(قصة قصيرة)
ذهبت الارض ادراج الرياح



انحدرت بنا الشاحنة من هضاب القرية العالية نحو الغرب الى خط الافق الازرق في مدى الصورة البديعة التي كشفت قاطعا كبيرا من ابعاد الوطن الشمالية. قطعت الهضاب وها هي تخترق سهولا بنية واسعة خصبة شقتها سكك الجرارات الكبيرة وفتقت اديمها وقلبت عاليها سافلها. بذرت البذور وبقيت عطشانة تنتظر الوسم الاول. اخبرني والدي في رحلة مماثلة سابقا ان هذه السهول حيث كان هدفنا حينها جمع بآلات القش المرصوص التي خلفته وراءها الحصادات الضخمة بعد ان حصدت السنابل وابتلعتها بنهم. خزنها ابي علفا للحيوانات في الشتاء وفرد بعضها فرشة دافئة لحصاننا الرمادي الجميل في لياليه الشتائية الباردة .
قال حينها مشيرا الى مدى قريب انتهى بغابة صغيرة من اشجار الكينا الباسقات التي شابهت من بعيد واحة خضراء وسط مد اصفر من كل صوب خلفه الحصاد " ..اترى من هنا .. نعم من هذا القاطع وحتى تلك الاشجار "مشيرا الى اشجار الكينا" .. هذه ارضنا ملكها جدك عن ابيه وعن جده وعن والد جده .. فلحناها حتى عام المأساة .. اكثر من خمسين دونما من هذه الارض البنية السوداء .. ايه والله "تنهد وابتلع غصة اخرى وتابع" ..حين زرعناها ذرة ضاع بين اعوادها الخضراء الخيال. عندما زرعناها قمحا تمايلت سنابله ورقصت على سيقان طويلة وثخينة وكأنها غصون الرمان. عندما زرعناها بطيخا وصل وزن الواحدة منها عدة ارطال ..كانت حلوة كالشهد وحمراء كالدم حملناها على الجمال وبعناها في القدس وفي بيروت والشام " تابع وقال "هناك بين حومة الاشجار نبعة وافرة المياه تدفقت مياهها العذبة طيلة العام. من غزارتها خلفت حولها مستنقعا كبيرا علت بين مياهه ادغال القصب والحلفا وكثر فيه الهوام والعصافير الصغيرة وسبحت في مياهه العكرة الاسماك الكبيرة والقراميط والسلاحف والضفادع وسرحت حوله قطعان الجواميس التي ملكها فلاحون من القرية في الجهة الاخرى. هدمتها الطائرات السود ورحل عنها السكان عن بكرة ابيهم. لم يبق فيها الا كلاب ضالة وبقايا قطعان الجواميس تلك التي استوحشت وهامت على وجهها .. وما زال بعضها حتى الآن يعيش حياة برية في تلك الادغال بين اعواد القصب والحلفا والتين والعنب البري والعليق واشجار الكينا "
توقف عن الكلام ونظر الى البعيد سابحا في اعماق المشهد الذي رآه لتوه او ذاك الذي حفظت بعضا منه ذاكرة متعبة آتية من خلف هذا الزمن ثم تابع حديثه " لم يبق لنا الا كواشين عثمانية لم تحفظ الارض التي ضاعت وانزلقت
 من ايادينا وكأنها حفنة ماء.. أي والله يا بني ذهبت الارض ادراج الرياح " عندها انفعل واحتد صوته واصبح للحظات حشرجة خانقة. عادت بنا الشاحنة المسرعة نحو الغرب. اختفى السهل كله واختفت اشجار الكينا وسرح فكري مع تلك الجواميس الضائعة. جلست هذه المرة على الاكياس المكدسة في صندوق الشاحنة التي حوت فحما نباتيا وبذور الحمص وعباد الشمس وسمسما اقتناها ابي من فلاحي القرية وباعها في المقاهي ومحامص ومطاعم المدينة الكبيرة. رفعت رأسي من بين الاكياس وتطاير شعري على وقع النسمات الباردة اللاسعة التي هبت من اديم البحر المشرع الى يساري تماما. فاحت رائحة الفحم واختلطت بروائح الحمص وعباد الشمس وبرائحة البحر الطاغية الفريدة بعد ان اصبحنا بمحاذاته تماما لم تفصلنا عنه لا سكة الحديد ومساحات ضيقة من شاطئ رملي ابيض اتسع في اماكن وضاق باخرى حتى غدا خيطا ابيض رفيعا .
علت عن يساري ابراج وهياكل ومواسير حديدية على ارتفاعات واحجام مختلفة. كونت في مجملها شبكة عجيبة غريبة خربطت فضاء تلك الناحية التي غاب معظمه في سحابات الدخان الكثيف الاسود والبني والابيض.
خلف تلك الهياكل بانت خزانات مستديرة كبيرة الوانها غامقة تحت موجات الدخان المتتابعة التي تطايرت في كل مكان وحجبت نور الشمس فوق الشاحنة المسرعة الى الامام. سرعان ما انحرفت عن طريقها المعبد العريض الى مرجة رملية شاحبة ثم توقفت نهائيا عند مجرى ماء اسود لامع آتى من خلف تلك الخزانات مختفيا كما بدا لي لاول وهلة بين نباتات برية واشجار كينا عالية ودفلى مزهرة وصفصاف لامست اوراقه الحزينة وجه الماء الاسود. تعرج المجرى وتقطع بجزر رملية وسخة وبموانع حديدية على شكل جسور وهو في طريقه الى البحر الذي انحسر في تلك البقعة وبدا لي بعيدا. نزل الوالد والسائق والعامل الذي رافقهما وساعد على تحميل اكياس الغلال. ناداني ابي ونزلت من عرشي الطائر ولحقت الرجال الذين ساروا في اتجاه مجرى الماء على بعد امتار قليلة من موقف الشاحنة .
كان الجو خانقا هناك وروائح غريبة لزجة عمت المكان ورأيتها تتجسد بقعا سوداء لزجة على ازهار الدفلى الوردية اللون وعلى اوراق الكينا التي تدلت هنا وهناك ولامست وجه الماء الآسن .
جلسوا ولفوا سجائرهم وبثوا انفاسها الى الجو المتكدر الخانق. جلست بدوري وبحث عن سر ذاك الماء القذر الذي احسست لثقله انه كف عن الجريان نهائيا .
قال ابي لسائقه " اتذكر عندما شربنا واغتسلنا في مياه هذا النهر "
اجابه السائق بعد ان نظر الى مياه النهر الآسنة " نعم اتذكر ...عندما كان هناك نهر ..نعم اذكر يا لها من ايام " .
تابع والدي بصوت جهوري ناظرا نحوي قاصدا لفت انتباهي لما يقوله الرجال. ادرت ظهري الى ذاك المجرى الآسن ولتلك الخزانات ووجهي الساخن اللزج بحث عن نسمات بحرية أتت رغم كل شيء من صفحات الموج البيضاء التي تكسرت متتالية على رمال الشاطئ التي طالما حلمت بالوصول اليه وهاهو مني على مرمى الحجر .
تابع أبي قائلا " ... في شبابنا الغض جلسنا هنا وارتحنا من عناء السفر على الدواب .. شربنا واغتسلنا ..لم تكن تلك الخزانات ولا مصنع التكرير هذا .. سرق الانجليز نفط العراق وكرروه هنا ولوثوا النهر ..لعنة الله عليهم " .
درت برأسي حيث المجرى ورأيت اسماكا فضية تلمع تحت اشعة الشمس تسبح مع التيار في اتجاه البحر. بحلق بي السائق وأمسك كتفي وهزني قائلا ساخرا " لا تنفعل يا بني .. تلك اسماك نافقة تسبح مع التيار .. نعم تسبح مع التيار ". رأيتها جيفا سابحة بلا حول ولا حياة بعد ان اقتربت تماما من حافة المجرى حيث علقت احداها باعشاب الشاطئ الشائكة. كانت رمادية اللون فضية لامعة تجمعت بقع الزيت السود خلف حراشفها وغطى سخام المكان وقاذورات النهر خياشيمها وتجسد بهيكلها المنبسط القذر ملاك الموت بأبشع صوره .
عادت السيارة الى الطريق الرئيس وتابعنا السفر. بعدت مصانع التكرير والخزانات وغابت اعمدة الدخان. غاب النهر ورائحته الزنخة وغابت الاسماك النافقة. اصبحت حيفا لتوها مدينة بيضاء مشرعة على سفح الكرمل الذي غسل رأسه في زرقة البحر وامتد جسده وتلوى نحو مرج ابن عامر .
 عندما رأيت حيفا مشرعة امام الشاحنة المسرعة فاتحة ذراعيها اعترتني حمى سلمى بعد ان بردت اعواما. شلت كياني واخذتني في الحال الى اجواء وابعاد حسبتها ارتحلت الى الابد واصبحت طي النسيان .
ها انا ذا أراها ناعسة الطرف فاردة شعرها الاسود الطويل على اطراف الكرمل في كل الاتجاهات. يا ربي .. ها أنذا ارى زهرة البسباس فاقعة الاصفرار على مفرقها وقد غطت عين الشمس. ها هي وجنتاها وشفتاها ونهداها المتوثبان وانا اضمها الى صدري وارشف رضاب شفتيها في علية بيتنا .
هاهي واقفة على العارضة الخشبية وراء الحصان على تلك العربة المهترئة الذي جمعتني واياها مرة وجسدها البديع الشقي اهتز واهتز على وقع خطوات الحصان .. يا لها من من رحلة عمر ولى ولن يعود. خصلات شعري طارت مع الريح. اصبحنا لتونا نقطة زرقاء في رسم بديع رسمته الطبيعة بأجمل صورها. ازدادت زحمة الطريق كلما تقدمنا الى الامام وعلا الضجيج واختلطت المزامير من السيارات القادمة من كل صوب. غار الناس بين البيوت المفتوحة الشرفات لنسمات البحر. على الحيطان القديمة تعمشقت اعشاب طفيلية داشرة بحثت عن زمن آخر بين الثقوب المختلفة الاحجام الذي خلفها الرصاص. هاهي مئذنة محطمة ونوافذ متداعية تنظر الى النسيان في مد رمادي كئيب. هاهو رف حمام يدور حول ما تبقى من المئذنة. تركتني سلمى وبعدت وتاهت ثانية خلف جدران ذاكرة غدت لي عندها بعيدة في اعماق واد سحيق تعجز عن الوصول اليه حتى نسمات البحر هذه التي مرغت وجهي وشعري وكياني كله. غاب الكرمل وبعد البحر كلما اوغلت الشاحنة في قاع المدينة حيث الحدائق نشفت وذوت وعلتها صفرة الموت. رأيت بيوتا متداعية واخرى وحيدة وحزينة وحده الكرمل ابى الموت ووحده البحر بقي شاهدا على حياة عبرت من هنا وهو يضم الى صدره الواسعة رفوف الحمام الذي غادر عبر لججه الزرقاء الى الضياع الابدي .
هاهي امرأة شابة تشبه جارتنا زهرة تنشر غسيلها تبحث عن اشعة الشمس التي غابت للحظات خلف غيوم رمادية غلفت قاع المدينة. بائع حلوى جر امامه من طريق الشاحنة عربته الصغيرة بصبر وعناد عارضا بضاعته بصوت آت من آخر رمق في الحياة. تجمعوا حوله صبية وبنات بعمر الورد ومضغوا ذكرى ايام حلوة ربما لن تعود ابدا. خففت الشاحنة من سرعتها حتى وقفت نهائيا امام مطعم ارائكه شاحبة ولافتة علتها الاتربة والغبار قرأت بجهد" المطعم الشامي .. مشاوي واسماك على الفحم ". انفتح باب الشاحنة ونزل ابي والعامل من جهة والسائق من الاخرى. خرج من عتم المطعم الخالي من الزبائن في تلك الساعة الصباحية رجل اعتمر كوفيه بيضاء وعقالا آبنوسيا بعمر ابي .. اقتربا وتصافحا وتعانقا. نزلت وعرفني ابي بالحاج رضا صاحب المطعم. شرب بعدها معه القهوة هو وسائقه. عمل عمال كثيرون على تفريغ صندوق الشاحنة .
تهت في قاع المدينة وبحثت بشوق الدنيا كله عن سلمى وكأن الزمن وقف ينتظرني على قارعة هذا الطريق. بحثت بلهفة عنها بين الصبايا العابرات ولم اجدها. فتشت خلف النوافذ وخلف الستائر وعلى مقاعد المقاهي العديدة ولم اجدها ولم ار زهرة البسباس الصفراء. صحت من القلب .. اين انت يا سلمى .. انت بروحي وبقلبي وبابي وامي .. ولم اسمع جوابا. ضاعت صرخاتي في الهباء. سلمى لم تسمعني بعد ان توغلت وتوغلت حتى سمعت صخب الموج ضاربا صخر الشاطئ. رطبني ذاك الرذاذ وسحرني كرضاب شفتي سلمى .
لم تشوقني الهدايا المعروضة ولا صور النساء العاريات ولا الفتيات الغاديات والرائحات ولا بخور ضاربات المندل على قارعة الطريق. لفت نظري فتى تأبط قفة واعتمر قبعة بحار قديمة وقبض على صنارته وغاب في آخر الدهليز صوب البحر. وددت لو كنت مكانه لكنت جلست على صخر كاسر الامواج والقيت صنارتي بين الامواج وانتظرت حتى تأتي سلمى مع زبد البحر. ربما كنت وجدت سمكتي الذهبية التي ضاعت مني الى الابد في قاع البحر. اعتليت الشاحنة من جديد ودارت بي في عالم آخر محشو بالعمارات الشاهقات التي شغلت نوافذها وواجهات عرضها من البلور وخطفت لون الشمس. هناك قاع مدينة سلمى وهنا مدينة حية راقصة على وقع الحان أتت ولا شك من جهة البحر. دارت الشاحنة دورة كبيرة وانغلقت في دائرة كبيرة فيها سفن راسية وحاويات في كل مكان ومكان مختلفة الاحجام والالوان. يا ترى ماذا حوت تلك الحاويات التي باتت في طريقها الى عالم بعيد خلف الامواج؟. ربما قلوب ملتاعة هائمة من قاع المدينة ؟ ربما صناديق من البرتقال الحزين ؟ ربما غابت سلمى في جوف احدها بعيدا في قلب البحر ؟ ربما انتظرتني هناك على الضفة الاخرى خلف بحور سبعة؟
نزل والدي ورجاله ودخلوا في باب حانة على الرصيف. خرج بعد لحظات ابي وبرفقته رجل مسن ذقنه بيضاء لابسا قبعة بحار متآكلة وزي بحارة قديم. اقتربوا من مكاني وقال الوالد مشيرا الى الرجل الغريب " .. الخواجا كريستو صاحب الحان " .
نزلت من صرحي بين الاكياس الباقية وصافحني الخواجا قائلا " اهلا خبيبي ..اهلا .. تفضل " باسما عارضا اسنانا اكلها ملح البحر مادا يده نحوي وعيناه نحو ابي ودعانا الى الدخول. دخلنا عبر باب خشبي قديم قدم البحر الى عتم قاعة اصطفت فيها المقاعد واصطف حولها خلق كثير واختلطت رائحة البحر برائحة الخمر. نفذت رطوبة الامواج ولم تمنعها الحيطان التي غرقت بدورها في خمرة العصور. سمعت لغطا من كل حدب وصوب. عندما خرجنا ارسلت شمس العصر اشعتها على قبة عباس وحدائقها المعلقة التي راوحت بين الارض والسماء على سفح جبل اخضر وكأنه آت من عالم آخر. دارت الشاحنة دورة العودة حول برج الذهب ذاك وحشتني حيفا من جديد وعدت الى البحث عن سلمى من جديد .. انا واثق بأنني سأجدها ثانية ولو مختفية في نسمة من نسائم البحر الذي اودعته كل احلامي واسراري التي لم ابح بها لاحد من قبل عائدا مع الشاحنة الى هضاب القلب التي غدت هناك في الافق الشرقي بعيدة .

(شفاعمرو)

د. فؤاد خطيب
السبت 24/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع