ثوري.. أحبك أن تثوري



لم أجد أمة تتلذذ بقتل النساء كالأمة العربية، ولم أجد مثلها أمة تزدري النساء وتعتبرهن عبئاً وفائضات عن الحاجة، ومجلبة للعار. وقبل أن يفغر المعترضون على كلامي أفواههم أدعوهم إلى التأمل في الأمثال الشعبية التي استقرت في الذاكرة الجمعية العربية، فصرنا نفاخر بها وتتناقلها الألسن من قبيل:

 

"البنت ما إلها غير الستر أو القبر"،
 "دلل إبنك بغنيك ودلل بنتك بتخزيك"،
 "المرة بتّعب أهلها حتى لو ماتت"،
"ماتت أختي يا سعادة بختي"،
"اسمع للمرة ولا توخذ برأيها"،
"طاعة النسوان نذالة"،
 "قردة وجابت بنت"،
"أبو البنات همه للممات"،
 "البنت بتجيب العار لباب الدار"،
"إن ماتت أمك مات كل مين يحبك، وإن مات أخوك انكسر ظهرك، وإن مات ابنك انحرق كبدك، وإن ماتت أختك انستر عرضك"،
"الست مصيرها الطبيخ ولو وصلت للمريخ"،
 "موت البنات من المكرمات".

 

وإن كانت هذه الأمثال انبثقت في مرحلة تاريخية بائدة إلا أن علاماتها ودلالاتها الرمزية ماثلة وتتحكم في مجرى السلوك الاجتماعي لقطاع واسع ومتنامٍ في أوساط المجتمعات العربية كافة.
ولعل ما يؤكد هذا التنامي الضاري لشهوة الذكور في استئصال أي ملمح أنثوي أصيل في حياتنا، أن أسبوعا لا يكاد يمر في بلادنا من دون أن تدفع امرأة أو فتاة دمها ثمنا لعربدة الذكور وجهلهم وبدائيتهم واستقوائهم الجبان على نصف الحياة، بل كلها.
وفي موازاة ذلك يندلع النقاشُ الضاري في عدد من العواصم العربية كالكويت مثلا حول: هل تشارك المرأة في الانتخابات التشريعية، وهل يحق لها أن تنتخب او تترشح، وفي حال فوزها هل تمكنها قدراتها العقلية على ان تكون حكماً، هل تستطيع أن تحكم. وثمة في عواصم أخرى مجاورة من يسأل:هل يحق للمرأة أن تقود سيارتها بمفردها؟.
بيْد أن هذا النقاش الذي يعيدنا إلى الخلف آلاف السنين يتخذ إشكالا لا تتورع أن تتنصل من الوجود الفيزيائي للمرأة بصفتها فائضا عن الحاجة، وإلا ما معنى الحفاوة البالغة بالتشريع سيئ الصيت المتصل بالمادة (340) من قانون العقوبات التي تمنح حكما مخففا لقاتل شقيقته أو زوجته أو أمه أو ابنته بذريعة "صيانة الشرف الرفيع من الأذى"؟!.
إن كثيرين يعتبرون بقاء هذه المادة التي سبق إلغاؤها، جزءا من الروادع التي تحمي شرف المجتمع، وتصون أخلاقه وتحافظ على ثوابته، بل ويعتقدون بأن تلك المادة "اللعينة" كفيلة بجعل أخلاق المجتمع مسيجة بقوافل اللاءات والمحظورات.
لكنّ في الأمر تناقضا قانونيا كبيرا، فلماذا تُستثنى جرائم أشد فتكا بالمجتمع من أن يكون لها قانون عقوبات خاص. لماذا لا يبيح القانون للابن أن يقتصّ من أبيه السارق أو المرتشي أو المتاجر الغشاش الذي يتلاعب بقوت الناس، أو لمروّج المخدرات، أو الجاسوس، أو القاتل..؟
إنه لن يجرؤ على فعل ذلك، لكنه يجرؤ على ارتكاب "جريمة بذريعة الكفاح من أجل نقاء الشرف" لأنه واثق من أنه سيقنع القضاء بأن فعلَ ذلك في لحظة غضب، وبالتالي يُمنح حكما مخففا، فيقضي أشهرا أو سنوات في السجن، ثم يخرج ليس كقاتل ومجرم وإنما كفارس مغوار لا يشق له غبار.
فإذا كان "موت البنات من المكرمات" في الوضع الطبيعي لحركية البشر، بحسب المثل آنف الذكر، فما بالك إذا كانت البنت أخطأت أو غُرر بها أو جرى اغتصابها من قبل أبيها أو أخيها أو أحد أقربائها، أو غير ذلك من الأسباب؟ حينها يغدو الموت هدفا محمودا ومشتهى لغسل العار.
فأي ثقافة هذه التي تنعى بناتها ونساءها بكل هذه الطاقة الهائلة من السادية والعنف والإقصاء، وأي عار تستشعره أمة لأن فيها امرأة إذا دُلّلت جَلبت الخزي لأهلها بحسب منطوق الوجدان الشعبي؟
إن هذه الأمثال وسواها هي التي تمهد الطريق أمام سيادة ثقافة العنف والنظرة الدونية تجاه النساء اللائي هن، في نظر الأمم المتحضرة، مستقبل العالم ومصدر بهجته وعنوان فخره وزهوه.
يحدث ذلك في مناخ معبأ بالصمت من قبل النخبة وأوساط المثقفين الليبراليين الذين هال أحدهم أن نناهض المادة 340، ولسان حاله يقول: "يا أخي الواحد إذا شاف أخته في وضع يجلب الشبهة، بفور دمه وبفقد أعصابه".
يتعين في مواجهة هذه الحملة الضارية لإستصال النساء من حياتنا، أن تتوحد الأصوات والأقلام والإرادات، من أجل تشكيل تجمع واسع من جميع الأحرار نساء ورجالا بغية قلب الطاولة على رؤوس أولئك الذين يريدون جر المجتمع إلى عصور الظلام، وحبس الحرية في أقبيتهم العفنة، وعقولهم الملآى بالصديد.
لا مساومة في هذا الحق الإنساني الذي حسمته البشرية منذ قرون: حق تمكين النساء من الثورة وكسر نير الذكور الصلفين الجلفين المارقين، مهما كانت صفاتهم أو مواقعهم. وفي المقابل لا بد من مواجهة بعض النسوة اللائي لا يتورعن عن المزاودة على الذكور، وتعنيف المرأة، واتهامها بالمسؤولية عن خراب العالم وسوء أخلاقه وانحطاطه.
أما معشر الذكور فهم يتصرفون كقديسين، ولا يتورع بعضهم عن ارتكاب أبشع الموبقات، لكنه إن شك في زوجته أو شقيقته أو ابنته، فإنه يصبح وليا معمّما، وتستفيق نخوته الغافية.
"إننا لم نستطع حتى الآن أن نشفى من فكرة الأنثى – العار. إن ربط الأنوثة بالعيب والعار جعلنا مجتمعا محروما من الطمأنينة، ينام والسكين تحت وسادته.
نحن مجتمع خائف من جسد المرأة، ولذلك نتآمر عليه، ونحاكمه، وندينه، ونحكم عليه غيابيا بالإعدام"، هكذا يقول نزار قباني الذي أحب أن أختم به وهو يهدر:
"ثوري .. أحبّك أن تثوري
ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور ِ
ثوري على التاريخ وانتصري على الوهم الكبير ِ
لا ترهبي أحداً.. فإن الشمسَ مقبرةُ النسور ِ
ثوري على شرق يراكِ وليمة فوقَ السريرِ".


*الكاتب مدير التحرير التنفيذي لصحيفة "الغد" الأردنية

موسى برهومة* عن "الغد" الاردنية
الثلاثاء 27/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع