هارون هاشم رشيد، هذا الشاعر المسكون بالأسى الشفيف وهاجس العودة وعشق
يافا، بعد أن تخطى ثمانين حولا، ما زال ينوب حول بيت زوجته في يافا ويبعث من غربته في القاهرة، قصائده الفيروزية، التي تغنى في مفازات وأصقاع الغربة الفلسطينية قاطبة منها: "سنرجع يوما" و"مع الغرباء".
أنه شاعر الخيمة والبيارة والعودة، تنثال من قصائده مزامير الغربة والحرقة والمعاناة، وإن كانت خاتمة القصيدة عنده تستشرف الفرح والتفاؤلية وتبشر بالعودة.
وهو من أوائل وأكثر الشعراء الذين حملوا المدن والرموز الفلسطينية في قصائدهم خاصة يافا. ولكثرة ما غنى يافا في أشعاره، ظنه بعض الكتاب أنه من مواليد يافا، وهو ابن حارة الزيتون في غزة.
أصدر أكثر من 20 عملا شعريا، وكتب الرواية والمسرحية والدراسة الأدبية.
من أعماله الشعرية: مع الغرباء (القاهرة، 1954)، عودة الغرباء (بيروت، 1956)،
غزة في خط النار (بيروت، 1957)، حتى يعود شعبنا (بيروت، 1965)، سفينة
الغضب (الكويت، 1968)، رسالتان (القاهرة، 1969)، رحلة العاصفة (القاهرة، 1969)، فدائيون (عمان، 1970)، مزامير الأرض والدم (بيروت، 1970)، الرجوع (بيروت، 1977)، مفكرة عاشق (تونس، 1980)، يوميات الصمود والحزن (تونس، 1983)، النقش في الظلام (عمان، 1984)، طيور الجنة (عمان، 1998)، وردة على جبين القدس (القاهرة، 1998)، المبحرون الى يافا (عمان، 2004).
في ديوانه الصادر عن دار مجدلاوي في عمان، "المبحرون الى يافا"، 13 قصيدة حب يافية. وخاتمة الديوان قصيدة كتبها العام 1996 حين أتى مدينة يافا ووقف في حي" العجمي "أمام بيت رفيقة دربه الكاتبة مروة جبر، وقال:
يمد البيت أذرعه
بشوق دافق عرم
يقول حبيبتي ولدت
هنا، كالضوء كالنسم
هنا "يافا" عروس البحر
درته من القدم
هنا "يافا" التي ما مثلها
في الكون،.. في الأمم
هنا "يافا" التي كم
ألهمتني،ألهمت قلمي
هنا "يافا" ويعلو الموج
يعلو، رائع النغم
تعتبر قصيدته "مع الغرباء" التي تغنيها فيروز، المكتوبة عام 1951 والتي تحمل اسم ديوانه الأول (الصادرعام 1954)، من أجمل ما كتب في يافا، لحرارتها المترعة بالدموع السخينة وجمال صورها وصدق مشاعرها الطفولية،حيث يقول فيها على لسان "ليلى اليافية"، التي طوحت بها رياح النكبة، الى مخيم "البريج":
أبي...
قل لي بحق الله
هل نأتي الى يافا؟
فأن خيالها المحبوب
في عيني قد طافا
أندخلها أعزاء
برغم الدهر.. أشرافا؟
أأدخل غرفتي.. قل لي
أأدخلها، بأحلامي؟
وألقاها، وتلقاني!
وتسمع وقع أقدامي!
أأدخلها بهذا القلب؟
هذا المدنف الظامي.
غنت له السيدة فيروز، وفادية كامل، وكارم محمود، ومحمد فوزي.
التقيته في بيته في القاهرة، وكان لنا هذا الحديث.
* من يقرؤك يقرأ يافا الحزينة التي تتغنى بها "ليلى" اللاجئة في مخيم "البريج" هل "ليلى" حقيقية؟ من هي ليلى؟ حدثنا حدث عن ليلى!
رشيد: ليلى فعلا حقيقية، من أحدى الأسر اليافية التي لجأت الى معسكر البريج أبان
النكبة، لقد شاءت الظروف أن أكون أحد المتطوعين في مساعدة اللاجئين.. الناس النازحين الذين يأتون عبر المراكب.. وكانت المدارس والمساجد أماكن اللجوء الأولى، ومن ثم المخيمات. لقد رأيت المأساة بأم عيني، فبعد أن كان هؤلاء الناس يعيشون في بيوتهم وبياراتهم وكرومهم ومدارسهم.. أصبحوا لاجئين في خيام. وكنت من أوائل من دقوا أوتاد هذه الخيام، وكانت أول قصيدة كتبتها بعد العام 1948 تدور حول الخيمة.
حين استقر النازحون في المخيمات والمعسكرات نشأت بيننا زيارات.. وحدث في
احد الأيام أن كان برد شديد، فسمعت طفلة من أحدى الأسر اليافية التي تعيش في مخيم البريج، تنطق بعد أن شعرت بالبرد والغربة "ليش يابا أحنا غربا هونا؟!".
التقطت هذه الكلمة وأوحت لي بالقصيدة. كان يوما ماطرا، وقفت كثيرا على الشارع العام، وكانت القصيدة تعيش معي.. خففت من ملابسي وبدأت أكتب، وكانت "مع الغرباء".
وفي صبيحة اليوم التالي، أرسلتها الى الأديب ألبير أديب محرر "الأديب" البيروتية، وقد نشرها على صفحتين في وسط العدد. ثم قرئت في إذاعة القدس من قبل المذيع ابراهيم السمان. بعده لحنها الأخوان رحباني وغنتها فيروز.
وأجمل ما في القصيدة، المقطع الذي يردده أهالي يافا:
أبي قل لي بحق الله
هل نأتي إلى "يافا"؟
* وليلى هذه ما أخبارها اليوم وأنت من أوائل الشعراء الذين أضاءوا اسم يافا في الشعر العربي المعاصر؟
رشيد: ليلى أصبحت ليلاي، حيثما أذهب أجد ليلى الفلسطينية. أذكر حين كنت في هامبورغ عام 1981، فوجئت بفتاة تتصل بي من برلين، تقول لي: "أنا فتاة يافاوية، ولدت في الغربة.. في السعودية. وأنا أعشق هارون هاشم رشيد شاعر يافا، وقد قرأت لك قصيدة "ليلى".. "مع الغرباء".. وأريد أن آتي برلين لأزورك"، وفعلا جاءت برلين وقضت معي أيام مكوثي هناك.. وهي تحمل الجنسيتين السعودية والألمانية.. وحين ودعتني عائدة الى برلين، اعتذرت وقالت: "لم أجد طريقة في العودة الى فلسطين ويافا بالذات، ألا عن طريق الزواج، من أحد القادمين من الأرض المحتلة. وتصادف أن هناك زميلا يتعلم في ألمانيا، وقد اتفقنا على الزواج، وأهلي سيأتون غدا من السعودية، لحضور عقد القران". هذه ليلى أخرى وكل فتاة من فلسطين هي ليلى.
* أنت أيها الشاعر المتعب، ما زلت تنوب في أشعارك حول يافا وعكا.. وتغني للعودة، ماذا تبقى في ذهنك بعد 60 عاما، هل تستشرف لليلى مستقبلا آخر؟ وهل ما زال الماضي يوجع.. أم أن الحاضر موجع أكثر؟
رشيد: أنا عشت المأساة من اللحظة التي رأيت فيها أهلي يفدون الى مدينة غزة لاجئين، وأول ما وصل اللاجئون نصبنا لهم الخيام. وأنا أدق الوتد لأول خيمة توضع في غزة للاجئين، شعرت بأن هناك خطرا كبيرا على هذه القضية.
تساءلت يومها هل يستطيع هذا الأنسان الذي ترك بيته وبيارته ومعهده ومدرسته وجامعته، أن يستوعب العيش في الخيام؟ وهل يستطيع العمل المشرف في هذه الخيمة؟ هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي. ذهبت الى البيت وكتبت أول قصيدة عن الخيمة، حتى قبل أن أنقل لاجئين الى الخيام، ونشرتها في صحف غزة، ومما جاء فيها :
أخي مهما ادلهم الليل
سوف نطالع الفجرا
ومهما هدنا الفقر
غدا سنحطم الفقرا
أخي والخيمة السوداء
قد أمست لنا قبرا
غدا سنحيلها روضا
ونبني فوقها قصرا
غدا يوم انطلاق الشعب
يوم الوثبة الكبرى
فلسطين التي ذهبت
سترجع مرة أخرى
وهذا البيت الأخير كان في أبرز شارع في مخيم اللاجئين في البريج، وقد أبدع محمد فوزي حين لحنها وغناها. ولا زلت أذكر يوم سجلها في الأذاعة، بحضور الأستاذ محمد حسن الشجاعي، الذي كان يستمع لكل شيء قبل أن يغنى. لقد عانقه الشجاعي، وقال له: "يا محمد، هذه من أخلد ما لحنت في حياتك".
* انت مجبول بالنكبة، بالمخيم، بالمعاناة.. أنت جيل تعمد بالجراح الثخينة.. ولكن الأجيال اليوم، أحفاد ليلى، هل ما زالوا يحملون نفس الحنين، ونفس الحرارة والشوق؟
رشيد: عندما كتبت قصيدة "الخيمة" لم يكن أحد يتصور أن هذه الخيمة ستطلق كل هذه المواكب من المهندسين والعلماء والمقاتلين الأشداء. الأجيال التي جاءت بعدنا، تفوقت علينا. هذه الأجيال تربت على ماذا؟ على هذا الشعر، القبض باليد القوية على الجمر.
لا يمكن ان أنسى يافا وحيفا وعكا، ستجد في ديواني وفي التحليل الذي كتبه الأخوان أجمل الصور عن يافا.. البيارة، الصيادين، الساعة، الشاطئ... يافا التي كتبت عنها فيما مضى، كتبت عنها مرة أخرى، بعد زيارتي الجديدة إليها. وفي ديواني "المبحرون الى يافا" قصيدة كتبتها وأنا أقف أمام بيت زوجتي.. فزوجتي زارت يافا وهي طفلة بمعية خالها وعرفت بيت أهلها، وزارتها حديثا.. لقد طلبت مني زوجتي حين ذهبت الى يافا، في العام 1996، ان أزور العجمي وأقف أمام المسجد.. ثم أعطي ظهري للمسجد واتجه بنظري عندها سأجد أمامي بيتا ضخما أبيض، وهذا البيت الأبيض هو بيت أهلها.. وفعلا عندما وصلت الى هناك، ركض الأخ المقدسي الذي كان معي، بسرعة الى البيت ودق الباب.. فخرج أصحاب البيت.. وحين تحدثنا سألونا: "عاوزين البيت؟".
قلنا لهم: "لا.. حافظوا عليه.. نحن فرحون أنكم ساكنون فيه". حين حدثت النكبة وزوجتي بعد طفلة، رفض والدها الخروج من يافا، فأرسل زوجته وأبناءه من عائلة جبر لاجئين الى غزة.. وبقي هو في يافا، وحين شعر أن نهايته تقترب، أسكن معه أسرة فلسطينية.
* في أشعارك أمور مميزة، منها الصور البحرية مثل الميناء، الشاطئ، النورس، الأمواج، شباك الصيد، وغيرها.. هل هذا نابع من ولعك وحبك لشاطئ يافا.. أم شاطىء وطنك غزة؟!
رشيد: أولا انا من غزة، وغزة على شاطئ البحر. لقد كان والدي يحرص أن يأخذنا الى الشاطئ، حيث نقيم خيمة هناك. لقد عشقنا البحر الى أبعد حد.
وأنا بالذات كنت انام على الرمال أمام الخيمة. وأول ما يشرق الفجر كنت تجدني في المياه قبل كل اهلي. كنت مولعا بصوت البحر، وكنت أنام في الليل على صوت الموج.
إضافة الى ذلك، والدي كان مختار حارة الزيتون، وحارة الزيتون تمتد حتى شاطئ البحر، وكانت لوالدي علاقات حميمة بهؤلاء الناس الذين يسكنون بيوتا قرب البحر، فكنت أعيش ألفة مع البحر، وكنت أتوق دوما الى زيارة البحر. وفي يافا كانت لي علاقة مشابهة مع البحر، ما ان أصل يافا في زيارة أعمامي، حتى نتوجه حالا الى الشاطىء. كنا نقضي معظم وقتنا على الشاطئ، حتى بلوغي سن الرشد، وكانت آخر زيارة لي الى يافا قبل النكبة، في العام 1947، أثناء الاشتباكات.
* ما الذي يشغل الشاعر هارون هاشم رشيد.. هل أخذت حقك من النقاد والأدباء؟
رشيد: نعم، كثيرون كتبوا عني وأجمعوا أني كنت زاهدا في الإعلام والنشر. ومع ذلك أخذت من وطني التكريم اللازم، والذي أنا راض عنه. كرمت في أنحاء الوطن العربي. في السعودية، والأردن، وفي العام 2007 كرمتني صنعاء. وفي بداية العام 2007 كرمت في مسقط، حيث منحت أنا وثلاثة ادباء عرب، من قبل السلطان قابوس، وسام الثقافة والآداب. علاقتي الأساسية مع فلسطين، وقد اخذت من وطني التكريم الذي أنا راض عنه.
* حدثنا عن علاقتك بالجواهري؟
رشيد: إثنان من كبار الشعراء كانا يحبان فلسطين بمثل ما أحب وهما محمد مهدي الجواهري وعمر أبو ريشة. فالجواهري كتب قصيدة رائعة في يافا بعنوان "يافا الجميلة". وكان ضياع فلسطين جرح حياته، كانت فلسطين دائما معه.
في عام 1958 حين دعيت الى مهرجان الشعر العربي في الكويت، علمت انه هناك. وحين عرف أنني أدخل، قرأ قصيدته، وقرأ أيضا في المهرجان نفسه تحية لي، وتحية لفلسطين.
* كيف ترى الشعر الفلسطيني اليوم؟
رشيد: الشعر الفلسطيني الذي يتخلى عن ذكر مدن وقرى وأزهار وأنهار وصفصاف فلسطين لا أعتبره شعرا فلسطينيا، منظوما كان أم منثورا.
الشاعر الفلسطيني مثل المقاتل الفلسطيني،عليه أن يبقى دائما قابضا على الجمر حتى يحرر وطنه. لذا فإنّ شعاري الدائم هو عائدون ثم عائدون.
ومن الناحية الفنية، التفعيلة والموسيقى هي الأساس، وذالك المنثور ليس شعرا. هناك شعراء فلسطينيون واعدون في الداخل والخارج، ولا يمكن لهذه القضية إلاّ أن تخرج براعم جديدة، تتفوق على من قبلها.
* تجربتك السياسية هل أغنت الشعر أم أرقته؟
رشيد: الشيء الذي أعتز به رغم صعوبة المشاكل- لأن العمل في المجال السياسي الفلسطيني من أشق المهام التي توضع على الإنسان إذا كان قابضا على الجمر- هو أنّني لم أتخل عن الكتابة الشعرية، رغم أن كثيرا مما كتبت انشغلت عنه ولم أنشره.
* من يتابع نتاجك يلاحظ أن هناك قطيعة في النشر بين 1958 و1968؟
رشيد: صحيح أنني لم أنشر دواوين في تلك الفترة لكنني لم أتوقف عن الكتابة. كنت أنشر في الصحف، وكتبت عن جميع الأحداث التي مرت. كما كتبت أكثر من ديوان عن حرب لبنان، وكتبت ديوانًا كاملا عن غزة، وديوانًا عن القدس، وديوانًا ومسرحية عن ثورة الحجارة.
* ما هي المهام والوظائف التي أشغلتها؟؟
رشيد: عملت في الحقل السياسي بدءا من 1967 حتى 2005، وتابعت ذلك في العام 2006 بدون غطاء سياسي. لقد كلفت أن أكون مسؤولا عن مكتب منظمة التحرير في القاهرة، وهذا المكتب كان مسؤولا عن الفلسطينيين في مصر. وكلفت بشكل مفاجئ أن أشارك في اجتماعات اللجان الدائمة في جامعة الدول العربية. وحين أصبح للفلسطينيين مندوب دائم أصبحت نائب المندوب الدائم. في العام 1979 انتقلت الى تونس، وفي تونس كلفت أن أكون مسؤولا عن مندوبية فلسطين بدون موظف. إضافة الى ذلك، كلفت من قبل منظمة التحرير، أن أكون المندوب الدائم لفلسطين في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
* هل أنتم شعراء بالجينات.. فأخوك الشاعر علي هارون رشيد؟!
رشيد: هناك من يقول أنها مسألة جينات.أنا كنت أنام على صوت والدي وهو يلقي الشعر. لقد كان والدي حافظا للأشعار القديمة وقصص عنترة وأبي زيد الهلالي.وهو كان شاعر ربابة، يعزف على الربابة، وكل شعره موزون، لذا سكن الشعر في.
أضافة الى ذلك التربية، فأول ما رأيت في البيت دواوين شعر، فأخي الذي يكبرني بـ10 سنوات، كان يخاف أن يأخذني الشعر عن الدراسة.
أما أبنائي فبعيدون عن الشعر، هم في عالم الحاسوب.
كتب وحاور: سمير حاج- عبلين
السبت 24/5/2008