* عودة الجبهة إلى قيادة الحركة الوطنية تتطلب الكثير من الجرأة والإقدام وإعادة نبش المسلمات .. *
إن جمع حوالي 200 ألف توقيع على العريضة (أكبر عريضة في تاريخ البلاد) تطالب المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية مازوز بالتراجع عن قراره السابق بعدم استمرار التحقيق ضد قاتلي أبنائنا خلال هبة القدس والأقصى وتقديمهم للمحاكمة، هو بدون شك إحدى اللحظات التاريخية في تطور العمل النضالي للجماهير العربية عموما وللجبهة الديمقراطية بشكل خاص. فالقدرة على الخروج إلى الشارع وتنفيذ احد قرارات لجنة المتابعة في قضية جماعية والوصول إلى عدد هائل من الموقعين، الرافضين لصلف السلطة وقراراتها المبنية على دكتاتورية الأكثرية التي لا تكترث للأقلية العددية ولآلامها وجراحها وتطلعاتها بالعيش الكريم في وطنها، هو بدون شك من الأعمال النضالية التي تتطلب المبادرة والنزول إلى الشارع والتنظيم الراقي.
صحيح أن القرار حول مسألة جمع التواقيع كان قرارا جماعيا اتفقت عليه كل القوى السياسية الوطنية وقررت مجتمعة البدء بتنفيذه، إلا انه من الواضح تماما بأن هذه العملية المتواصلة منذ أشهر قامت الجبهة الديمقراطية ومؤسساتها بحملها نيابة عن الآخرين، وبينما قامت قوى مختلفة بالحديث من على صفحات الجرائد وخلال الاجتماعات العامة والخاصة، بضرورة التجنيد لأجل إنجاح هذه المهمة، إلا إن هذه القوى لم تقم إجمالا بتقديم ما يثبت التزامها بهذا العمل الجماعي المشترك، بالمقابل تبنت الجبهة وفروعها وكوادرها جمع التواقيع والانتقال من بيت إلى أخر ومن قرية كبيرة الى صغيرة ومن اجتماع شعبي الى اجتماع صغير ومن هذه المؤسسة الى تلك بمثابرة وعزم شديدين حتى أنجزت الهدف وثبتت ما كان يشكك به الكثيرون من قدرتها على العمل الميداني المنظم على ضوء ما جرى من انحسار وتراجع في بنيتها الداخلية خلال العقدين الماضيين. إن الجبهة وكوادرها وفروعها تستحق بقوة التحية على هذا الانجاز.
* وهنا لا بد من ثلاث ملاحظات:
الأولى، كنت أتمنى أن تقوم القوى السياسية الأخرى، والتي تتنافس مع الجبهة على موقع قيادة العمل الجماهيري والنضالي، داخليا وخارجيا، أن تشارك بجدية في انجاز هذه المهمة الجماعية الهامة، والتي نبعث من خلالها رسائل الصمود والتحدي والإرادة ولرفض عنف السلطة والمطالبة بالعدالة والإنصاف، كجزء من زيادة الاعتبار للشهداء الذي سقطوا نيابة عن كل واحد منا وكجزء من مسيرة فرض موقفنا على الدولة ومؤسساتها حتى تراقب عملها وتجنح إلى السلم الأهلي معنا بدل العنف المنظم والشعبي الذي يطال أملاكنا ودماء أبنائنا وحقوقنا. وأملي هنا والآن هو أن تبادر القوى الأخرى على الالتحاق بالجبهة من اجل ترجمة هذا العمل الجبار إلى عمل سياسي محلي وعالمي، شعبي وبرلماني، قضائي وسياسي، وللاستفادة مما قدم حتى الآن.
ثانيا، انجاز هذا العمل الجبار هو رد اعتبار واضح للعمل الجماهيري المنظم والمنتظم في إطار النضال العام، وبدل الاستمرار في المظاهرات التي لا تحمل سوى رسائل آنية - ولا أنكر أهميتها- وبدل "احتفالات" النكبة الثقافية التي لا يبقى منها شيئا وبدل العمل السياسي المنقطع والمتقطع، وكل من هذه الأعمال على قدر كبير من الأهمية، إلا أنها تفقد الكثير من هذه الأهمية إذا كانت منقطعة عن برنامج يصب في رؤيا إستراتيجية لمواجهة السلطة وانتهاكاتها لوطننا ووضعنا وأملاكنا ولدماء أبنائنا، داخل الخط الأخضر وخارجه، في الوطن وجواره. ومن الأهمية بمكان ان يتم التفكير والعمل على هذا النسق من ضرورة التراكم والتواصل مع الماضي وضرورة إصلاح ما يجب من أثاره في إطار رؤيا إستراتيجية مستقبلية.
ثالثا، أقدمت الجبهة على حمل هم جمع عشرات آلاف التواقيع وهي في خضم عملية تغيير وترميم تنظيمي وفكري هام جدا، فبعد سنوات من التردّي الواضح في الأداء التنظيمي أقدمت الجبهة على تغييرات هامة من خلال اتخاذ قرارات تنظيمية، وعلى إعادة التفكير في موقفها من يهودية الدولة (انظر/ي رسالة الجبهة والحزب للجنة المتابعة) وهي بالضرورة تتفاعل من خلال ذلك مع مطالب جماهيرية عامة وقاعدية لديها كذلك، ولكن بالأساس تتفاعل مع أولويات المرحلة، والجبهة تستطيع أن تعود لقيادة "الحركة الوطنية" للفلسطينيين في إسرائيل، تنظيميا وبرنامجيا، كما فعلت في أواسط سبعينيات القرن الماضي من خلال العودة إلى قيادة العمل الوطني المشترك لكل الجماهير العربية والتي يجب أن تعتمد بالأساس على إشراك القوى الأخرى، بعكس السبعينيات عندما لم تكن في الحقيقة قوى أخرى هامة سياسيا.
عودة الجبهة إلى قيادة الحركة الوطنية تتطلب الكثير من الجرأة والإقدام وإعادة نبش المسلمات وتفكيك الأوضاع الداخلية والخارجية وفهم أبعادها والاستعداد على مواجهة ما اتفق على انه "الثوابت" وهي بالحقيقة من أسس إعاقة الانطلاق، وسوف أتطرق إلى بعض هذه القضايا في مقال قادم. لكن حتى آنذاك، ألف تحية إكرام وتقدير للجبهة وقياداتها وكوادرها، على انجازها الهام وعلى بعث الروح بنا بجدوى العمل الجماهيري المنبعث من رحم الحاجة والملتصق بالناس وهمومهم وتطلعاتهم.
د. أسعد غانم *
الخميس 29/5/2008