عبر تجلياته الروحانية، وبعيدا عن الأعراف الدبلوماسية المعهودة، وقف الرئيس الأمريكي جريئا كعادته أمام أعضاء الكنيست يوم الخميس الماضي، ليتنبأ بصورة «إسرائيل الآمنة» في المستقبل البعيد. وكغير عادة المنجمين الذين لا تتعدى نبوءاتهم عاما واحدا، خرج الرجل الذي كان سكِّيرا عربيدا ليقدم «نبوءاته»- التي لا شك أنها أتت بعلم مباشر من الرب- في بقاء إسرائيل آمنةً مستقرةً لمدة ستين سنة أخرى، بعد فناء أعدائها من «حماس» و«حزب الله»، وبعد أن تتغير الأنظمة السياسية في كل من سوريا وإيران!
وبغض النظر عن محتوى الخطاب الذي لم يُرضِ الكثيرين- باستثناء من هم داخل حدود إسرائيل- فإن ما أثار انتباهي هو الجرأة غير المعهودة في الخطابات السياسية للنبوءات السياسية من قبل زعيم أكبر دولة في العالم!
وفي الوقت الذي كان يتوقع فيه أن يطأطئ القائد الذي خسر حربيه في أفغانستان والعراق رأسه خجلا، وبدلا من أن يقف، ولو للحظة، عند مأساة الملايين من القتلى والمنكوبين والمشردين الفلسطينيين، الذين لا يزالون ينتظرون نصيبهم من تطبيق الشرعية الدولية والقوانين الدولية، وإنصافهم من قبل الدولة التي سلبت أرضهم وطردت شعبهم، وبنت الجدار العازل المخالف للقوانين الدولية، والتي لا تزال تبني المستوطنات المخالفة للقوانين الدولية باعتراف إدارة بوش ذاتها، بدلا من ذلك كله، استهل الرئيس الثالث والأربعون خطابه «التاريخي» باقتباسات من التلمود والتوراة ليرحب بـ «شعب الله المختار» باللغة العبرية، ليخرج في صورة واعظ توراتي!
بل إن خطاب الزعيم الملهم جاء بأكثر مما توقعه مضيفوه، الأمر الذي أثار حفيظة عددٍ من الوزراء الإسرائيليين الذين أعربوا عن استغرابهم الشديد لما جاء فيه. من ذلك تصريح زعيم حزب «المفدال» اليميني المتطرف الذي قال إنّ «بوش يتحدث مثل أعضاء المفدال وأن حبه اللامتناهي لإسرائيل أثار مشاعري..»، وكذلك ما أعرب عنه عضو الكنيست عن حزب «الليكود» سلفان شالوم بعد استماعه للخطاب من أن «صهيونية بوش تفوق صهيونية عدد من وزراء الحكومة الإسرائيلية»!
ذلك أن «الرؤية الجريئة» لمستقبل إسرائيل- بحسب تعبير الرئيس المتصهين - المبنية على نصوص من الكتب المقدسة، قد أظهرت أمام القاصي والداني الجانب الديني للبروتستانتي الذي تحول حاخاما!
ليس ذلك فحسب، بل إن النبي الجديد بالغ في تبجحه حين رسم صورة مستقبلية أوسع للشرق الأوسط، حيث تنبأ بـ «مستقبل حر ومستقل» في «القاهرة والرياض وبغداد وبيروت»، لتعيش إسرائيل بعد ذلك، «حياةً سرمديةً أبديةً في شرق أوسط بلا مقاومة»!
ولست أدري كنه تحديد هذه العواصم على وجه الخصوص! وما إذا كان الزعيم الرباني يرى أن هذه الدول هي مصدر الخطر المستقبلي على إسرائيل! ولعله من نافل القول إن المبشر التوراتي لا يرى عواصم تلك الدول حرة ومستقلة اليوم! وبناء على ذلك لعله لا يرى حرجا في تغييرها متى سنحت الفرصة.
ولعل تحديد هذه العواصم على وجه الخصوص يعيد إلى الذكريات ما أعلنه القائد السابق لقوات الحلف الاطلسي، الجنرال الأمريكي ويزلي كلارك في كتابه «Winning Modern Wars»، عن الخطة السرية التي أعدها البنتاغون قبل غزو العراق، لتغيير الأنظمة السياسية لستة بلدان في منطقة الشرق الأوسط، شملت الدول التي أشار إليها بوش في خطابه الأخير.
لكن وللحق، فإن نبوءات الرئيس الأمريكي لم تنس شركاء إسرائيل في عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية، حيث أشار إلى أنه سوف تكون للفلسطينيين- الذين لا يعينون الإرهاب- دولتهم، حينما تحتفل إسرائيل بعيد استقلالها المائة والعشرين! وهو الأمر الذي علق عليه صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في الجانب الفلسطيني بقوله «لا ينبغي أن ننتظر ستين سنة أخرى لقيام دولة فلسطينية»!
خطاب بوش- الذي عبّر أعضاء الكنيست عن استحسانهم له بتصفيقهم 19 مرة، ووقوفهم له أربع مرات- لم يثر استياء العرب وحدهم، بل أثار استهجان واستغراب العديد من الصحف الغربية، التي وصفه بعضها بأنه يتحدث بمنطق «حاخام إسرائيلي»، في حين وصف البعض الآخر خطابه بأنه «منحاز» وأن تجاهله للشعب الفلسطيني لا يعين على حل الأزمة الشرق أوسطية.
بدا ذلك الانحياز في أجلى صوره حين قال مخاطبا الإسرائيليين إنّ «شعب إسرائيل قد يتجاوز السبعة ملايين بقليل، ولكن إذا ما حدث هجوم عليكم فإن عددكم ثلاثمائة وسبعة ملايين»، في إشارة واضحة إلى وقوف الشعب الأمريكي بكامله معهم.
بيد أن هذه الرؤية لم تكن مستغربة لمن عرف سياسة بوش في المنطقة منذ توليه الرئاسة. فالرئيس الذي أعلن ذات يوم عزمه على بسط «الفوضى الخلاقة» في جميع أنحاء الشرق الأوسط من أجل حماية إسرائيل، حين قال «إن استراتيجيتنا هي خلق الفوضى وخلق الفراغ لأنه من قلب الفوضى والفراغ يأتي الخير»، لا يتوقع منه غير ذلك!
كما أن هذه الرؤية ليست مستغربة أيضا لمن عرف تاريخ جورج بوش الديني، الذي سبق أن تحول من إنسان كثير السكر، عاق بوالده ويسأله أن ينازله «رجلا لرجل» حين كان أبوه نائب رئيس الولايات المتحدة، إلى أن أصبح رجلا مهووسا بالتدين والتشدد، لدرجة أنه صار يشعر أن الرب يحبه ويكلمه كل يوم!
وبحسب ما جاء في كتاب ستيفن مانسفيلد «عقيدة جورج بوش» فإن الرئيس الأمريكي إنما رشح نفسه للمرة الأولى والثانية بأمر الرب، وأرسل جيوشه إلى أفغانستان والعراق بأمر الرب أيضا، الذي أمره شخصيا ومباشرةً بذلك! من أجل ذلك، ليس غريبا أن يحصل السيد بوش مرةً أخرى على تعليمات مباشرة من الرب لحماية إسرائيل!
ولكن المثير للدهشة هو التغير المفاجئ لشخصية الرجل الذي كان يتلقى التعليمات من الرب، إلى نبي يصدر النبوءات، ربما باسم الرب أيضا!
إذ يبدو أن الرئيس قد ارتقى به الحال من مجرد متلقٍ للتعليمات الربانية إلى مصدر لها باسم الرب، ومن يدري، ربما لو طال به الأمد لفترة ثالثة لربما زعم أنه هو الرب نفسه!
* حقوقي دولي
محمود المبارك
الثلاثاء 20/5/2008