وصلتني في الأيّام الأخيرة ثلاث مكالمات من رفيقيْن شابّين ورفيقة ثالثة أخبروني فيها أنه تمّت دعوتهم للتحقيق من قبل جهاز الأمن العام- "الشاباك".
الرفيقان الشابان أرادا نصيحة حول كيفية التعامل وطلبا أن لا يعرف أحدٌ عن التحقيق لاعتبارات عائليّة.
المكالمة الثالثة جاءت من رفيقة نشيطة أخبرتني أنّ زوجَها مَثُل للتحقيق الشاباكي حول نشاطها هي! وقد أوضح له عنصر "الشاباك" أنهم يعرفون عن نشاط زوجته ودورها في الحزب والجبهة، وحذّروه من ان تقوم (هي!) بأعمال معادية لـ"أمن الدولة"، وللمحادثات الثلاث حيثيّات خاصّة ليس من الحكمة ذكرها على الملأ.
ما يَرشح من هُنا وهناك يؤكّد أن حملة شاباكيّة واسعة النطاق تطال الشباب العرب في هذه المرحلة الحسّاسة والحرجة من بلورة الشخصيّة وقد تهدف الحملة الى التشديد في اقتناص الشباب الوطنيّين غير المؤطرين، وغالبيّة الشباب وذووهم يؤثرون تجرّع الكأس لوحدهم، وثمّة احزاب انزوت، "كي لا يخاف الشباب من الانضمام لصفوفها"!! وخفافيش الظلام تتسلّل وراء ستائر التردّد فتسدر في غيّها..
لا تفعلوا كفعل أهلي
أعتذر على إقحامكم في تجربة شخصيّة ولكنّها قد تفيد الشباب الذين توجّهوا إليّ والذين لم يتوجّهوا، فقبل ما يقلّ عن عشرين عامًا بقليل، ذهبتُ إلى التحقيق يرافقني أبي، أمّي كانت تنتظر في السيّارة خارج مبنى الشرطة وهي ترطم بآيات من القرآن، وفي التحقيق كنت ممتلئًا بحماس الشباب، أبي العامل البسيط والإنسان الوطني تأثّر جدًا من التحقيق، وعندما تكرّر التحقيق مرتين إضافيّتين أصبح كل شيء في البيت منهك، وكأن البيت استجمع كلّ قوّته ليقف أمام التحقيق مرفوع الرأس ولم يُبقِ قوّة لأي شيء آخر.. إلى هذه الدرجة خاف البيت من "الشاباك" الذي يضع العقبات أمام الشباب الوطنيين والذي يزرع أدلّة لإدانتهم، والذي يعذّب في السجون كما كانت تقرأ لنا أمّي من كتب المحاميّة الشيوعيّة فليتسيا لانغر، وقد نحلّق في أساطير نسجناها، وقد لا تُجافي الحقيقة كثيرًا.
أنا تأثّرت سلبًا من هذه التجربة التي اجترحناها لوحدنا، كانت أشبه بصدمة كهربائيّة في شرخ الشباب، أثّرت عليّ لسنوات تلتها.. وفقط بعد اجتياز التجربة أدرك أهلي كم أخطأوا في أنّهم لم يُشاركوا قيادة الحزب والجبهة، أيّا من المسؤولين، لنعالج الأمرَ معًا.
* * *
ما زال الكثير من أبناء شعبنا يخافون "الشاباك"، ونحن المنخرطين في العمل السياسي والمؤطّرين في أحزاب تدعمنا وفي دفيئة وطنيّة قد نخطئ إذا اعتقدنا أن الناس لم تعد تخاف.
أي وهن أو تردّد من قبلنا يمدّ "الشاباك" طغيانًا خاصّة وقد أُعلن جهارًا على لسان رئيس "الشاباك" يوفال ديسكين الموقف الماكارثي الجماعي "إن الخطر الحقيقيّ على إسرائيل هم المواطنون الفلسطينيون وليس الفلسطينيين في الضفّة والقطاع" وخَلُص ببؤس شديد "سنتصدّى لكل المحاولات الديمقراطية وغير الديمقراطية لتغيير طابع الدولة"، وما التحقيقات على خلفيّة مظاهرة النكبة سوى تجسيد حيّ لسياسة "الشاباك" التي تتّخذ منحًى أكثر تشددًا.
أيها الشاب، أيّتها الشابّة، لا تدعوهم يستفردون بكم ولا يستقوون بصمتكم، خاصّة وأنّكم لم ترتكبوا جُرمًا وتنتمون لأطر سياسيّة قانونيّة ومعترف بها، بل يجب كشفهم وفضحهم، والتظاهر في عقر بيتهم، قبالة المبنى الرئيس للـ"شاباك"، وجمع الشهادات للتوجّه للقضاء، رغم محدوديّته، وخير طريقة للدفاع هو الهجوم الجماعي والشجاع.
ويحضرني هنا توفيق زيّاد يخطب بالناس من فوق سيّارة تجاريّة في إحدى القرى الساحليّة بعيْد النكبة، ويأتي مندوب الحاكم العسكري والشرطي ليبدأ الناس بالتفرّق فيصيح زيّاد: "يا إخوان، البوليس زيْ الكلب الجعيري، إذا بتهرب بلحقك، وإذا بتلحقو بهرب"، ولا أبسط ولا أعمق. وكذا هو "الشاباك" يتعملق في الظلمة والتستّر ويتقزّم في رابعة النهار.
* * *
بالأمس، قرأت المقال على والديّ لعلّ لديهما تحفّظًا من زجّهما في المقال ونقل تجربتهما، إلا أنّ مشاعرهما تهدّجت وهما يستذكران القصّة القديمة، وأكدا على ضرورة نقل تجربتهما إلى الأهل والشباب بأن لا يخوضوا التجربة وحدهم، بل يشاركوا القيادات السياسية، كي لا يتركوا الخفاش محلقًا في ظلامه، ولا تنسوا أن للخفّاش جناح طير ولكنّ له أيضًا رأس فأر، ولا شيء يعيده إلى جحره المظلم غير كشّافات أضواء تنهال عليه.
أيمن عودة *
الأربعاء 28/5/2008