اثبتت مدلولات ومؤشرات الصراع الطبقي ان حيتان الامبريالية العالمية لا تسلم بسهولة بهزائمها، فان طُردت من ابواب بعض البلدان فانها تتقمص جلود الثعالب للعودة من الشبابيك، او تفتش عن وسائل تضليلية محكمة للتعويض عن فشلها، او بلورة بدائل بقوالب شكلية مختلفة ولكنها تحتفظ بنفس جوهرها الطبقي ومدلولها الاستراتيجي السياسي. وفي هذه الايام نعيش فصولا من المسرحية التراجيدية التي تواجهها شعوب وبلدان منطقتنا في الصراع على تحديد طابع هويتها وموقعها على الحلبة الدولية التي تسرح وتمرح فيها الثيران الهائجة التي تقدح عيونها شرا وشررا وتتأهب للايقاع بالضحايا. ففي الوقت الذي بدأت تبرز من خلاله دلائل الافراح والليالي الملاح في لبنان وانصار لبنان الوحدة الوطنية في كل مكان ابتهاجا بما تم التوصل اليه في الدوحة القطرية من اتفاق وفاق وطني بين الموالاة والمعارضة وانتخاب رئيس توافقي للبنان وفتح "بيت للعزاء" في السفارة الامريكية في بيروت وفي "البيت الابيض" الامريكي للتعزية بوفاة غير المأسوف على شبابه شيطان محور التآمر الامريكي – الاسرائيلي ودواجنه من الارانب العربية، في مثل هذا الوقت استبشرنا خيرا، آملين ان يكون ما تحقق من مكسب وطني في لبنان فاتحة خير، بداية انفراط "مسبحة" مشروع الهيمنة الاستراتيجية – الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة. وان يكون فشل نهج محور الشر الامريكي – الاسرائيلي على ساحة التفاوض الاسرائيلي – الفلسطيني في املاء حل امريكي على الفلسطينيين يصادر حقهم الوطني الشرعي في حق العودة والسيادة السياسية على القدس الشرقية والسيادة على كامل التراب المحتل منذ السبعة والستين، ان يكون هذا الفشل دالة بارزة لدفن مشروع "الشرق الاوسط الكبير" او الجديد الامريكي كاطار تحالفي بين البلدان العربية واسرائيل وتركيا تقود واشنطن رسنه ويخدم مصالحها الاستراتيجية ومصالح احتكاراتها عابرة القارات ومتعددة الجنسيات. ولكن كما قلت في بداية هذه المعالجة فان الامبريالية العالمية، خاصة في ظل طابع العولمة الوحشية القائمة اليوم، لا تسلم بهزائمها، بل تحاول التكيف من خلال اطر وافكار واشكال تخفف من وطأة الهزيمة ولا تترك لضحاياها الافلات من "حبال مشانقها". ففي الوقت الذي تعالت فيه صيحات الفرح والدبكة اللبنانية والرقص في الساحات والشوارع وفي مختلف المدن والقرى والمناطق اللبنانية وذلك مساء السبت عشية انتخاب العماد ميشيل سليمان رئيسا للبنان، في هذا الوقت بالذات ارتفع صوت نعيق البوم التشاؤمي من القاهرة. فنعيق البوم ابلغ الطرشان وحتى قبل من يتمتعون بصحة حاسة السمع ان القاهرة استضافت يوم السبت مؤتمرا عاجلا وطارئا لوزراء خارجية عشر دول عربية ليس بهدف لا سمح الله اتخاذ موقف يعربي اصيل يساند الحق الفلسطيني المشروع، خاصة بعد ان ادار بوش واولمرت اقفيتهما وبشكل فظ ووقح وسافر للحقوق الوطنية الفلسطينية، وليس بهدف بلورة تهنئة جماعية للشعب اللبناني على انجاز ما تحقق على طريق وحدته الوطنية، فبالنسبة لبعض الانظمة العربية، فان غضب بوش لا يقل اهمية عن غضب الله سبحانه وتعالى، وهل من المعقول لنظام مؤمن او رئيس مؤمن ان يغضب رب العباد!!
لقد كان موضوع البحث على اجندة مؤتمر وزراء الخارجية العرب هو مناقشة رؤية الرئيس الفرنسي ساركوزي حول "اتحاد ضفتي البحر المتوسط"، أي بلورة شكل تكاملي بين شمال البحر المتوسط من البلدان الرأسمالية الغنية نسبيا والتي معظمها في عضوية الاتحاد الاوروبي مثل ايطاليا واليونان واسبانيا والبرتغال وفرنسا وقبرص وبين بلدان الجنوب الواقعة على شاطئ البحر المتوسط مثل مصر واسرائيل وسوريا ولبنان والجزائر وليبيا والمغرب وتونس. ونحن ندرك جيدا ان الظاهرة البارزة، النزعة البارزة اليوم في ظل ظروف المنافسة المأساوية للمحاور والتكتلات الامبريالية المعولمة، فان الدول ضعيفة التطور او بلدان الجنوب او البلدان النامية في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية التي تعاني من طابع التمييز الصارخ ضدها في ظل العولمة القائمة تعمل على ايجاد وسائل وقائية لحماية مصالحها الاقتصادية وتحسين وضعها البائس في التقسيم العالمي الرأسمالي للعمل، فيوم السبت الماضي وفي وقت كان يجتمع فيه وزراء خارجية عشر دول عربية اعلنت اثنتا عشرة دولة امريكية جنوبية عن قيام اتحاد الامم الامريكية الجنوبية كاطار للتكامل والتعاول والتنسيق بين هذه البلدان التي اجتمعت في البرازيل في شتى مجالات البنية التحتية والنفط وغيرهما وباستثناء الامن والتجارة الخارجية.
اما اجتماع وزراء خارجية ثماني دولة عربية واقعة على شاطئ البحر المتوسط مصر، سوريا، الجزائر، المغرب تونس، لبنان، ليبيا والسودان ومشاركة الاردن وموريتانيا، فقد انفض في القاهرة بسبب التناقضات وتباين وجهات النظر في الموقف من حقيقة المدلولات السياسية والاقتصادية لرؤية ساركوزي حول "الاتحاد المتوسطي"، تيار يقوده النظام المصري وبتأييد من المغرب وتونس والاردن وموريتانيا، وهذا التيار متحمس لخطة ورؤية ساركوزي، وتيار يتأرجح موقفه بين المناهضة والمعارضة وبين التحفظ الذي يعني في نهاية المطاف عدم الالتزام بدخول هذا الاتحاد. ويتبنى هذا الموقف كل من سوريا وليبيا والجزائر التي تطلب التريث في اخذ الموقف مع تشكيكها بمدى جدية ومنافع هذا الاتحاد المقترح.
والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو: ما هي دوافع ومدلولات مشروع ساركوزي حول "اتحاد ضفتي البحر المتوسط"!! الواقع ان الرئيس الفرنسي طرح مشروعه هذا ابان حملته الانتخابية البرلمانية الرئاسية الاخيرة في فرنسا، وادعى في حينه، ابان تلك المعركة الانتخابية، بصفته ممثلا ومرشحا من قبل المحافظين الجدد في فرنسا، انه يريد ويستهدف استعادة مجد فرنسا على الساحة الدولية، أي عهد الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية دون الاحتلال العسكري المباشر للمستعمرات السابقة بل الهيمنة عليها اقتصاديا وسياسيا وتسليحا. وادعى ايضا، خاصة بعد نجاحه، وقيامه بزيارة بلدان حوض المتوسط من تونس الى الجزائر الى المغرب الى تركيا ومصر وغيرها، ان فرنسا ستنشط من خلال هذا الاتحاد لجسر الهوة الواسعة في مستوى التطور الاقتصادي ومستوى المعيشة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب من خلال تجنيد الاستثمارات للتوظيف في الشق الجنوبي من بلدان حوض البحر الابيض المتوسط، وامعانا في التضليل فقد اقترح ساركوزي ان تكون رئاسة الاتحاد المتوسطي مزدوجة برأسين، ساركوزي وحسني مبارك المصري!!
ومعطيات الواقع والممارسات على الارض منذ اعلان ساركوزي عن مشروعه الاتحاد المتوسطي وحتى اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انفض دون نتيجة ايجابية، هذه المعطيات والممارسات تؤكد انه شتان ما بين ادعاءات ساركوزي حول وضع التنمية الاقتصادية لدول جنوب المتوسط في محور الاتحاد المتوسطي. فبرأينا ان هنالك ثلاثة دوافع مركزية واساسية لمشروع ساركوزي ولرؤيته الكاذبة حول المدلول السياسي – الاقتصادي والاستراتيجي الحقيقي للاتحاد المتوسطي الذي لا يختلف عن رؤية بوش الكاذبة بالنسبة للدولة الفلسطينية. ويمكن ايجاز هذه العوامل الثلاثة بما يلي:
* اولا: بنجاح اليمين المحافظ برئاسة ساركوزي في الانتخابات عادت فرنسا الى حضن الاستراتيجية الامريكية العدوانية التي تنتهجها ادارة جورج دبليو بوش، وساركوزي بمشروعه حول الاتحاد المتوسطي المنسق مع ادارة بوش اراد ان يكون شريكا للامبريالية في اقتطاع حصة من مصالح استراتيجية الهيمنة الامبريالية كونيا ووفق تقاسم وظائفي متفق عليه مع ادارة بوش، مثل التركيز الفرنسي على بسط نفوذه ومصالحه في بلدان المغرب العربي.
* ثانيا: ان فرنسا التي تعارض وبشدة انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي لاسباب مختلفة طبقية وعنصرية تجد في الاتحاد المتوسطي بديلا وتعويضا عن موقفها السافر، اضافة الى المكاسب التي يمكن تحقيقها من خدمة النظام التركي لاستراتيجية الهيمنة الامبريالية التي تنسجم مع مصالحه الاقتصادية.
* ثالثا: ان تكون اسرائيل عضوا فاعلا في اطار الاتحاد المتوسطي دون اية شروط مسبقة. وهذا يعني من حيث المدلول السياسي تطبيعا للعلاقات العربية – الاسرائيلية بالمجان خدمة لوجه الله تعالى، دون ربط ذلك بزوال الاحتلال الاسرائيلي الجاثم على ارض وصدر وحقوق الشعب الفلسطيني، دون ربط ذلك بتضميد جرح النكبة النازف دما حتى يومنا هذا، دون ربط ذلك بضمان حق العودة للشعب الفلسطيني لخمسة ملايين لاجئ يعانون في مواطن اللجوء القسري، دون حق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على الارض المحتلة منذ الرابع من حزيران السبعة والستين. كما يعني ذلك دخول اسرائيل الى الاتحاد المتوسطي وتطبيع العلاقات معها دون الزامها بالتخلص من ترسانتها النووية التي تحتكرها وتهدد بذلك الامن والاستقرار والسلام في المنطقة، ودون الزامها بالتوقيع على معاهدة جنيف للحد من انتشار وانتاج اسلحة الدمار الشامل.
ان مشروع ساركوزي حول اتحاد ضفتي البحر المتوسط يعتبر من حيث مدلوله السياسي والاستراتيجي والاقتصادي صورة او نسخة معدلة لمشروع "الشرق الاوسط الكبير" الذي تتبناه ادارة بوش.
اما بالنسبة للادعاء بان احد الاهداف المركزية والمحورية لاتحاد ضفتي البحر المتوسط هو مساعدة بلدان جنوب حوض المتوسط على التنمية الاقتصادية والنهوض الاقتصادي فهو ادعاء كاذب لا رصيد له على ارض الواقع. فمنذ متى اصبح اللصوص من ارباب العولمة الرأسمالية، حريصين على مصالح البلدان النامية الضعيفة اقتصادية حيث الاسباب الجوهرية الاساسية لتراكم فقرها ومآسيها تكمن في جرائم السياسية الامبريالية التمييزية التي تنتهجها محاور العولمة في واشنطن وباريس وبرلين وطوكيو وغيرها. فارتفاع اسعار الاغذية والنفط بشكل جنوني لارتباط التعامل بهما بالنقد العالمي الامبريالي وخاصة الدولار قد ضاعف من مصائب الازمات الاقتصادية والى تردي مستوى المعيشة في البلدان النامية.
ان في محور اجندة مشروع ساركوزي لاتحاد ضفتي البحر المتوسط لا وجود للتنمية الاقتصادية ولم نسمع منذ انتخاب ساركوزي وصعود اليمين المحافظ الى سدة الحكم في فرنسا عن تدفق رساميل الاستثمار والتوظيفات الفرنسية في مشاريع تنموية صناعية او زراعية او خدماتية مدنية في أي من بلدان الشاطئ الجنوبي لحوض البحر المتوسط. بل الموجود في مركز اجندة هذا المشروع الاستعماري الجديد هو التركيز على قضيتين اساسيتين: الاولى، التعاون الامني "لمحاربة الارهاب"!! ولهذا الغرض تنشط فرنسا واحتكاراتها لتوسيع سوق بيع الاسلحة الفرنسية الى بلدان الجنوب وغيرها بمليارات اليورو التي تضرب عمليا مشاريع التنمية في هذه البلدان وتعمل على تدجين هذه الانظمة في حظيرة خدمة الاستراتيجية الكونية الفرنسية – الامريكية.
اما القضية الثانية، فهي التركيز على منع الهجرة للفقراء والمحتاجين والعاطلين عن العمل من بلدان الجنوب، خاصة من البلدان الافريقية المغربية الى فرنسا وغيرها من بلدان الاتحاد الاوروبي.
ان طابع مشروع ساركوزي ومدلوله، خاصة فيما يتعلق بطابع تطبيع العلاقات العربية – الاسرائيلية بالمجان وانعدام افق جدي لدفع عجلة التنمية الاقتصادية في بلدان الجنوب المتوسطي من خلال الاتحاد المتوسطي وادخال هذا الاتحاد في ظلام استراتيجية بوش حول "الحرب الكونية ضد الارهاب" قد كان العامل الاساسي في فشل اجتماع وزراء الخارجية العرب العشرة في القاهرة وفي معارضة ومناهضة سوريا وليبيا والجزائر لهذا المشروع الاستعماري الجديد.
د. احمد سعد *
الأثنين 26/5/2008