انفجار سكاني قادم لا محالة طالما استمر الوضع على حاله.
أضف إلى هذا، فإن ضيق المساحة الجغرافية في مناطق 1948، إذا استثنينا المنطقة الصحراوية في الجنوب، سيجعل من الصعب رؤية القدرة على استيعاب قرابة ثلاثة ملايين شخص إضافي في البلاد، في ظل شح مصادر مياه عذبة، وأراض زراعية كافية للاكتفاء الذاتي، وهذا كله عدا عن الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، حيث يعيش حوالي 3,8 مليون فلسطيني، ومن المتوقع زيادة عددهم بالتكاثر الطبيعي فقط، بما لا أقل من 60% خلال 20 عاما، وهم يعتمدون على نفس المصادر الطبيعية وخاصة المياه، التي يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن حصتهم شحيحة، بفعل الاستبداد الإسرائيلي الإحتلالي.
الاقتصاد: ازدهار من دون جذور متينة
في السنوات الأربع الأخيرة شهد الاقتصاد الإسرائيلي نموا سنويا بمعدل 5%، وهو ما أغرق قادة إسرائيل في حماسة شديدة، أقرب إلى جنون العظمة، وهم يحصون المعطيات الاقتصادية "الايجابية"، رغم أن هذا النمو، ووفق تقارير بنك إسرائيل المركزي، وجهات مختصة بالأبحاث الاقتصادية الاجتماعية، بقي مقتصرا بغالبيته الساحقة جدا، على كبار أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبيرة والبنوك، بينما السواد الأعظم من المواطنين لم يحصل على شيء يذكر من ثمار النمو، الذي رافقه اتساع مستمر في دائرة الفقر، وبالتالي اتساع الفجوات الاجتماعية، وهي الأكبر مقارنة مع الحال في باقي الدول المتطورة، حسب تقارير رسمية وعالمية.
ولكن قبل أسابيع، نشرت مجلة "إيكونوميست" الاقتصادية البريطانية تقريرا شاملا، بمناسبة الذكرى الستين لقيام إسرائيل، أثار ضجة في إسرائيل، يقول إن محركات النمو الاقتصادي في إسرائيل ضعيفة، على الرغم مما سجله الاقتصاد من نمو في السنوات الأخيرة.
وجاء في ذلك التقرير أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد في السنوات الأخيرة، "على الفرصة السانحة والعابرة في ثورة التقنية العالية، ولهذا فإن الاقتصاد الإسرائيلي ليس مهيأ كما يجب لمواجهة الأزمات المستقبلية"،
وحسب التقرير ذاته، فإن الاقتصاد التقليدي، بمعنى الإنتاج والخدمات العادية، ما تزال متخلفة من عدة نواح، ومن بينها معدلات الإنتاجية، إلى جانب أن نسبة المشاركة في سوق العمل بالمجمل في إسرائيل متدنية وضعيفة (56%).
وهذا الأمر يضع علامات سؤال على شكل التطور الاقتصادي، على الرغم من أن معدل الناتج العام للفرد في إسرائيل وصل في العام الماضي إلى أكثر من 22 ألف دولار، ويعتبر من المعدلات العالية في العالم، ولكنه ما يزال بعيدا عن معدلات الدول المتطورة.
ولكن في هذا السياق من المفيد الانتباه إلى أمر ذي أهمية متعلقة بالاقتصاد، وهو ما باتت تتحدث عنه إسرائيل كثيرا في الآونة الأخيرة، وهي قضية "هجرة الأدمغة"، وهناك معطيات من الصعب تبنيها، مثلا عندما نقرأ في أحد التقارير أن أكثر من 30 ألف شخص، من ذوي الخبرات في مجال التقنية العالية غادروا إسرائيل مؤخرا للعمل في الخارج بسبب عروض مالية أكبر.
كذلك نقرأ أن 2% من الأطباء في إسرائيل يهاجرون للعمل في الخارج سعيا وراء عروض، رغم تقارير تشير إلى أن في إسرائيل نقص بالأطباء، بسبب الشروط الصعبة للحصول على رخصة مهنة الطب ومزاولتها، وتدني مستوى عروض الرواتب.
الهجرة العكسية
في الأسابيع الأخيرة نشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" استطلاعا شاملا للرأي، بمناسبة الذكرى الستين لإسرائيل، ومن أهم ما جاء فيه، أن 33% فقط من الجمهور اليهودي في إسرائيل لن يفكروا بالهجرة من إسرائيل، مقابل 64% أعلنوا استعدادهم للهجرة لأسباب مختلفة.
فقد قال 24% إنهم سيفكرون بالهجرة في حال لم تعد لديهم ثقة بمستقبل إسرائيل كدولة تضمن مستقبل أبنائهم، وقال 12% إنهم قد يهاجرون بسبب توتر الأوضاع الأمنية ونشوب حروب، و10% إذا ما تلقوا عرض عمل مغر في خارج البلاد، و8% بسبب قوانين الإكراه الديني، 5% بسبب أزمة اقتصادية كبيرة، و5% بسبب وجود نظام حكم مخالف لرأي المستطلع.
وبالإمكان القول إن نتائج هذا الاستطلاع قريبة جدا للواقع، الذي تعكسه المعطيات الرسمية، فقد أشارت تقارير رسمية مع نهاية العام الماضي، إلى تزايد ملحوظ في الهجرة العكسية ومغادرة إسرائيل، وحسب التقديرات فإن عدد الذين "غادروا إسرائيل بنية عدم العودة إليها قريبا"، وهو مصطلح مخفف لمصطلح "الهجرة"، بلغ حوالي 12 ألفا.
وقلما تتحدث إسرائيل عن مسألة الهجرة العكسية، ولكن لسبب غير واضح فقد كثرت في الأشهر الأخيرة المعطيات حول هذا الأمر، وقالت تقديرات لدائرة الإحصاء المركزية، إنه في العالم اليوم حوالي 700 ألف شخص يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويعيشون خارج إسرائيل.
وفي المقابل فقد أصدر ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية تقريرا قال فيه، إنه خلال السنوات الستين الماضية غادر إسرائيل قرابة مليون شخص، وحسب التقديرات ذاتها، فإن حوالي 850 ألف شخص ما يزالون على قيد الحياة.
ولا يوجد إجراء واضح في إسرائيل لإسقاط الجنسية في حال الهجرة، ولهذا فإن الدوائر الرسمية تعتبر الشخص مهاجرا في حال غادر إسرائيل لمدة عامين بشكل متواصل دون أن يزور البلاد ولو لمرة واحدة خلال هذه الفترة.
ولا تسارع وزارة الداخلية الإسرائيلية إلى شطب أسماء من يقيمون خارج إسرائيل منذ سنوات طوال، وحتى عشرات السنين، ولكنها تسقط عنهم الضمانات الاجتماعية والصحية التي يستحقونها، بعد ستة أشهر من غيابهم عن البلاد.
وهذا لم يأت صدفة، لأن إسقاط مئات آلاف أسماء اليهود من السجل السكاني سيخل بالتوازن الديمغرافي الذي تسعى له إسرائيل.
ولكن القضية لا تنتهي هنا، لأن جميع المؤشرات، وبخاصة المعطيات التي ورد بعض منها في هذه المعالجة، تقود إلى استنتاج ان الهجرة اليهودية العكسية ستتعاظم وتتكثف في السنوات القادمة.
وهنا نضيف معلومة أخرى، وهي أنه حسب تقديرات عامة، فإن حوالي 40% من اليهود في إسرائيل، أي حوالي مليوني نسمة، لديهم جواز سفر لدولة أخرى، إما هاجروا منها، أو هاجر منها آباؤهم وأمهاتهم، وهم لا يتنازلون عن هذه الجنسية الإضافية، لا بل إن من ليس لديه يسعى للحصول على جنسية أخرى، وهذا ما تتحدث عنه الكثير من التقارير الصحافية، وهناك مكاتب محامين تنشر إعلانات في الصحف لاستصدار جوازات سفر في دول أوروبية لمن ولد آباؤهم أو أجدادهم في تلك الدول.
وهؤلاء ليس بالضرورة يريدون جواز سفر إضافي "من أجل تسهيل سياحتهم في العالم"!، بل أيضا، ولربما هو الأساس، من أجل السكن في "الوطن الآخر" ساعة الضرورة، من دون أية معوقات قانونية.
وهذا ما يدركه قادة إسرائيل والصهيونية منذ الآن ويحاولون منعه، أو على الأقل إعاقته بشتى الوسائل والطرق، وعلى مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي مرحلة ما، هناك قطاعات واسعة ستبحث عن جودة حياة أفضل بكثير، من ضيق المكان وقلة الموارد وفرص العمل والتوتر السياسي والأمني.
انعكاس الأزمة على البنية الاجتماعية
إذا ما عدنا إلى معدلات التكاثر السكاني والولادات، المتعلقة بالمجتمع اليهودي في إسرائيل، ثم تنبهنا إلى قضية الهجرة العكسية، فإن هذا سيقود إلى تفجير تناقضات وأزمات اجتماعية، بالإمكان القول إنها "بركان هامد".
فنحن نتحدث عن هجرة ذوي الإمكانيات الاقتصادية والعلمية، وتراجع نسبة الجمهور الشبابي القادر على الإنتاج، مقابل ارتفاع نسبة المسنين، ومضاعفة نسبة جمهور الأصوليين، وهذا سيشكل عبئا اقتصاديا على المجتمع، وأمنيا على الجيش، ولكنه أيضا سيفجر من جديد الصراع ضد الإكراه الديني، ونفوذ الأصوليين في الهيئة التشريعية والحلبة السياسية والمؤسسة الرسمية ككل.
ومثل هذا الصراع الديني شهدناه بقوة في سنوات الهدوء الأمني النسبي، التي أعقبت اتفاقيات أوسلو، وخلق مناخات اقرب للانفراج السلمي في سنوات التسعين الماضية، كما بدا المشهد في حينه.
ولا نعيّب هنا مسألة الصراعات التي تعلو وتخبو من حين إلى آخر بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبينهم معا وبين المهاجرين الجدد.
انعكاس الأزمة على المستوى السياسي والصراع
ليس الهدف من هذه المعالجة الاستعجال لقراءة المستقبل والدخول في متاهات تنبؤية كهذه أو تلك، بل استعراض أزمات داخلية جدية ستعيشها إسرائيل، وستنعكس بالضرورة على طبيعة الصراع، وستكون الموجه الأساسي للسياسة الإسرائيلية، وعلى الأغلب أنها توجهها منذ الآن.
ولكن بالإمكان القول، إن فلسطينيي 48 سيكونون أول من يتم استهدافهم (وهو حال مستمر من 1948 ولكنه سيتصاعد)، من أجل إصلاح "الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الصهيونية" وهو "السماح" لـ 153 ألف فلسطيني بالبقاء في الوطن بعد العام 1948.
وسيكون هذا من خلال التحفيز على الهجرة، باستمرار تضييق مجالات الحياة، ومواصلة سياسة التمييز العنصري ليبقوا شريحة ضعيفة اقتصادية، وتفتقد الكثير من مقومات الحياة العصرية، والعمل على اغتيال هويتهم الوطنية في وعيهم، وكذلك دحرهم إلى خارج دائرة التأثير في العملية الانتخابية.
وهنا تجدر الإشارة إلى معلومة واحدة وهي: في العام 1981 انتخب للكنيست نائب واحد، من أصل 120 مقعدا، يدعو إلى طرد جميع الفلسطينيين من وطنهم، وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في العام 2006 صوت 33% من اليهود لأحزاب تدعو إلى طرد العرب من وطنهم، وأشارت جمعية حقوق المواطن الإسرائيلية في تقريرها الأخير إلى أن 51% من اليهود في إسرائيل يؤيدون تحفيز العرب على الهجرة.
أما على الصعيد السياسي العام، فإن كل عملية تفاوضية ستجري مع الجانب الفلسطيني أو مع الجانبين السوري واللبناني لاحقا، سيكون فيها الموقف الإسرائيلي مرهونا لحسابات أزمات إسرائيل الداخلية، ولهذا فهي تماطل من اجل كسب أكثر ما يمكن من مساحات جغرافية في الضفة الغربية المحتلة، ورفضها الضمني للانسحاب من هضبة الجولان.
بكلمات أخرى، في حال استمر الصراع، فإن ملامحه بعد 20 عاما ستتغير كثيرا.
برهوم جرايسي-عن الغد الاردنية
السبت 31/5/2008