قراءة في كتاب
مصارحات بين الفن والأدب تأليف نايف فايز خوري



     في الكتاب تراتيل وجدانية وطروحات فكرية وأسئلة محفزّة على دروب المسيرة الفنية، جعلها الكاتب نايف خوري في ثلاثة أبواب، تساؤلات فنيّة، رومانسيات، ومواقف فنيّة، تختلف في مواضيعها من باب لآخر. والمؤلف عنده الكثير ليقوله، ويقوله واضحا صريحا وبجرأة كبيرة منتقدا محطما تلك القوارير الفارغة التي توهم أنها تكتنز فـنًا وما هو غير سراب خادع!.. وفي نفس الوقت لا يقف موقف الهادم بمعوله بل يجمع الصلصال في لَبِنات ليعيد بناء صرح الفن واعظا موجها، مصفقا لما هو جميل، مشجعا من يتقن دوره على مسرحه الفني.
   الفن في الكتابة والموسيقى والتمثيل، محاور يدور حولها موضوع الكتاب، وللمؤلف صولة واسعة فيه، وفيض من الأوصاف والمعاني بأسلوب سلس مشوق دون تعقيد.ولا عجب أن الفنان نايف خوري يخوض معركة الفن على مستوياتها هذه، فهو الممثل والمخرج سابقا والكاتب مرهف الحس والمستمع الرائي لموسيقى الحياة على طبيعتها، وعلى خشبة المسرح وشاشات العرض بحركاتها وكلماتها وإيقاعها. يرقب كل صغيرة ولا يرضى إلا أن يكون رسول الجمهور المتلقي فيقبل أو يرفض، وله كل الحق أن يقول كلمته.
   يقول "إن دروب الفن عسيرة، وهي محفوفة بالصعاب، والساعات الطوال التي يمضيها الفنان في عملية الولادة الإبداعية تقلقه كعملية المخاض عند المرأة الحامل، وبدون الحب الفن حجر".
   نقول الفن، ويهرب التعريف منا. وهل للحياة تعريف سوى أننا نعيشها؟! ربما أشرنا   إلى بعض صفات الفن، لكننا نجد أن هذا لا يعطينا الجواب الشافي، فمهما وقفنا أمام البحر نعرِفه ونعرّفه، يبقى مداه أوسع وأسراره أعمق من أن نحويها بجملة أو أكثر.لكننا نستطيع أن نصاحب الفن في مسيرته فنجده في كل ما حولنا وما فينا، في الطبيعة، في هندسة الكون، في ألوان الفراشة والزهرة، في ذيل الطاووس ومشيته، في تشكّل الغيمات السريع واضمحلالها... وغير ذلك الكثير. ونجده في حياتنا اليومية في كل ما نراه ونعمله، في أزيائنا الجميلة، على مائدة طعامنا شهية التنسيق، في صندوق صغير مخمليّ يلفه شريط ملوّن وبداخله خاتم تهديه لمن تحب، وفي كلمة تجلس  مع أختها فتزيدها تأثيرا فيما نكتب، وفي لحن يشدنا نود سماعه أكثر، في حركة الجسد عند الراقصين، وفي مهرجان اللون والخطوط في لوحة فنيّة، وغير هذا الكثير الكثير... فهل قوام الفن هو أثر انعكاس الوجود في حواسنا؟!.. أم نزعتنا إلى غير الموجود وتشكّله بصيغة أخرى؟.. هل هو الخطوة على طريق الغيب نطمح في الوصول؟.. وباختصار هل هو عملية خلق وإبداع يفرح حواسنا؟..والتغيير والتجديد شرطه الأساس لبقائه زاهيا مؤثرا... ربما كل هذا.
   في الكتاب، نجد أن صاحبه دخل في نقده ودعوته للمسيرة الفنية، وغربلة ما لا يجوز مستندا إلى ذائقة الجمهور وحكمه على مغنّي عصرنا الذين ابتعدوا عن أصالة الفن وانجرّوا وراء التقليد المستورد، كأنه تغيير وإبداع! يدخل الكاتب في تفاصيل كثيرة في هجمته على المغنين، ولا يقول المطربين، على شاشة التلفزيون والكليبات، ولباسهم البراق الفاضح عند الجميلات أو المتجملات وسياراتهم ومديري أعمالهم وآلاتهم الكهربائية التي بدونها لا وجود لصوتهم وغنائهم. كأن مغنيات "آخر زمان" يغنين بعري أجسادهن! فلو عرينا أصواتهن من مهرجان التصوير والآلات المصاحبة لما كان غناء ولا طرب!  يسرد الكاتب كل هذه التفاصيل في أسلوب تساؤلي متوجها إلى الفنانين الجدد علّهم يعتبرون. وقد استوفى الموضوع حقه وقيل في هذا الباب الكثير الكثير.
   لكن الكاتب يعود في آخر الكتاب في مقاله عن سفيرة الطرب الأصيل فيوليت سلامة، فيكرّس ثلاث صفحات عن الفن المبتذل ليظهر بالمقابل روعة فنها ويمجدها، هذه الصفحات الثلاث هي تكرار لكل ما جاء به في البداية!.. وجود هذا مع ذاك في نفس الكتاب غير مقبول.
     أما ما جاء في باب رومانسيات، فإنها قطع أدبية جميلة وشطحات وجدانية بمواضيع مختلفة، عن الأم والطفل والحبيبة وتأملات في الكون، أجاد الكاتب في التعبير عنها  وأوصل رسالته واضحة بأسلوب شائق. يقول: مشارب الأرض عديدة، وأتوق دوما إلى مشرب يقودني إليك ليروي روحي... وقد قالت فدوى طوقان:
   نادني من آخر الدنيا ألبّي - يا حبيبي - كل درب لك يفضي هو دربي!..
   ويقول: أفتقد اللحظات التي تغيبين فيها عن ناظري، وإليك أطمح صباح مساء. وأعزّي نفسي بأمل اللقاء الذي سيحين بعد قليل... ويجد الخمول ويكسوه الغبار إذا انقطعت الحبيبة عنه... وإذا حضرت ففيه شموخ الجبال وعمق الوديان ومدى السهول...
   فقرات كثيرة تصوّر العاشق المحب في حالات متعددة بأسلوب جميل، أستطيع أن أجزم أنها تنمّ عن تجربة صادقة ربما مرّ أو يمرّ بها، وحسابه عند زوجته...
    تهرب منه الكلمات أمام عظمة الأم ومحبتها فيقف عاجزا عن التعبير فيقول:
  "ماذا عساي  أقول لك يا أمي؟ ماذا عساي أفرد لك مما لم يفرده كاتب أو شاعر أو أديب أو فنان؟ كيف عساي أن أعبر لك عما يجيش في صدري وتكتنفه ضلوعي ويحتويه قلبي من مشاعر وعواطف حيالك!؟  ويضيف:
   "ماذا عساي أفعل لأبدي وفائي وإخلاصي، وشكري وعرفاني، وتقديري وامتناني، وما يعتري قلبي ولساني، وضميري ووجداني نحوك يا أمي!؟
   وعن الطفولة يقول:
  "عندما يناغيك الطفل تشعر بابتسامة تتغلغل في أوصالك.. فإنه يحاول أن يخاطبك من كل قلبه بلا تملّق ولا مواربة ولا محاباة.  عندما يناغيك طفل تبتهج الملائكة في السماء، وتتراقص النجوم في الأفلاك."
   ينتقل الكاتب إلى مناجاة الطبيعة وظواهرها على مدار ساعات النهار، وفصول السنة، وتضاريسها من سهول وجبال ووديان، حتى البرق والرعد وغيرها... ولا شك عنده الكثير يقوله في كل مقام، وقد أجاد في توحّده مع العالم والموجود... غير أني كنت أتوقّع أن تجتمع البداية من ذكر الحب مع ما جاء في ذكر الطبيعة وغيرها فتكون مع بعضها رمزا أو تورية لحبيبة أخرى يخفيها في طيات الكلام هي إقرث بلده، أو الوطن!..
   الباب الأخير، وهو مقالات في المسرح عامة ومسرح الأطفال، نقد مسرحي ونقد أدب الشباب، والطرب والموسيقى. ففيه مقال شامل وهام عن الحركة المسرحية عندنا، فيه الكثير من التفاصيل والمحطات لمسارحنا سابقا والآنية الموجودة منها. لا شك أن الكاتب بذل جهدا كبيرا يجمع كل هذه التفاصيل. (مساهمة مني أضيف أنه في الخمسينيات كانت حركة مسرحية في كفرياسيف، ومن التمثيليات التي أذكرها، مسرحية كذّبه يا أبي،  والأخرى - لولا المحامي. كما تم تمثيل مسرحيتي "الناطور" في بيت الشباب في كفرياسيف وكذلك في طمرة حيث استمر عرضها أسبوعا كاملا، وأيضا في شفاعمرو وغيرها من المدن والقرى.)
   توجّهَ الكاتب للنقد المسرحي توجّه المحترف العارف، يرى حركة الممثل بدقائقها فيقبل أكثر مما يرفض فيما كتب، لأن الممثلين أجادوا. وفي أدب الشباب عظات وتوجيهات تفيد كتابنا الناشئين، حبذا لو يعملون بها. وفي مدحه لسفيرة الطرب فيوليت سلامة يقول: "ليس من الضروري أن يكون أداء الفنان الأصيل نسخة طبق الأصل عن الفنان القديم، بل يجب أن يَدخل فيه من فنه وروحه وصوته وحركاته وحضوره وأدائه، ما يجعله أصلا بحد ذاته". أعجبني هذا لما فيه من دافع للتجديد والتغيير، وإن كان الأداء لما كان قبلا. يذكرني هذا بأداء ليلى غفران لأغنية عبد الحليم حافظ "كامل الأوصاف"، فعندما سمعتها عشت معها لحظات طرب جميلة وقلت، لقد أجادت في غنائها هذا أكثر من عبد الحليم! وهذا الرأي قاله غيري لها في مقابلة كانت معها على شاشة التلفزيون.
   هذه وقفة سريعة على مضمون الكتاب لا تغني عن قراءته، ففيه الكثير من لحظات تأملية وأفكار وطروحات لا يمكن حصرها في هذه العجالة، فلا بد للظامئ  أن يرد الماء فيرتوي.     
   قبل النهاية لي بعض الملاحظات منها، لم أفهم معنى "الكاتب القبوط" ص. 86. كما لم أجد تفسيرا كيف "تمتلئ الغدران من – رضاب - الرحيق العذب الذي ينهمل من عينيك وأنت تذرفين دموع الفرح والسعادة من هذا اللقاء. ص. 56. وهناك عدّة أخطاء مطبعية.


   أخيرا، في الكتاب نقد جريء وتوجيه برؤية سليمة، قد يوافقه الجيل القديم ويعترض عليه جيل الشباب في بعض المواقف... ألأسلوب واضح دون تعقيد،لم يتوخ الكاتب البلاغة والمحسنات اللفظية. وفي الكتاب تأملات رومانسية صادقة فيها روح الأدب والشاعريّة، تنم عن نفس فنان مرهف الحس خبر الحياة فأعطى.

د. سليم مخولي *
الأثنين 26/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع