إنما الشعراء أخوة، فاطماتهم شتى وحزنهم واحد
لا يمكن قراءة مجموعة إبراهيم مالك الشعرية الثانية دون أن يتملكك الدفء. ليس دفئاً كسولاً وباعثاً على الاستسلام للذة الشعرية العابرة، بل دفء عاقل ممتنع مفتوح المسامات. دفء لا يعطل الذهن عن تأمله ولا يفتعل شرارة أو حرارة لا تدوم، بل يرسله اضطرام جذوة تشيع الأسئلة في جسد الكلمات وتضيئها بنار المعنى.
يخوض إبراهيم مالك غمار حب عظيم وألم عظيم. وكلاهما ارتياد محفوف بالأهوال والأسئلة لأصقاع الحياة والموت، واقتراب من شفيرهما معاً، إذ تعانق الذات نفيها عناق العاشق الولهان: " ولكن يا صاحبي وطني عيون فاطمة".
ولا أجنبيّ في وطن فاطمة. ولا موت. بل ثمة يدا لا تألو جهداً لتقطف وردة الجوري الحمراء. وردة تقرأ على الملأ بيان لونها المنتصر للحياة. تقرأه، فيستحيل نشيد حبّ لفاطمة.
وردة تدلّ اليد القاطفة على مكمن النبض فيها. وجريان النسغ في عروقها. وردة تستدرج العماء الذي أصاب الجسد إلى بصيرة الطفولة المنزهة عن أي شيخوخة أو ذبول. الطفولة، خلاصة الفضائل وإكسير الشعر والحياة. تلك التي سيشقى الشاعر، وسيجوب بحارا وقفاراً لكي يظفر بها، ولكي تُسكَنه، بعد طول انتظار، فسيح جناتها المسورة دائما بجحيم فقدها.
إذن لفاطمة هذا النشيد، للينابيع البكر، لطفولة الأشياء وتمامها الفطري، للحظة جنينية مشتهاة سابقة لأي ألم أو ندم، عابقة بضوء كامل لا تبلغه عتمة ولا تفسده رغبات، لحظة لن يتكرر صفاؤها سوى نقصانا ونشداناً فيما يبذل الشاعر من أنفاس وحروف بحثاً عنها:
المرأة التي أحبّ
مشكاة نور
نصفي المضاء
وكم أحب
لو أن عتمتي بوهج نصفها تضاء
في قاع عزلته، من أغوار الوحدة المطلقة في مواجهة "المصير المحتم الأكيد"، يرفع الشاعر عقيرة حزنه بالغناء لفاطمة، مستجيراً بأخوته الشعراء، قتلى ما يعذبهم ويحبون، رهائن ما يمحوهم ويكتبون: عشقهم لفاطمة.
" يا يشكريّ
بي مثل ما
بجسمك الحرور
من لهفة أن التقي
وفاطمة"
"يا أراغون
أبحث فيك
عن عيون إلزا
فعيون فاطمة
تعيش في فئ عيوني"
إنما الشعراء أخوة، فاطماتهم شتّى وحزنهم واحد،
الشعراء الواقفون أبداً على باب فاطمة، اللائذون بأشواقهم لها، الذائدون بصرخاتهم عن نقاء صمتها، وبهاء حلمها، ذودهم عن الحياة في انتصاراتها وانكساراتها، وائتمارها بإمرة العقل وبأتباعه الشكوك، وإن جهل أعداؤها فوق جهل الجاهلينا.
"أيا رهين المحبسين"
الشعراء الساهرة قصائدهم على مصائر الكون، السادرة أحزانهم في سديمه ونجومه، الشعراء الذين إن رأوا صحراء عصروا سحابها بأيديهم واستدروا ماءها المجازيّ وأنشدوا للسراب.
الشعراء الذين إذا ظعن الأحباب ما ظعن الحب الذي في أفئدتهم، وما قايضوه بالموت أو بأوسمة القتلة ..
يا غارثيا
يا قمر الأندلس الحزين
ابراهيم مالك يلامس في كتابته مثالاً شعرياً صوفيا ينهض على التآلف بين لغتين وخبرتين، بين لغة الجسد ولغة الشعر، بين المحسوس والمعقول. تستوطن كلماته ذاك البرزخ وتنطق بلسانه وتؤول حيرته، بعد أن تعمدت بمياهه المظلمة واكتوت بأفكاره الآيلة للصمت. أو للموت. الموت المرادف للكفّ عن عشق فاطمة، أي عن المعرفة القصوى أو، بلغة المحلل النفسي والكاتب الفرنسي ميشال شنايدر، الكفّ عن القراءة والكتابة.
مصطفى قصقصي
الأثنين 26/5/2008