مداواة جروح الضحايا



بعد خروجه من سجنه الطويل لم يدعُ نيلسون مانديلا إلى الانتقام من جلاديه هو شخصيا، ومن منتهكي حقوق بني جلدته من السود في جنوب إفريقيا، إنما دعا إلى الصفح. لكنه قال أيضا: نعم للصفح، لا للنسيان.

 

قريبة من هذه العبارة عبارة أحد المعارضين في بلد أوروبي مكث طويلاً في السجن، تقول: "عفو عام.. لا فقدان للذاكرة".

 

يبدو نيلسون مانديلا بالذات واحدا من المشبعين بالقيم الكونية التي تجعله مليئا بروح التسامح، فهو بعد خروجه من السجن مرفوع الرأس رسم لنفسه هدفا يقضي لا بتفكيك جنوب إفريقيا وإنما بالعمل على إدماج السود فيها، وحين أصبح في موقع السلطة ممثلاً للأغلبية السوداء سعى لإدماج البيض في النظام السياسي الجديد الذي جاء هو على رأسه.

 

لقد أدرك برهافة الثائر وبعد نظره وتكوينه الإنساني المنفتح والواسع الأفق أن العقاب والانتقام يمكن أن يقودا البلاد الى مخاطر كبرى، وإلى جانب هذا التقدير السياسي الصائب أظهر مانديلا نبله الشخصي المثالي الذي فيه شيء من نبل القديسين.

 

برأي جاك دريدا أن الصفح عن أشياء قابلة للصفح عنها ليس هو الصفح بحد ذاته، "فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مقدما". المعضلة تكمن في الصفح عن الأشياء التي لشدة فداحتها لا تحتمل الصفح. ومن هنا تجيء أهمية العبارة المدوية لنيلسون مانديلا: نعم للصفح.. لا للنسيان.

 

أما مواطنه إدغار موران فيرى أن الأمم العظيمة لا تستذكر فقط اللحظات المجيدة في تاريخها، وإنما تستذكر كذلك اللحظات القاتمة والمعيبة، تلك التي يمكن أن ندعوها البقع السود في هذا التاريخ، لا برغبة مازوخية في إعادة تعذيب الذات بتذكر عذاب سابق، وإنما برغبة العظة واستخلاص الدروس لكيلا تنشأ مجددا تلك الظروف التي أنتجت تلك المعاملة المحاطة بكرامة الإنسان.

 

لا تبدو هذه الأفكار مجرد تهويمات نظرية، وإنما تتصل بمعضلات تواجه الكثير من المجتمعات، التي تعبر من مرحلة قمع الدولة وعسفها الى مرحلة التحول نحو الدمقراطية والتعددية السياسية.

 

فالمرحلة السابقة تلقي بكل ثقلها على الحاضر جراء ما ضجّت به من آثام وخطايا بحق الضحايا الذين كانوا معارضين لسطوة الدولة وانتهاكها للحريات العامة والفردية، مما يفرض على الدولة، إن كانت جادة في المضي بالأمور الى الأمام، مداواة جروح الضحايا.

د. حسن مدن
الأربعاء 21/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع